تخفيض قيمة العُمْلَة المَحَلِّيَّة.. هل يُحفِّز مُؤشِّرات النُّمُوّ الاقتصادي؟ نعم.. ولكن بشروط
في الواقع تعد قضيَّة قيمة العملة من القضايا ذات الاهتمام الواسع مِن قِبَل الأكاديميين والخبراء ومِن قِبَل الأفراد العاديين. فهي قضية أكاديمية تطبيقية. ومن جهة أخرى ترتبط بشكلٍ وثيق بحياة الأفراد. وهو ما يفتح باباً من التساؤلات فيما إذا كانت العُمْلة منخفضة القيمة تُعدّ ميزةً إيجابيَّة للاقتصاد أم سلبيَّة؟
ما الفرق بين تخفيض العملة وانخفاضها؟
قبل كل شيء هناك فارق كبير بين تخفيض قيمة العُمْلَة (Devaluation) وبين انخفاضها. فالأول يعني إقدام الحكومة على خفض سعر الصَّرف “الرسمي” لعملتها المَحَلِّيَّة مقابل العملات الدوليَّة المرجعيَّة (الدولار الأمريكي أو اليورو مثلًا). وهذا يحدث بقرار رسمي صادر عن المؤسسات النقدية في الدولة ممثّلة بالبنك المركزي.
أمَّا انخفاض قيمة العُمْلَة (Depreciation)فهو تراجع قيمة العُمْلَة المَحَلِّيَّة نتيجة ظروف قوى العرض والطلب. عندما يكون سعر الصَّرف خاضعًا لظروف السوق (تعويم العُمْلَة). فالتَّخفيض يكون بقرار رسمي. أمَّا الانخفاض فنتيجة للتفاعل الحر بين العرض والطلب في سوق النقد الأجنبي دون تدخل مباشر من الدولة.
ورغم أنَّ قرار التَّخفيض سيادي. لكن هذا لا يمنع من تدخل الدائنين الدوليين مثل المؤسسات الماليَّة العالميَّة كصندوق النقد والبنك الدوليين. في تحريك سعر الصَّرف. فأحيانًا يمارسون ضغوطًا على حكومات الدول النامية لتخفيض قيمة عملاتها المَحَلِّيَّة بدعوى تشجيع النُّمُوّ وجذب الاستثمارات الأجنبيَّة.
لماذا تلجأ الحكومات إلى تخفيض قيمة العُمْلَة المَحَلِّيَّة؟
في الحقيقة تلجأ الحكومات إلى تخفيض العُمْلَة لإعادة التوازن للموازين التجاريَّة التي تشهد عجزًا كبيرًا. أو للتخفيف من حجم هذا العجز على الأقل. لأن التَّخفيض يجعل فاتورة الاستيراد مكلّفة وستكون السِّلَع المستوردة أغلى على المواطنين فيدفعهم لاقتناء المنتجات المَحَلِّيَّة بدلًا منها.
في حالة إذا حدث إقبال على المنتجات الوطنيَّة فالنتيجة المنطقيَّة تراجع حجم الواردات تدريجيًا وتناقص فاتورتها بالعملات الأجنبيَّة. وبالمقابل ستصبح أسعار السِّلَع المصنّعة محليًا أقل تكلفةً بالنسبة للدُّوَل الأخرى. مما قد يعزّز القدرة التنافسيَّة للمنتجات الوطنيَّة ويرفع بالتالي من حجم صادراتها إلى الخارج.
إذًا قرار الحكومات تخفيض قيمة عملتها المَحَلِّيَّة سيؤدي إلى تناقص الفاتورة الحكوميَّة من الواردات الأجنبيَّة. وفي الوقت نفسه ستتضاعف مُعدَّلات الصادرات الوطنيَّة إلى الخارج بالعملات الأجنبيَّة. وهذا يُقلّص الفارق بين مدفوعات الواردات وبين عائدات الصادرات وبالتالي يعيد للميزان التجاري حالة توازنه.
كما أن من أسباب لجوء الحكومات لتخفيض قيمة عملتها المَحَلِّيَّة أيضًا حرصها على تحفيز الإنتاج الوطني وزيادة النُّمُوّ الاقتصادي. فالعملة المحلية المنخفضة القيمة تُحفِّز الدُّوَل الأخرى على استيراد المنتجات الوطنية نتيجة انخفاض سعرها النسبي. وبالتالي تنتعش صادرات الدولة. وهذا ما يحفّز المنتجين المحليين على الإنتاج، ويحفز رؤوس الأموال الأجنبية على الاستثمار في الدولة.
في الواقع تحفيز الإنتاج الوطني يساعد بدوره المنتجين والمستثمرين المحليين على توسيع نطاق أعمالهم. ولمواكبة النُّمُوّ المستمر وزيادة الإنتاج سيحرصون على تشغيل المزيد من الأيدي العاملة التي ستتوافر لها فُرَص جديدة. أي ستتقلص مشكلة البطالة تدريجيًا من خلال زيادة التوظيف واستغلال الكفاءات المختلفة.
كذلك هناك دافع ثالث لتخفيض قيمة العُمْلَة المَحَلِّيَّة هو تشجيع الاستثمار الأجنبي. فالمستثمر سيستفيد من فارق السعر بين العُمْلَة المَحَلِّيَّة وعملته الأجنبيَّة في إنشاء مشروعات ربحيَّة بأقل تكلفة ممكنة (الأجور ومصروفات التشغيل والتسويق…). ما يشجّعه على المخاطرة بأمواله. لأنه حتى في حالة الفشل لن يخسر كثيرًا.
ما أهم ضوابط تخفيض قيمة العُمْلَة؟
من جهة أخرى حتى يتحقَّق النُّمُوّ الاقتصاديّ وتشجيع الاستثمار الأجنبيّ من خلال تخفيض قيمة العُمْلَة هناك عوامل تحدّد فعاليَّة هذه العلاقة. منها مدى قدرة منظومة الإنتاج الوطني (التكنولوجيا الفنيَّة/ مصادر التمويل الضخم) على توفير سلع جيِّدة مماثلة للمستوردة. أو على الأقل بجودة معقولة وبأسعار تنافسيَّة.
لهذا السبب تتحكم المرونة السعريَّة (تجاوب الطلب على الصادرات والواردات مع تغير الأسعار) في جدوى تخفيض قيمة العُمْلَة. فإذا كانت السِّلَع المستوردة ضعيفة المرونة وتُستهلك بكثرة؛ لأنها لا تصنّع محليًّا أو نتيجةً لجودتها العالية فارتفاع سعرها لا يؤثر على حجم استهلاكها محليًّا. ولا يؤدِّي لانخفاض كبير في الواردات.
على العكس من ذلك حينما تكون المرونة السعريَّة لبعض أهم السِّلَع المُصدَّرة “ضعيفة” بسبب افتقادها مقومات التنافسيَّة غير المرتبطة بالسعر. أو بسبب احتدام المنافسة الدوليَّة عليها. فإن انخفاض أسعار هذه السِّلَع لا يؤثر كثيرًا على حجم استهلاكها في الخارج. ولا يقود بالتالي لارتفاع ملحوظ في فاتورة الصادرات.
بناء على ذلك فإن تخفيض قيمة العُمْلَة قد ينتج عنه ضرر. ففي بعض الدول (كما في المكسيك والأرجنتين) يؤدي لتضخم جامح ناتج عن ارتفاع أسعار الموادّ الضروريَّة (مثل: مصادر الطاقة). أو المواد الأوليَّة المستوردة التي تدخل في صناعات أخرى مَحَلِّيَّة. ومن ثم ارتفاع التضخم أو استمراره على أقل تقدير سيقود للانكماش الاقتصادي.
ومع ذلك فإن ارتفاع أسعار المواد الأوليَّة المستخدَمة في الإنتاج نتيجة تخفيض قيمة العُمْلَة سينعكس آليًا على أسعار المنتجات النهائيَّة بالارتفاع. مما يؤثِّر سلبًا على مُؤشِّر الطلب على هذه السِّلَع بالانكماش. وهذا ما يتسبّب في تراجع المبيعات ووقف الإنتاج وتراجع مُؤشِّرات الاستثمار ودخول الاقتصاد في دورة انكماش.
ما جدوى قرار تخفيض قيمة العُمْلَة؟
في الحقيقة إن جدوى قرار تخفيض قيمة العُمْلَة من عدمه تتحدَّد علميًّا وعمليًّا وفقًا لطبيعة كل اقتصاد وما يميزه عن غيره. من حيث تخصُّصاته الإنتاجيَّة وحدود تجارته الخارجيَّة ومستوى انفتاحه على العالم ومدى اندماجه مع التجارة الدوليَّة.
نتيجة لذلك فإن تخفيض قيمة العُمْلَة بهدف جذب الاستثمارات الأجنبيَّة يتسبَّب في حرب عملات بين الدول الكبرى. تمامًا كما يحدث اليوم بين الصين من جانب والولايات المتحدة وأوروبا من جانب آخر. فبكين تتعمَّد تخفيض قيمة “اليوان” لإغراق العالم بسلعها. وهذا يتسبَّب بضرر بالغ للمنتجين الأوروبيين والأمريكيين.
ولذلك فإن حرب العملات بين دولتين أو أكثر قد تقود لحرب عملات مفتوحة. فمثلًا إذا قرّرت اليابان تخفيض الين فستنخفض أسعار سياراتها مقابل السيارات الألمانيَّة وسترتفع الواردات من السيارات اليابانيَّة. هنا ستضطر ألمانيا لتقديم مميزات سعريَّة غير مباشرة أو خفض “اليورو” للحفاظ على التنافسيَّة.
كذلك فإن خفض ألمانيا قيمة اليورو سيزيد من مبيعات برلين من المعدات الهندسيَّة مثلًا. وبالتالي تنخفض مبيعات الولايات المتحدة المنافس الأبرز لألمانيا في هذا المجال. ولن يكون أمامها في النهاية غير خفض قيمة الدولار لتشجيع الصادرات. وهكذا سيُدخل الاقتصاد العالمي في حرب عملات مفتوحة.