Search

الانتخابات الرئاسية السورية بين الشرعية والمشروعية

الانتخابات الرئاسية السورية بين الشرعية والمشروعية

 

الكاتب : د. عبد الحميد عكيل العواك .

الاختصاص : دكتوراه في القانون الدستوري .

لا يكفي للسلطة احتكار وسائل القهر المادي حتى تتصف بالشرعية ، كما أنه لا يكفيها أن تطبق القوانين التي تنشئوها حتى تأخذ صفة المشروعية .

وليست كل سلطة تمتلك الشرعية يتولَّد عنها امتلاكها للمشروعية ، والعكس صحيح . إذاً شرعية السلطة ومشروعيتها ، صفتان مختلفتان للسلطة السياسية ، ولا يُوجد تلازم حتمي بين كون للسلطة شرعية ومشروعية في الوقت نفسه ، وذلك لاختلاف المصطَلَحَيْن نظريًا وواقعيًا .

ولأن الانتخاب هو الوسيلة الديمقراطية الوحيدة لإسناد السلطة للحكام ، ويعدُّ ركيزة ودعامة أساسية لكل حكم ديمقراطي سليم ، كونه المرجعية الأساسية في تحديد شرعية السلطة داخل المجتمع .

فإن التساؤل الذي يطرح نفسه : هل الانتخابات الرئاسية في سورية جسدت الشرعية وأعطت المشروعية لمن قام بإجرائها ؟  هذا ما سيدفعنا للتعرف على شرعية الانتخابات ومشروعيتها .

 

الشرعية والانتخابات الرئاسية السورية :

شرعية السلطة تعني فقط استنادها إلى سند قانوني لممارستها ، بمعنى أنّ الحاكم قد تقلَّد وظيفته طبقاً للإجراءات والأوضاع التي نصّ عليها الدستور القائم ، والقوانين المنظمة لهذه الإجراءات .

فإن لم تتبع هذه الإجراءات لم تكن السلطة مستحقة لوصف الشرعية، وبالتالي إرادة السلطة نافذة ، تلزم المحكومين مادامت صادرة وفق النظام الدستوري، وهذه الشرعية هي ما يسمونه الشرعية الشكلية أو القانونية .

إذا كانت الشرعية الديمقراطية تفترض الأصل الشعبي للسلطة ، وحتى لا يكون هذا الأصل مجرد تأكيد لفظي ، فإنه يجب تهيئة الإمكانات العملية لممارسة الشعب للسلطة .

فمنذ زمن بعيد أكَّد علماء اللاهوت والكتاب السياسيون في ظل الأنظمة الملكية المطلقة ، أن الشعب مصدر السلطة ، إلا أن ذلك التأكيد النظري لم يزعزع هذه الأنظمة أو يؤثر فيها ، وعليه لكي تكون الديمقراطية حقيقة ملموسة ، يجب أن تكفل التنظيمات الدستورية إمكانية خضوع ممارسة السلطة إلى الإرادة الشعبية .

وهذا يقودنا إلى البحث والتحليل في النصّ القانوني ، هل كفل خضوع ممارسة السلطة إلى الإرادة الشعبية ؟

لقد ورد النص القانوني الناظم للانتخابات في الدستور السوري لعام 2012م ، وفي القانون رقم ( 5 ) للعام 2014م ، والتعليمات التنفيذية الناظمة له .

والحقيقة القانونية الأولى ، أن مرشح البعث لا يحق له الترشح مطلقاً ؛ لأنه استند إلى نص فاقد لأهم خاصة من خواص القواعد القانونية وهي قاعدة : “العمومية والتجريد” التي يجب أن تتصف بها أي قاعدة قانونية .

والنص الذي نعنيه هو المادة ( 155) التي نصَّت ما يلي : “تنتهي مدة ولاية رئيس الجمهورية الحالي بانقضاء سبع سنوات ميلادية من تاريخ أدائه القسم الدستوري رئيسًا للجمهورية، وله حق الترشح مجددًا لمنصب رئيس الجمهورية ، وتسري عليه أحكام المادة ( 88 ) من هذا الدستور بدءًا من الانتخابات الرئاسية المقبلة” .

لقد وُجِدت هذه المادة لأجل شخص محدد بذاته ففقدت التجريد ، وطُبِّقت وانتهت على شخص محدد بذاته ففقدت العمومية ، هذا الفقدان يؤدي إلى بطلان القاعدة القانونية بطلاناً مطلقاً ، وما بُنِي على باطل فهو باطل .

شرط التزكية الذي نصَّت عليه الفقرة الثالثة من المادة ( 85 ) التي تنص على : “لا يقبل طلب الترشيح إلا إذا كان طالب الترشيح حاصلاً على تأييد خطي لترشيحه من خمسة وثلاثين عضوًا على الأقل من أعضاء مجلس الشعب، ولا يجوز لعضو مجلس الشعب أن يمنح تأييده إلا لمرشح واحد.”

هذا النص بوضعه الراهن يتناقض مع فكرة الانتخابات التنافسية التعددية ، وذلك لأن حزب البعث يشكل أغلبية واسعة ومريحة داخل مجلس الشعب ، وإذا أضفنا له أحزاب الجبهة ، يعني أن المرشحين سيكونون ليس فقط من البعث ، بل ممَّن يعتقد البعثيون أنه لا قدرة لهم على المنافسة الشكلية، وفرص باقي الأحزاب معدومة.

في ظل هذا الشرط لا يمكن أن نكون أمام انتخابات تنافسية وتعددية ؛ لأنه يستبعد الشخصيات المعارضة الحقيقية في الداخل والخارج .

لقد استغلت السلطة الواقعية في دمشق آليتها لوضع القوانين ، فعمدت إلى إبعاد خصومها السياسيين من الترشح ، فقد نصَّ الدستور السوري في الفقرة الخامسة من المادة ( 84 ) على ما يلي : “أن يكون مقيمًا في الجمهورية العربية السورية لمدة لا تقل عن عشر سنوات ، إقامة دائمة ومتصلة عند تقديم طلب الترشيح” .

وهذا النص يُوضع لأول مرة في تاريخ الدساتير السورية ، فهو دخيل على عقيدة الدساتير السورية ، وهو نصّ وُضع لغاية واحدة ، وهي استبعاد جميع الشخصيات المعارضة المقيمة في الخارج من السباق الرئاسي .

هذه الغاية من وضع النص تفقد النص خاصية التجريد ، وتفقد النص أن يكون عاماً لكل السوريين ، وبدل أن يكون النص أداة لتطبيق المساواة صار ملغياً لها بين السوريين .

وحتى تكتمل الصورة في آلية وضع القوانين من قبل سلطة دمشق ، نقف عند الفقرة الأولى من المادة ( 84 ) المتضمنة الحد الأدنى لسن مرشح الرئاسة ، التي حددتها : “أن يكون متماً الأربعين عاماً من عمره” .

هنا يُطرح تساؤل عن مدى الاستخفاف بالمواطن وعدم الاكتراث به ، إذ كيف لدستور 1973م  أن يُعدلَّ بالقانون رقم 9 بتاريخ 11/ 6 /2000م ، الذي ينصُّ على أن من يترشح لمنصب رئاسة الجمهورية يُشترط أن يكون مُتِمّاً لسن الرابعة والثلاثين من عمره ؟!

وذات المنظومة الحاكمة تعيد سنّ الحد الأدنى للمرشح إلى الأربعين ، دون بيان أسباب موجبة لذلك ، لا عند التعديل ولا عند العودة للأصل ، إذ كان يجب على تلك الشرذمة الحاكمة – ولو من باب الحياء أو الاحترام الشكلي – الإبقاء على سن المرشح بالرابعة والثلاثين ، لكن التعامل الفج والوقح والاستهتار بكرامة الناس وخياراتهم هو الدافع وراء تصرفاتهم .

الديمقراطية الليبرالية تعدُّ الانتخاب التنافسي المعيار الأساس لتحديد الطبيعة الديمقراطية للنظام السياسي ، فحين لا توجد انتخابات حرة تنافسية فلا وجود للحرية وبالتالي للديمقراطية .

لقد غيَّب النص القانوني التنافس على الانتخابات ، وعمد إلى إقصاء شريحة من السوريين من حق الترشح ، وغابت النزاهة عنها بالسماح لمرشح البعث بالوصول إلى السلطة بنصٍ فاقد للعمومية والتجريد .

وفشلت محاولة ( النظام ) بأن يُسَوِّق لنفسه الشرعية الديمقراطية ، بل استطاع الآخرون أن يجدوا في هذه الانتخابات استمراراً لسابقاتها ولا تأثير لها ، ولايزال الحاكم في بلادي يُفرض كظاهرة ( طبيعية ) على المحكومين ، كما تُفرَض عليهم عائلاتهم أو أسماؤهم أو مناخ بلادهم .

مشروعية الثورة في مواجهة الانتخابات الرئاسية :

وحتى تُوصَف سلطة ما بالمشروعية ، يجب أن يقبل بها الأفراد ، ويرضوا بالخضوع لها عن طيب خاطر ؛ لأنها تستند إلى مبدأ يمثلونه ويعتقدون فيه ، لذلك فإنّ الحكام يسعون دائماً إلى إقناع المحكومين بأهليتهم للحكم وحقهم فيه ، فالحاكم لا يقنع بأن يُطاع فقط ، بل يجب أن يدان له بالطاعة ، وتشير الوقائع التاريخية إلى أنّ الاستقرار السياسي في مجتمع ما رَهْنٌ بمدى رسوخ هذا الالتزام في النفوس ، وبالتالي فإنّ الحكام بعد أن يعطوا لأنفسهم صفة الشرعية يعملون على إضفاء المشروعية على حكمهم ؛ لأنها الصفة الوحيدة التي تعطي الاستقرار للحكم ، فالرضا أساس السلطة ، وهو وحده يمنح السلطة أساساً متيناً ، و إرادة السلطة يجب أن تتعزز بثقة المحكومين ، والخضوع هو الذي يخلق السلطة ، و ليست السلطة هي التي تخلق الانقياد .

لذلك عملت الثورة السورية على نزع المشروعية عن السلطة ، وأظهرتها بأنها لا تملك المشروعية ؛ لعدم حيازتها على رضا المحكومين .

لقد انحرفت السلطة السورية عن تطلعات ورغبة الجماهير، وبالتالي فإنّها فقدت مبرر وجودها – حتى مع افتراض حيازتها على الشرعية – فلا يكفي أن تكون هناك شرعية تولي السلطة ، بل يجب أن يستمر معها شرعية الأداء الذي يحوز رضا الأفراد وهو ما نسميه المشروعية .

والسلطة السورية فقدت مشروعية الإنجاز ، فقد عمدت إلى التدمير والتهجير ، ومنعت الخدمات عن مواطنيها ، ولم تقدمها حتى لمن يواليها ، وانهار الاقتصاد ، ودخل كثير من السوريين تحت خط الفقر ، فكيف لها أن تدَّعي مشروعية الإنجاز ؟

إنّ رضا المحكومين يُعطى للحكم الذي يجسد قيمهم الحقيقية الذي تتوقع منه أن يحقق آمالهم ورغباتهم ، فإمّا أن يكون غالبية المحكومين مع الحكم أو يكونوا ضده ، وهذا يعني إمّا أن تكون السلطة تملك مشروعية استمرارها أو لا تكون ، وبالتالي فإنّ المحكومين سيتوجهون بثقتهم إلى أيّ سلطة تحقق لتطلعاتهم ؛ ليمنحوها الرضا .

لكن الشعب السوري بإعلانه الثورة أعلن عن بحثه عن سلطة أخرى يمنحها الرضا ، وعند لحظة اندلاع الثورة ، امتلك الثوار المشروعية ، بعد أن أسقطوها عن النظام .

وعليه فإنّ الثورة لا تستند إلى الشرعية ؛ لأنها قامت ضد جميع القوانين الموجودة في الدولة ، وعلى رأسها الدستور ، بل تستند إلى المشروعية ؛ لأنها تعمل على تحقيق أهداف الجماعة .

أما لجهة السلطة السياسية في سورية ، فكانت تعيش أزمة مشروعية منذ بداية الثورة ؛ لأنها لم تكن كفؤة وجائرة ، وهي التي دفعت المجتمع السوري إلى درجة من الوعي ، أجبرته على التمييز والاختيار بين سلطة عادلة وسلطة غير عادلة ، ولأن النظام عجز عن مواجهة أزمة المشروعية واجه الثورة ، في تلك اللحظة بدأ المواطنون بالتوجه بثقتهم إلى أي سلطة قادرة أن تحل محل ( سلطة النظام ) التي لم تحقق المشروعية ، أي توجهت الثورة السورية نحو صياغة مشروعية بديلة تستمد قوتها ليس من ذاتها فحسب ، إنّما من نقيضها ، وهكذا فإن جدلية المشروعية هي في النهاية : عملية تحول بثقة المحكومين من سلطة إلى سلطة .

هذا التحول في البلاد الديمقراطية يتم بشكل هادئ ومتدرج وسلمي عبر صناديق الاقتراع وعبر ثقافة تداول السلطة ، أمّا في دولنا غير الديمقراطية فلا مكان للتبديل ، ولا زمان للتغيير ، والسلطة إن فقدت المشروعية وإن جاءت بشكل غير مشروع ، جاثمة على صدور مواطنيها ، ولا حلّ معها إلا الثورة .

الثورة ليست فعل سلبي يكتفي بعدم طاعة أوامر السلطة ، بل هي فعل إيجابي مواجه ومتحد للسلطة ومقاوم لرغباتها ، فهي ردة فعل الجماعة في مواجهة فعل السلطة ، هذه المقاومة أو رَدَّةُ الفعل هي التي تبحث عن المشروعية في مواجهة سلطة تملك القانون ، المشروعية هنا حكم قِيَمِيٌّ وقانوني .

وعليه لم تكن الانتخابات الرئاسية ، إلا حلقة في سلسلة طويلة لفقدان سلطة النظام لمشروعيتها منذ عام 2011م ، ولن تستطيع استعادتها ولو اجتمع على ذلك أهل الأرض جميعاً.

 

في الختام يقول روسو : “يُخطئ الشعب الإنكليزي تماماً حين يعتقد أنه حر، فهو ليس كذلك إلا من خلال انتخاب أعضاء البرلمان ، وحال انتخابهم يصبح عبداً ، واستعماله لحريته في لحظات قصيرة يبرر تمامًا فقدانه لها” .

لكن الإشكالية يا سيد ( روسو ) أن من شارك في الانتخابات الرئاسية السورية حتى اللحظات القصيرة التي تكلمت عنها لم ينعم بالحرية ، بل كانت أشد حالات العبودية هي  : حين ذهب لانتخاب من قمعه ، وشرد أهله ، ودمَّر وطنه ، ونهب اقتصاده ، سواء رغماً عنه أو بإرادته .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top