“الفضولية ” عند الإسلاميين والعلمانيين
الفضولي : من يتدخل فيما لا يعنيه . وهو اصطلاحاً هنا : من يبيع ملك غيره بدون إذنه .
والخلاصة : أنه يدخل السوق في حالة من الإرباك والتردد ، فلا هو باع ما هو له ، ونفذ البيع ، ولا هو انصرف عن التجارة ، وتركها تمشي على سننها وتدافعها ، بل باع بيعاً ينتظر إجازة مالكه ، وربما تأخرت الإجازة ، ويتصرف المشتري بالمبيع ، ويدخل الناس في أخذٍ ورد …
ولكن … أين الشاهد هنا ؟
تفضل معي … لقد أخذ نظام الاستبداد – وخاصة النظام العربي البوليسي – الشعوب بعيداً عن ساحة المعركة الحقيقية – وهي تغييره ونزع السلطة من بين أنيابه – إلى معركة بعيدةٍ عن قصوره وكنوزه ، يقتتل فيها خصومه بمعركةٍ مفيدة ومربحة ، ويستطيع التحكم بخيوطها تبريداً وتسخيناً – كلما دعت الحاجة لذلك – هذه المعركة تنشب بين المعارضين عن طريقة نظام الحكم فيما بعد الاستبداد ، وما هي مكانة الدين في الحياة العامة ؟ وما هو حكم الديمقراطية ؟ والمسألة لا تحتاج للتدليل على عنف هذه المعركة، كلما لاحت رياح التغيير في بلدٍ ما ، وكاد أهله يضعون أقدامهم على درجات سلم الحرية …
ولا حاجة للتدليل أيضاً على أن هذا المعركةَ مدعومةٌ ومُذَخَّرَةٌ من النظام المستبد – سواء بشكل مباشر أو غير مباشر- ويزيد سعار هذه المعركة تلك الوصائية المسبقة التي تفترضها النخبة على الشعب ، مُصَادِرَةً منه قراراه المستقبلي في طريقة التحدث عن نفسه .
فَمِنْ “فضوليٍّ” قائلٍ وفاصلٍ – من عنده ومن تلقاء نفسه – بين دين الناس ودولتهم ، دون توكيل له منهم .
ومن “فضولي” قائلٍ وواصلٍ – من عنده – بالطريقة التي سيتعبد بها الناس في السياسيةِ ربَّهُم ، دونَ توكيلٍ لهذا الفضولي منهم .
فالطرفان متفقان على المصادرة المسبقة لرأي صاحب الأمر ، ويتكلمان من منطلق الدفاع عنه دون وكالة سابقة ، ولا إجازة لاحقة .
وقد يكون دَفَعَهُمَا لهذا النيةُ الحسنةُ ، والباعثُ المحمودُ ، والخشيةُ من النَّدامةِ ، أو لماذا تحجر على الناس أن يتكلموا ويقولوا رأيهم ؟
والحقيقة لا أحد ينبغي له أن يحجر على أحد ما يقول ويكتب ، ولكن هناك فرق بين إبداء الرأي من جهة ، وبين إدارة المعركة من جهة أخرى ، فأيام الرأي أيام مديدة ، ولا تتأثر الشعوب باستطالتها ، بعكس إذا ما كان الوضع في معركة مع الاستبداد ، وتحتاج حسماً سريعاً لما يتعلق بها من الكلفة البشرية الهائلة ، وما تحتاج فيما بعد من تضميدٍ للجراح .
لهذا فإن فَتْحَ الإسلاميين والعلمانيين معاركهم الثقافية فيما ينبغي أن يكون عليه المستقبل ، هي معركةٌ تصب في صالح نظام الاستبداد ، وتطيل في عمره .
وبالتالي فلن يكون هناك من دينٍ و لا دولة أصلاً ، حتى يفصل أو يوصل بينهما ، وإنما سيكون الدين مطارداً من قوى التزييف ، وستكون الدولة مخطوفةً من العصابة المستبدة .
وعليه فإن جوهر الشورى التي ينادي بها الإسلاميون هو تمثيلُ مصالحِ الناس في إطار القرار العام ، وهو نفسه جوهر الديمقراطية التي تتيح للشعب أن يحكم نفسه بنفسه .
وحتى ينفذ أهل الشورى ؛ ليستطيعوا مساعدة الناس على تمثيل مصالحهم ، بما فيها المصالح الثقافية والهوياتية . وحتى يستطيع العلمانيون مساعدة الناس على حكم أنفسهم بأنفسهم ، بما في ذلك الفصل بين الدين والدولة ، لو أرادوا .
على كلا الطرفين – لو صدقوا – في ذلك أن يساعدوا في تمكين الناس من الوصول لحكم أنفسهم بأنفسهم ، وليفعلوا ذلك عليهم القيام بما يأتي :
- القطع التام بالتعاقد على تمكين الناس من اختيار من يحكمهم دون وصاية مسبقة ، أو إكراهٍ ضاغط ، أو شروط من نخبةٍ على عامة ، والاجتهاد بطريقة رياضية انتخابية بحتة ، تكفل أن يصل من خلالها من يريد أكثريةُ الناسِ وُصُوْلَه .
- إن دستور البلاد يكتبه الشعبُ عبر جمعيته التأسيسية المنتخبة ، ويكون مُقَتَرحَاً ، يُصَادَقُ عليه بالتصويت الشعبي العام .
- من أراد من الفريقين – وهما ليسا فريقين واضحين – أن يغير في ثقافة الناس ليرفضوا فصل الدين عن الدولة أو يقبلوا ، فليغير بعيداً عن الدولة والجيش والأمن والحكم ، فهذا تغيير لا ينسجم مع ما تقتضيه كرامة الإنسان من تحقق القناعة الذاتية ، وإنما سيكون تغييراً أمنياً ضاغطاً على كرامته .
- القطيعة مع الاستبداد والغلو والتطرف والاستقواء بالعسكر لحسم المعارك الثقافية، فهذا من مهلكات الحياة السياسة ، ومشرعنات القمع والاغتيال السياسي .
طبعاً سيجد كلا الفريقين الشهيّة الكافية للحوار والنقاش ، بل وللصدام ، ولكن ليس هذا هو الحلّ لشعوب مغلوبة مقصوفة مدمَّرة ، يسرح المستبدّ فيها طولاً وعرضاً ، كما قال الكواكبيّ : “المستبدّ يضغط على العقل ، فيفسده ، ويضغط على الدين ، فيفسده ، ويضع كعب رجله في حلوق الملايين ليسكت أنينهم ) .
والحلّ يبدأ من تعاقد سياسيٍّ واجتماعيٍّ عامٍ بين المكوّنات الإسلاميّة ، وبين النخب العلمانيّة … بأن يتنازل كلٌّ منهما عن بعض حمولته الفكريّة والسياسيّة لصالح القاسم المشترك بين الناس وللصالح العامّ الذي فيه مصلحة الشعب، فيجتمع الفريقان على مواجهة الاستبداد ، وحسم معركة الحريّة ، وتحكيم الشعب من قرار السياسة والأمن ، وضمان حقّه في التمثيل السياسيّ لنفسه في دائرة القرار، ضمن عمليّة سياسيّة ، وانتخابات حرّة نزيهة ، ترسم خارطة الأقليّة والأكثريّة السياسيّة ، وليس الأقلية والأكثرية الانتمائية في المجتمع . وبعدها يمكن أن تنطلق مسارات التعاون ، بين المكوّنات في بناءِ وطنٍ واحدٍ حرٍّ قويٍّ كريمٍ … يشعر جميع مواطنيه بالحقوقيّة والمواطنة ذاتها ، دون إقصاء أو تمييز …
وإنّ عقد صفقة سياسيّة بين الإسلاميّين والعلمانيّين ، على أن يتابعوا النضال ضدّ الاستبداد حتّى إسقاطه ، ومن ثمّ تحكيم الشعب من نفسه ، وفق العمليّة الديمقراطيّة ، ليختار قانونه ودستوره ، وطريقة إدارة السلطات ، هو الحلّ الممكن الذي يجمع بين أطياف الثورة ، ويقلّل ساحة الاختلاف .
وما يتبقّى من أمور يقع فيها تفاوت وجهات النظر، تُحَلُّ تحت قبّة البرلمان ، ولجان التشريع ، والاستفتاء الشعبيّ ، وغيره من وسائل الاختيار الحرّ، بلا وصاية ولا ضغط .
إنّ تمكين الاختيار السياسيّ والثقافيّ للمواطن ، هو هدف مشترك بين التصوّر الاسلاميّ الصحيح ، وبين العلمانيّة الحقيقيّة ، الذي يدعم وجود تعاقد سياسيّ طويل الأمد ، بين شعبٍ متصالح على القيم المشتركة .
حسن الدغيم
رئيس حركة نهضة سورية