yahyaomar.com/ما-آثار-الحرب-الروسية-الأوكرانية-على-م/
يُعدّ الدولار الأمريكيّ العُمْلَة الأهمّ في العالَم على الإطلاق؛ فهو المهيمن على التجارة الدوليَّة والاحتياطات النقديَّة، ويستمدّ قوّته بناءً على اتفاقيَّات دوليَّة وعلى قوَّة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة سياسياً وعسكرياً واقتصاديّاً، وحالياً يتمّ تداول مستقبل الدولار في ظلّ المُتغيّرات الدوليَّة لا سيَّما الحرب الرُّوسيَّة الأوكرانيَّة، وهو ما يحتمّ دراسة الأثر الفعليّ للحرب على واقع وقوَّة الدولار الأمريكيّ وعلى مستقبله كعملة دوليَّة رئيسة؛ لا سيَّما أنَّ هناك العديد من المُؤشِّرات التي تشير إلى توجُّه بعض الدُّوَل لاستبدل أرصدتها بالدولار بالذهب.
تمَّ إصدار الدولار أوَّل مرَّة عام 1792م، وكان حينها يُعدّ عملة عاديَّة ليس لها أيّ أهميَّة دوليَّة، وفي عام 1900م تمَّ إصدار قاعدة الذهب، والتي تقول بأنَّه لإصدار أيّ عملة لا بد من توافر رصيد يساويها من الذهب لدى المصرف المركزيّ للدولة، وفي هذه الفترة بات للدولار حضور عالميّ لكنَّه حضور عاديّ كأي عملة دوليَّة. لكنَّ النُّقطة الفاصلة في تاريخ الدولار كانت عام 1944م في مؤتمر بريتون وودز، وتمَّ اعتماد نظام نقديّ عالميّ جديد قائم على الدولار، ولم تَعُد العملات الأخرى مرتبطة بالذَّهب، ولكنها مرتبطة بالدولار الأمريكيّ لأنَّه نفسه كان مرتبطًا بالذهب.
بعدها تمَّ إلغاء علاقة الدولار بالذهب عام 1971م بما يُعرَف بصدمة نيكسون نسبةً للرئيس الأمريكيّ ريتشارد نيكسون، وبات سعر صرف الدولار والعُمُلات معوّماً أي خاضعاً لقوى العَرْض والطلب، وحافظ الدولار على هيمنته العالميَّة؛ إذ هو تكريس للقوة الأمريكيَّة اقتصادياً، كما بات وسيلة ضَغْط على الدُّول الأخرى التي ترغب الولايات المتَّحدة بمعاقبتها؛ وفي الوقت الرَّاهن ما يزال الدولار العملة العالميَّة الأهمّ في العالم؛ حيث تحتفظ البنوك المركزيَّة بـ 59% من احتياطاتها بالدّولار الأمريكيّ، وتصل الديون المقوَّمة بالدولار خارج الولايات المتَّحدة إلى 12.6 تريليون دولار، وحجم التبادل التجاريّ بالدولار يبلغ 14 تريليون دولار سنوياً.
فرضت الدُّول الغربيَّة حزمة عقوبات موسَّعة ضد موسكو لدفعها للتراجع عن غزو أوكرانيا، منها تجميد الأرصدة الرُّوسيَّة في بنوك الغرب والمقوّمة بالدولار والتي تقدر بـ 300 مليار دولار، إضافةً لعقوبات أخرى حادَّة، وهو ما دفَع موسكو لإجراءات اقتصاديَّة تهدف لحمايَّة اقتصادها وعملتها من تداعيات هذه العقوبات.
ومِن الملاحظ هنا أنه وبعد العقوبات الغربيَّة القاسيَّة على موسكو وبعد عجزها عن الوصول لاحتياطاتها السياديَّة لدى البنوك الغربيَّة سارعت عدد من الدُّوَل باستبدال جزء من احتياطاتها بالدولار لعملات أخرى، فالصين التي تمتلك أكثر من 3 تريليونات دولار كاحتياط نقديّ تسعى لاستبدال جزء منه بعملات أخرى لحماية نفسها من أيّ عقوبات وخاصَّة تجميد الأرصدة.
دُوَل عديدة تقوم باستبدال الدولار بعُمُلات أخرى أو بالذهب كمصر، ودُوَل أخرى تُخطّط لبيع صادراتها بعُمُلات أخرى كالسعوديَّة، كما أنَّ موسكو بالفعل بدأت بالفعل ببيع الغاز بالروبل، وأوقفت التوريدات للدول التي لم تلتزم بالقرار.
كما تُخطِّط موسكو لسداد ديونها السياديَّة بالروبل، وعلى الرَّغم من انخفاض احتماليَّة قبول الدائنين الروبل إلَّا أنَّه يُشكِّل تحدياً واضحاً لهيمنة الدولار؛ من جهة أخرى فإنَّ القرار الأمريكيّ بتجميد الاحتياطي الرُّوسيّ بالدولار أيضًا كان سبباً مهمّاً وراء تنشيط بنك بريكس والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتيَّة (AIIB)، محاولاتهم للانتقال من نظام اقتصاديّ دوليّ يكون فيه الدولار العملة الاحتياطيَّة الوحيدة إلى سَلَّة عملات كاملة.
في الآونة الأخيرة تسعى العديد من الدُّوَل لتعزيز التبادل التجاريّ من خلال العُمُلات المحليَّة كروسيا وإيران وتركيا والإمارات العربيَّة المتَّحدة، علاوةً على ذلك هناك اتفاقيَّة بين دُوَل البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)؛ تعزّز استخدام عملاتها الوطنيَّة عند التَّداول بدلاً من استخدام الدولار.
أما في القارة الإفريقيَّة بأكملها فقد أصبحت الصين أكبر شريك تجاريّ لإفريقيا، وتعمل الصين الآن على توسيع استخدام العملة الصينيَّة في إفريقيا بدلاً من الدولار الأمريكيّ؛ كلّ هذه المُؤشِّرات تشير إلى ضغوط مرتفعة يتعرَّض لها الدولار.
في حال خسارة الدولار لمكانته الدوليَّة سيُسبِّب تضخماً مفرطاً في الولايات المتَّحدة، فالعُملة الاحتياطيَّة حين تكون ضعيفة ستعود لبلادها، وحينها سيؤدي الارتفاع المفاجئ في المعروض النقديّ لشَلّ الاقتصاد الأمريكيّ، كما ستخسر الولايات المتَّحدة مكانتها كقوَّة عظمى عالميَّة.
ولكن على الرغم من الضغوط المتصاعدة التي يتعرض لها الدولار، لا سيَّما بعد الحرب الرُّوسيَّة الأوكرانيَّة، إلَّا أنَّها لم تصل لمرحلة تُشكّل معها تهديداً فعلياً لمكانته كعملة عالميَّة رئيسة؛ إذ إنَّ مكانة الدولار لا تُعدّ قضيَّة اقتصاديَّة بحتة، بل قضيَّة سياسيَّة أيضاً، فتراجع الدولار يعني تراجع المكانة السياسيَّة للولايات المتَّحدة، وهذا يعني تراجع سيطرتها على العالَم، وبالتأكيد لن تسمح لهذا الأمر بالحدوث بسهولة.
في النهاية إنَّ الولايات المتحدة تُحْكِم قبضتها على المؤسَّسات الدوليَّة الاقتصاديَّة، فلا يمكن تمرير أيّ قرار اقتصاديّ في هذه المُؤسَّسات بدون موافقتها، لذلك وكخلاصة يمكن القول بأنَّ مكانة الدولار قد تتراجع نسبياً، ولكنْ مِن المُستبعَد فقدان مكانته الدوليَّة على الأقل في المدى المنظور؛ فالقرارات الرُّوسيَّة وغيرها من الدُّوَل قد تساهم في حماية اقتصادات هذه الدُّوَل من تَبِعَات العقوبات الغربيَّة وتحديداً الأمريكيَّة، ولكنها لن تتمكَّن من التأثير على مكانة وقوَّة الدولار الأمريكيّ.