تعاني المجتمعات المعاصرة أمراضاً اجتماعية تكاد تفتك بوجودها وتمزقها إلى مجتمعات متناحرة. ولعل أبرز تلك الأمراض مرض “العنصرية” وهو بكل وضوح شعور عام بتفوق سلالة ما على باقي السلالات البشرية. وهو أيضاً تمييز في معاملة جنس ما معاملة تختلف عن معاملة سواه من الأجناس الأخرى.
وقد يأخذ صورة رفض جذري لوجود جنس آخر أو التعايش معه؛ الأمر الذي أدى إلى آثار مباشرة في سلوكيات الفرد. فساد العدوان على الآخرين وشاعت الجريمة وعمّ الحقد والكراهية والظلم. فالعنصرية داء وبيل ومرض خطير يجعل الإنسان أسيراً لواقعه أو مجتمعه دون تمييز بين الصواب والخطأ.
تمنع العنصرية الإنسان من اكتشاف الحقائق والأخذ بها وإن كانت صحيحة وسوية. إذ أن العنصرية داء كفيل بتمزيق المجتمع الواحد وزرع العداوة والبغضاء بين الناس. فهي سلوك يقوم على الفصل بين الناس؛ أو الشعور بالتفوق على الآخرين لوجود صفات خاصة كاللون أو الجنس أو الجاه محروم منها البعض الآخر.
مفهوم العنصرية:
ثمة خلاف بين الباحثين في بيان مفهوم العنصرية وذلك لعدة أسباب أهمها: اختلاف تصوراتهم الفكرية والعقائدية والنفسية والاجتماعية حول العنصرية.
ثانياً:اختلاف تصوراتهم لمشكلات الإنسان السياسية والفكرية والاجتماعية.
وعلى الرغم من ذلك حاولوا النفاذ إلى بواعثها ودوافعها وصفاتها لإيجاد الحلول المناسبة والنافعة للتصدي لهذا المرض الخطير.
مفهوم العنصرية
لقد تعدد مفهوم العنصرية ولقد اخترت أهم التعاريف لها فالمقام لا يحتمل ذكرها كلها:
1_ هي نوع من الاستعلاء النابع من شعور فئة بأنها عنصر سيد، ثم ترجمة هذا الشعور إلى واقع سياسي واجتماعي واقتصادي. “1”
2_ وهنالك من عرفها على أنها اعتقاد بعض الشعوب أنهم أفضل خلق الله وأنهم مخلوقون لخلاص العالم وإصلاحه وهذا التعريف يميل إليه اليهود. “2”
مصادر وصفات مفهوم العنصرية:
1_ الاعتداء على الآخرين :
إن الفكر العنصري القومي السلبي يستهدف الاعتداء على الآخرين وسلب حقوقهم. بل لا يدع مجالاً لغيره من الإيدولوجيات والأفكار والمبادئ كي تعيش وتنمو إلى جانبه.
يقول بديع الزمان النورسي في ذلك: وشأن العنصرية هو الاعتداء، إذ تكبر بابتلاع غيرها وتتوسع على حساب الآخرين. “3”
2_ تجاوز العنصرية الآخرين:
فالعنصرية تتجاوز الآخرين وتبتلعهم والتجاوز هنا هو الظلم وعدم الاعتراف بالآخر وتهميشهم وسلبهم كامل حقوقهم وتفرد العنصري بها.
3_ التصادم مع الآخرين المؤدي إلى الدمار والهلاك:
التصادم مع الآخرين خصيصة من خصائص العنصرية وما حل بالأمم التي اتخذت من العنصرية أسلوباً أو نهجاً هو نتيجة حتمية لا مفر منها.
فالعنصرية السلبية إذن فكرة أو توجه أو اعتقاد يدعو إلى الاعتداء على الآخرين وتجاوز حقوقهم والتصادم معهم المؤدي بدوره إلى الدمار والهلاك. وحقيقة العنصرية هي محاولة الجماعة التي تمتلك القوة والنفوذ إحكام سيطرتها وفرض تميزها على الجماعات المستضعفة ولو تطلب ذلك استخدام العنف والقوة!
أي أنها فكرة تقوم على الفصل بين الناس أو الشعوب بالتفوق على الآخرين.
أهداف العنصرية:
لا شك أن البلاد الأوروبية مصدر الفكر العنصري، والهدف من بث هذا الفكر بين المسلمين هو تمزيقهم إلى قوميات متناثرة حتى تسهل السيطرة عليهم. بل والهدف الرئيس هو ابتلاع الأمة حتى لا يبقى لها وجود أو كيان، وهذا الذي يسعى إليه الغرب.
إذ أن هدف أوربا في بث الفكر العنصري بعث روح التباغض بين عناصر الإسلام أو مكونات الأمة الإسلامية وهذا العداء لأخوة الدين أمر يمس العقيدة وحياة الناس الدنيوية والأخروية. والأصل أن مكونات الأمة أحوج ما تكون إلى الوحدة وذلك بسبب ما حلّ بها من ظلم واحتلال دمر كل مكوناتها.
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله:
إن المجتمعات الغربية أصبحت منذ استقلال شعوبها توجد دولاً عنصرية متشابهة ضد الشرق كله. إذ خطت الفكرة العنصرية في تلك المجتمعات خطاً فاصلاً بين الغرب والشرق أو بين أوربا وبين ما سواها من القارات والأقاليم، وبين الجنس الآري وما سواه من الأجناس.
وعنصرية المجتمع الأوروبي ضد العالم الإسلامي واضحة في القديم والحديث. فالحروب الصليبية في القديم استمرت ما يزيد على قرنين من الزمان. وفي الحديث حاولت الدول الأوروبية وما تزال أن تجد لها مسوغاً للاستيلاء على العالم الإسلامي. “4”
سلبيات العنصرية
وبعد هذه القراءة السريعة لمفهوم العنصرية نجد أنه فكرة تولد الحقد والكراهية بين الشخص العنصري والشخص الذي تمارس عليه العنصرية. حيث تجعل العنصرية الشخص الذي تمارس عليه العنصرية وحيداً منبوذاً بعيداً عن الآخرين.
وتعمل العنصرية على تضييق فكر من يمارسها لاهتمامه بنفسه بعيداً عن الإحساس بالآخرين.
وتتخلص سلبيات العنصرية بما يلي:
على الفرد :
_يتم رفض الشخص الذي يتعرض للعنصرية في كافة الاجتماعات واللقاءات.
_ تجعل الفرد الذي يتعرض للعنصرية شخصا وحيداً منبوذاً يعيش بعيداً عن الآخرين.
_تعمل العنصرية على تضييق فكر من يمارسها لاهتمامه بنفسه بعيداً عن الإحساس بالآخرين.
على المجتمع:
_تجعل العنصرية المجتمع مفككاً غير مترابط.
_ تولّد العنصرية النزاعات بين أفراد المجتمع.
_ تخلق العنصرية جواً من الحقد والكراهية بين أبنائها.
_تخلق العنصرية أجواءً يسودها الخوف والكبت وعدم الاستقرار.
مواجهة العنصرية:
يقرر الإسلام أن أصل الناس واحد وأنهم كأسنان المشط لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى وأن الحق سبحانه وتعالى خلق الإنسان سوياً مكرماً وصوره فأحسن صورته.
يقول عليه الصلاة والسلام: إنَّ اللهَ قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليةِ وفخرَها بالآباءِ , مؤمنٌ تقيٌّ , وفاجرٌ شقيٌّ , أنتم بنو آدمَ , وآدم من تراب, لَيَدَعَنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوامٍ , إنما هم فحمٌ من فحْمِ جهنمَ , أو لَيكونُنَّ أهونَ على اللهِ من الجِعْلَانِ التي تدفعُ بأنفْها النَّتِنَ “5”
ولقد وجه الإسلام إلى تقويض الأفكار والمعتقدات الباطلة مبتدئاً بالوثنية منتهياً بالعنصرية والقبلية التي كانتا سبباً يحول بين الناس وبين دخولهم الإسلام. إذن موقف الإسلام واضح من العنصرية فالإسلام دين التسوية المطلقة بين الناس، ودين كرامة الإنسانية، ودين الرفق بالرقيق وتحريرهم.
وأما المواجهة على الصعيد القانوني فقد سنّت المنظمات الدولية قوانيناً تجرّم الممارسات العنصرية في عام 1965م إذ ينص القانون على نبذ ومكافحة كافة أشكال العنصرية وأبرز ما جاء فيه:
يقع النضال ضد العنصرية في صميم عملنا. تقدّم مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان دعمًا مكثفًا لجميع آليات الأمم المتّحدة التي تكافح العنصرية. وتتعاون معها لترجمة إعلان وبرنامج عمل ديربان على أرض الواقع.
كما نعمل على تنسيق برنامج الأنشطة لتنفيذ العقد الدولي للمنحدرين من أصل أفريقي.
ولا شك فإن لتأسيس المنظمات والجمعيات المختصة في مكافحة التعصب العنصري دوراً مهمـاً في نشر ثقافة المجتمع الواحد ولقد تم تأسيس أولى هذه المنظمات في المجتمعات المعاصرة قبل أشهر تحت اسم ” متحدون ضد التعصب الطائفي والعنصري”
وتهدف هذه المنظمة للحد من الممارسات الطائفية والعنصرية في المجتمعات العربية والإسلامية. وتقوم على نشر أفكار تدعو للإخاء والوحدة بين أبناء الأمة. حيث شاركت هذه المنظّمة في العديد من الأعمال ضد العنصرية التي تمارس على اللاجئين السوريين في تركيا ولبنان وغيرها، إذ سجلت المنظمات الحقوقية مئات الممارسات العنصرية على اللاجئين الذين يعتبروا الحلقة الأضعف في المجتمعات الوافدين إليها هرباً من الظلم والقتل والقمع..
وأخيراً:
فإن العنصرية تشوه أخلاقي وثقافي تجعل صاحبه ينسب لنفسه أو جماعته فضائل ليست له. وينسب لغيره نقائص ليست فيه، ولا تنبع التفرقة العنصرية من لون البشرة بل من العقل البشري. وبالتالي فإن الحل للتمييز العنصري والنفور من الآخر وسائر مظاهر عدم المساواة ينبغي، أولاً وقبل كل شيء. أن تعالج الأوهام العقلية التي أفرزت مفاهيم زائفة، على مر آلاف السنين، عن تفوق جنس على آخر من الأجناس البشرية.
المصادر والمراجع:
1_ التفرقة العنصرية في أفريقية، صلاح بدير ص14
2_ المرجع نفسه
3_ كليات رسائل النور، النورسي ص143
4_ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين أبو الحسن الندوي ص212 5 رواه أبو داود، سنن أبي داود، كتاب الأدب، ج4 ص492
بقلم: بلال محمد الشيخ /كاتب سياسي