Search

مجزرة الغوطة: كيف قايضت أميركا دماء الضحايا بسلاح الأسد الكيماوي

د. وسام الدين العكلة

يعتبر استخدام الأسلحة الكيميائية جريمة حرب، بموجب بروتوكول جنيف، واتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية لعامي 1925 و1997 على التوالي، بالإضافة إلى ذلك هناك وجهة نظر دولية مشتركة مفادها أنه بموجب قواعد القانون الدولي العرفي، فإن أي استخدام لسلاح كيميائي في نزاع مسلح يعد عملاً محظوراً. إلى جانب أن استخدام الغازات الخانقة أو السامة في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية هو جريمة تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، لأنه انتهاك خطير للقوانين والأعراف السارية، وعزز مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هذا الحظر الذي فرضته اتفاقية الأسلحة الكيميائية، بالقرار 1540 لعام 2004، الذي دعا جميع الدول إلى اعتماد تشريعات وطنية لمنع ومعاقبة الأفعال المحظورة بموجب هذه الاتفاقية.

وبالرغم من توثيق الخبراء المختصين أكثر من 300 هجوم بالأسلحة الكيميائية شنّها النظام السوري، إلا أنه لا يزال خارج نطاق المساءلة الجنائية بسبب التجاذبات السياسية بين الأطراف الفاعلة في الملف السوري خاصة ملف استخدام السلاح الكيميائي رغم العديد من المبادرات الدولية التي قادتها الأمم المتحدة بالتعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. وفي هذا الصدد يقول أليكس ويتينغ أستاذ القانون في جامعة هارفرد والمتخصص في قضايا الملاحقة الجنائية الدولية “يبدو أن المساءلة ليست للجميع، ففي 15 شباط/فبراير 2011، بعد اندلاع الاضطرابات في ليبيا، بدأت حكومة معمر القذافي حملة قمع عنيفة ضد المتظاهرين المدنيين، وبعد 11 يوماً فقط، تبنى مجلس الأمن القرار 1970، المتضمن إحالة الوضع في ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية، وفي غضون أشهر، اتهمت المحكمة الجنائية القذافي وابنه ورئيس مخابراته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية”. وبالرغم من الأدلة الكثيرة التي أكدت وقوف النظام السوري وراء العديد من الهجمات الكيميائية، إلا أن مجلس الأمن أُصيب بالشلل ولم يكن قادراً على اتخاذ أية خطوات باتجاه محاسبة الأشخاص المسؤولين عن هذه الهجمات ويرجع السبب في ذلك إلى انقسام الأطراف داخل المجلس إضافة إلى المصالح الجيوسياسية المختلفة في سوريا.

في ليلة 21 آب/أغسطس 2013، وفي تحد واضح وصارخ للمجتمع الدولي وللمعاهدات والأعراف الدولية شن نظام بشار الأسد هجمات واسعة النطاق على منطقتي الغوطة الشرقية والغربية بريف دمشق مستخدماً غاز السارين، ما أدى إلى حدوث مجزرة راح ضحيتها نحو 1500 شخص غالبيتهم من الأطفال والنساء. وأكدت التحليلات اللاحقة للعينات الطبية الحيوية والبيئية التي أجرتها مختبرات منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ونتائج التقرير الذي قدمته بعثة التحقيق التابعة للأمم المتحدة في 13 أيلول/سبتمبر 2013 أن صواريخ أرض – أرض تحمل شحنة من غاز السارين سقطت وانفجرت في عدة مناطق من ريف دمشق. لم يكن حينها من صلاحيات البعثة تحديد الجهة المسؤولة عن هذه الهجمات، لكن المعلومات التي جمعتها أجهزة الاستخبارات الغربية بما فيها وكالة المخابرات المركزية الأميركية وصور الأقمار الصناعية أكدت بما لا يدع مجالاً للشك تورط النظام السوري بهذه الهجمات. وكان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما قد حذر في أيلول/سبتمبر 2012 من أن استخدام السلاح الكيميائي في الصراع الدائر في سوريا سيكون “خطاً أحمر” قد يدفع إدارته إلى تغيير حساباتها تجاه الأزمة في سورية.

مع ذلك وأمام تصاعد الإدانات الدولية لمجزرة الغوطة بدا وكأن الولايات المتحدة بدأت تحضّر للتدخل العسكري في سوريا من خلال توجيه ضربات جوية ضد قوات النظام السوري، وأدلى الرئيس أوباما في 29 آب/أغسطس 2013 ببيان قال فيه “إنه سيسعى للحصول على إذن لاستخدام القوة من الكونغرس لتوجيه ضربة عسكرية محدودة في سوريا، وإنه يؤيد اتخاذ إجراءات محدودة لردع المزيد من استخدام الأسلحة الكيميائية والتمسك بالمعايير الدولية”، كما صوّت مجلس العموم البريطاني ضد دعم العمل العسكري في سوريا.

في هذه الأثناء كشف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في التاسع من أيلول/سبتمبر 2013 عن اقتراح روسي يوافق النظام السوري بموجبه على وضع أسلحته الكيميائية تحت السيطرة الدولية وتفكيكها مقابل عدول الولايات المتحدة عن توجيه ضربات عسكرية ضده ورداً على ذلك قال وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري “إذا قام نظام الأسد بتسليم جميع أسلحته الكيميائية إلى المجتمع الدولي دون تأخير، فيمكن تجنب توجيه ضربة عسكرية”. كما طلب أوباما، من الكونغرس تأجيل التصويت على استخدام القوة بينما يتم اتباع المسار الدبلوماسي الذي اقترحه الروس في مجلس الأمن الدولي. في هذه الأثناء أرسلت وزارة خارجية النظام رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة تفيد بموافقته على انضمام سوريا إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية والامتثال لأحكامها قبل دخولها حيز التنفيذ.

في الرابع عشر من أيلول/سبتمبر 2013 توصل وزير الخارجية الأميركي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف في جنيف إلى اتفاق بشأن خطة تفصيلية لحصر الأسلحة الكيميائية السورية وتفتيشها ومراقبتها وإزالتها. وتطالب الخطة النظام السوري بتقديم إعلان كامل عن مخزونه من الأسلحة الكيميائية في غضون أسبوع، وتتيح وصول منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة إلى جميع مواقع الأسلحة الكيميائية في سوريا. كما تدعو الخطة مفتشي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى إكمال عمليات التفتيش الأولية بحلول تشرين الثاني/نوفمبر 2013 وتدعو إلى تدمير كامل مخزون الأسلحة الكيميائية والعوامل الكيميائية بحلول النصف الأول من عام 2014. وقد حصلت الولايات المتحدة وروسيا على موافقة المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية على الخطة، كما تم التصديق عليها بالقرار 2118 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، الذي حذر النظام السوري في حالة عدم الامتثال لأحكامه، بما في ذلك نقل الأسلحة الكيميائية دون إذن أو استخدامها، فسيتم فرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

وبناء على هذا الصفقة وصل فريق مشترك من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ومسؤولي الأمم المتحدة إلى سوريا في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2013 لبدء تدمير مخزونات ومنشآت الأسلحة الكيماوية في البلاد. كما ساهمت عدد من الدول في هذه العملية، وقدمت الكثير من الموارد والأفراد والمركبات وملايين الدولارات، كما أرسلت واشنطن حاويات شحن بحري وأجهزة تعقب ومركبات مدرعة للمفتشين ومعدات لإزالة التلوث وسفينة شحن مجهزة بأنظمة لمعالجة الكيماويات السامة، وتم نقل المواد الكيميائية السورية بواسطة سفينتين إحداهما نرويجية والأخرى دنماركية من ميناء اللاذقية إلى ميناء “جويا تورو” الإيطالي، وهناك تم نقلها إلى السفينة الحربية الأمريكية “كيب راي” المسؤولة عن تدمير هذه الترسانة في البحر. وفي 30 أيلول/سبتمبر 2014 أعلن الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون انتهاء المهمة بتدمير 600 طن متري من العوامل الكيميائية، معرباً عن امتنانه العميق للمنسقة الخاصة للبعثة التي أشرفت على تدمير ترسانة النظام الكيميائية، سيغريد كاغ، ولجميع موظفي الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وأشار إلى أن البعثة نجحت في تنفيذ عملها في ظل ظروف صعبة ومعقدة للغاية.

هكذا انشغل المجتمع الدولي بتدمير ترسانة النظام الكيميائية، وتجاهل حقوق الضحايا الذين سقطوا في مجزرة الغوطة دون أن يتم التطرق في الصفقة الأميركية – الروسية إلى تعويضهم أو جبر الضرر الذي لحق بهم وذويهم ومحاسبة المسؤولين الذين نفذوا هذه المذبحة، ما شجع النظام على معاودة استخدام الأسلحة الكيميائية في عدة هجمات لاحقة بالرغم من إعلان الأمم المتحدة عن تدمير ترسانته الكيميائية بالكامل نهاية عام 2014.

مع ذلك يبدو أن هناك بارقة أمل تلوح في الأفق لمحاسبة الأشخاص المسؤولين عن هذه المجزرة، إذ قدمت ثلاث منظمات حقوقية دولية شكوى أمام القضاء الفرنسي والألماني والسويدي بشكل متزامن لملاحقة بشار الأسد وشقيقه ماهر وعدد من المسؤولين العسكريين والأمنيين رفيعي المستوى الذين يشتبه بتورطهم في هذه الجريمة، وتعتمد الشكوى على آلاف الأدلة ومقاطع الفيديو وشهادات الشهود، ومن المتوقع البدء بالتحقيقات خلال الفترة المقبلة بناء على مبدأ الولاية القضائية العالمية.

أخيراً، يمكن القول إن الصفقة الأميركية – الروسية كانت كارثية بكل معنى الكلمة، وإنها أغرت النظام وحلفاءه على مواصلة الحرب ضد الشعب السوري وأهالي الغوطة بشكل خاص ضاربين بكل المعاهدات وقواعد القانون الدولي عرض الحائط، كما هجّروهم لاحقاً بالكامل بعد حصار شديد استمر عدة سنوات. وبهذه المناسبة الأليمة لا يسعنا إلا الانحناء لتضحيات أهالي الغوطة والتأكيد على حقهم بالعودة إلى غوطتهم التي هجرهم منها عنوة نظام بشار الأسد وميليشياته الطائفية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top