حوارات الهوية الوطنية السورية في ظل اشتباك الأيديولوجيا وتصورات المستقبل

 

مركز مقاربات للتنمية السياسية يقابل الدكتور برهان غليون بعدد من الأسئلة الهامة حول “الهوية الوطنية السورية في ظل اشتباك الأيديولوجيا وتصورات المستقبل” ضيفاً كريماً على موقعه الالكتروني.

والدكتور برهان، هو مفكر سوري وأستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون بالعاصمة الفرنسية باريس ورئيس المجلس الوطني السوري السابق.

تحية طيبة لكم دكتور برهان ونرجو أن تكونوا بخير وعافية وبعد:

تعرّف الهوية بأنها مزيج من الخصائص الاجتماعية والثقافية التي يتقاسمها الأفراد ويمكن على أساسها التمييز بين مجموعة وأخرى.

ولأهمية هذا الموضوع وخاصة في ظل التحولات التي يشهدها المجتمع السوري بعد الثورة، وكثرة الحديث حول الهوية الوطنية ومحدداتها وخصائص تشكلها، كان لابد من الإجابة على كثير من الأسئلة ممن خبرَ المجتمع ودرس كينونته وعرف خصائصه.

السؤال الأول:

ماهي محدّدات الهوية الوطنية السورية بعد أكثر من عشر سنوات من الثورة السورية؟

برهان غليون:

الوطنية مصطلح سياسي حديث نجَم عن تحول البلاد من ممالك إلى أوطان. فهي تعبر عن طبيعة العلاقة الجديدة التي أصبحت تربط الأفراد بالأرض (الإقليم) والشعب، والدولة، وتعكس طبيعة الولاء الذي تقوم عليه الحياة السياسية للوطن لا للزعيم او الأسرة المالكة أو العشيرة. وتنمو الوطنية، ومشاعر الانتماء للوطن عند الفرد، وتصبح هوية أو رابطة تضاف إلى الروابط الثقافية (القومية) أو الدينية، وليست بديلة لها بمقدار ما يصبح الوطن موطن حقوق مدنية وسياسية جديدة وضامن لها وفي مقدمتها الحق في الأمن والحياة والقضاء العادل، وفي المساواة والمشاركة السياسية في القرارات العمومية الذي يتجسد في حق الانتخاب والترشح لمناصب المسؤولية العمومية، وفي الحريات الأساسية من حرية الرأي وحرية الاعتقاد الديني، وفي الحق بالرعاية وتحصيل أسباب المعيشة وواجب الدولة في تأمين فرص العمل وتقديم الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وغيرهما مما سمي حقوق المواطن وحقوق الإنسان.

في المقابل تعني الهوية الثقافية الانتماء لجماعة ثقافية غالباً ما تكون أكثر انتشاراً من حدود الدولة، وتعبر عن وجود شعوب يشترك أفرادها في اللغة والعادات والتقاليد والأعراف، وتتشكل عبر التاريخ مع الدول أو من دونها. أما الدولة والهوية الوطنية المرتبطة بها فهي صناعة واعية ومرادة تبدأ بتأسيس الدولة ذاتها من قبل جماعة أو شعب أو أي قوة منظمة، وتثبيت حدودها وإقامة نظام سياسي وقانوني خاص بها. وفي العهود القديمة كانت الأسرة المالكة، ورموزها المؤسسين من السلاطين أو الفاتحين أو الأباطرة، هم الذين يعطون الهوية السياسية للدولة. فتسمى الدولة باسم الأسرة أو العشيرة أو القبيلة التي تؤسسها.

لكن العصر الحديث شهد فصل الدولة عن الأسرة الحاكمة بمقدار ما نزع السيادة عنها ووضعها في الشعب، فصارت هوية الدولة وطنية، أي تعبر عن الجماعة التي تعيش فيها وتستوطن أرضها وتتمتع بالحقوق السياسية التي ترتبط بها وتؤدي الواجبات المطلوبة منها. وارتبط اسمها بشكل أكبر بالإقليم. لم نعد نتحدث في عصرنا عن دولة أموية، أو عباسية، أو مملوكية، أو أيوبية، إنما عن دول وطنية أمريكية أو فرنسية أو صينية إلخ.  والدول التي لا تزال تسمى باسم الأسر المالكة تعكس استمرار منطق النظم القديمة أو تطمح إلى تحويل الدول الحديثة إلى مملكة وراثية.

 

السؤال الثاني:

هل فعلاً الهوية الوطنية السورية متخيلة، وكانت مجرد شعار ناتج عن سلطة استبداد وحكم مركزي؟

غليون:

كل الهويات متخيلة، أي مبنية في الوعي. حتى لو كان لها حامل مادي واضح. فلا يمكن أن أكون سورياً أو عربياً أو مصرياً إن لم أتمثل في وعيي وخيالي وذاكرتي هذا الواقع. وإذا عجزت عن تمثله، أو تمثلته بطريقة خاطئة أو رفضته لصالح تبني هوية أخرى، تزول الهوية الأصلية وربما تولد أشكالاً مختلفة من الهوية المأزومة أو الضعيفة أو الجديدة أو يحصل التنكر للهوية وزوال أي التزامات أخلاقية أو قانونية أو سياسية تجاهها.

لكن هذا التخيل والوعي بالهوية الوطنية ليس بريئاً ولا معلقاً بالفراغ. إنه مرتبط كما ذكرت بنجاح الدولة في ضمان حقوق الأفراد المادية والسياسية والاجتماعية، المرتبطة باسمها ومفهومها. فهو أصل ولاء الأفراد لها وتمسكهم باستقلالها وتضحيتهم من أجلها والتماهي معها. وبالعكس كلما غابت هذه الحقوق أو انتهكت ضعف الولاء أو زال، وربما أدى إلى ثورة الناس عليها وإعادة بناء دولة أكثر قدرة على تحقيق تطلعاتهم الإنسانية للحرية والعدالة والمساواة والحياة الكريمة. ولا يغير من هذه النتائج كون الحاكمين والمحكومين من قومية واحدة أو دين واحد.

لذلك لم تكن الوطنية في سورية شعاراً فرضته سلطة استبداد وحكم مركزي، بل بالعكس ان الاستبداد والحكم التعسفي وليس المركزي، وإعدام مبدأ الحقوق الوطنية السياسية والمدنية الإنسانية، هم السبب في تقويض الوطنية السورية الناشئة وعودة الوعي الطائفي والأقوامي إلى الواجهة كتعويض عنها.

السؤال الثالث:

ما مدى تأثير تقسيمات السيطرة الحالية في سوريا على شكل الهوية الوطنية؟

برهان:

هذه التقسيمات التي نشهدها بين مناطق متعددة في سورية هي التجسيد المباشر لما ذكرته للتو، أي للأزمة في الهوية الوطنية التي فرغها نظام الأسد من مضمونها، ليحول سورية من ملكية عامة لجميع مواطنيها وشعبها إلى ملكية خاصة بأسرة على طريقة الملوك الإقطاعيين القرسطويين، وليفتت الشعب ويستطيع التعامل معه كطوائف ومناطق وقبائل وعشائر لا كأمة أو رابطة وهوية سياسية موحدة.

هكذا قوض الاستبداد الأعمى، وانعدام أي قانون أو حياة سياسية الهوية الوطنية وقطع الطريق على نموها ونضوجها، ليحل محلها هوية سياسية من النوع الفاشي التي تتجلى في تنظيم عبادة الفرد الذي يصبح التعلق به وتبجيله والتسليم المطلق له بالقرار علامة الوطنية المزيفة ومقبرتها في الوقت نفسه. وقد أنهت ثورة 2011 هذه العبادة وحطمتها ولو أن بعض الدول لا تزال تصر على الاحتفاظ بأنقاضها حتى لا تسمح بتخلّق وطنية سورية جديدة من رحم الثورة وتضحياتها. وهذا ما يجعل السوريين يشعرون عن حق بالفراغ السياسي وانعدام الهوية معلقين في الفضاء ويبحث كل فرد منهم عن قشة يتعلق بها، من حضارات سابقة أو زعامات أو إبداعات وأحداث تاريخية ماضية. لكن هذه مرحلة انتقالية ومؤقتة وصعبة معا لأنها تفتقر لأي مبدأ أو رؤية واحدة ومشتركة يجتمع الأفراد عليها ومن حولها. ومهمة المثقفين والسياسيين الجدد الذين خرجوا من أحشاء الثورة وتضحيات أبنائها أن يعبّدوا الطريق إليها.

السؤال الرابع:

الهوية هي حالة جمعية تتكون وتترسخ عبر أجيال خلال امتدادات زمنية مختلفة والملاحظ أنه نادراً ما تمّ تذويب الهويات الفردية والجما عاتية في هوية عامة شاملة فهل يعتبر ذلك مؤشراً على حالة إيجابية أم سلبية في سياق حصانة وتماسك المجتمعات، وما رأيكم في كلتا الحالتين؟

غليون:

يا للأسف لا يزال الفكر السياسي في بلادنا معلقاً بنماذج نظرية تاريخية “بدائية” لتشكيل القومية لم يعد لها قيمة اليوم لا في تفسير الواقع ولا في توجيه الممارسة السياسية المنتجة لبناء دولة وجماعة وطنية. فهو لا يزال يتمسك بفرضية أن وحدة الشعب ترتبط بتجاوز تعدديته الثقافية والقومية وفرض التجانس على الجميع من خلال محو الثقافات وإبادة القوميات الصغيرة المختلفة عن الأغلبية أو حتى من خلال إقصاء الأكثرية وتشتيتها. هذا من مخلفات ثورة 1798الفرنسية وما أنتجته من أفكار وما مارسته من عنف استثنائي لصهر الشعوب واللغات في بوتقة فرنسا واحدة ومتماثلة.

والحال لم يعد تحقيق مثل هذا التجانس، من دون حروب إبادة وتطهير في عصر تحرر الشعوب وتعميم مبادئ حقوق الإنسان، مستحيلاً فحسب، وإنما ولد خلال القرن الماضي إدراك قوي بأن التنوع والتعدد ليس نقمة على الدول والمجتمعات وإنما بالعكس نعمة لها، لأنه مصدر إخصاب وإبداع وانفتاح أكبر على المجتمعات الأخرى وعلى العالمية. وتظهر الأقليات القادمة من بلدان بعيدة درجة أعلى من الإرادة والاستعداد لبذل الجهد للتفوق في البلدان الصناعية التي تستقطبها. ويكفي ان نذكر أن المرشحين الثلاثة الأبرز لخلافة رئيس الوزراء بوريس جونسن هم جميعا من أصول مهاجرة وأديان غير مسيحية. وأكثر فأكثر يدرك المفكرون والسياسيون أنه لا يمكن ولا يحق للسلطة العمومية أن تمحو الهوية الثقافية لأحد، بل أن تمارس الانحياز ضدها، وبالتالي ضرورة التمييز بين حقوق الجماعات الثقافية، أقلية كانت ام أكثرية، والهوية الوطنية أي حقوق الدولة عليهم ويصبح من البدهي أن الدولة لم تعد قادرة على كسب ولاء الأفراد، حتى لو كانوا من مؤسسيها، إلا بمقدار ما تحترم ثقافاتهم وحرياتهم الفكرية والاعتقادية. مما يعني انه لا يوجد تناقض بين التعددية الثقافية والولاءات الوطنية، بل إن قوة الثانية مشروطة باحترام الأولى.

السؤال الخامس:

ما هو الضامن للحفاظ على الهويات الدينية _ونخص هنا الدول الإسلامية عموماً والعربية خصوصاً _ من الذوبان في هويات يسميها أصحابها بالكونية، وهي تستهدف الثوابت العقدية والثقافية لهذه البلدان؟

غليون:

ليس هناك ضامن لأي عقيدة دينية أو فلسفية في عصرنا إلا نتائج عملها وسلوك معتنقيها وما تقدمه للفرد من إمكانيات الانسجام مع الآخر داخل المجتمع والمدنية والعالم الموحد الراهن.

أما العقيدة التي تراهن لبقائها على الدولة، أي على العنف والقسر، للحفاظ على نفسها فسوف تختفي بأسرع بكثير من تلك التي تترك لمعتنقيها أن يدافعوا عنها بسلوكهم وأخلاقهم وأعمالهم الفاضلة. وهذا ينطبق على العقائد الدينية والفلسفية على حد سواء. والسبب أن الاعتماد على العنف والقسر والإكراه يقضي على شرعية العقيدة، القائمة أساساً على الإيمان والاقتناع والتسليم. فهو يبرز ضعف الأسس العاطفية والعقلية التي تقوم عليها.

وأكبر دليل على ذلك مآل الشيوعية التي شهدت انتشاراً واسع النطاق خلال أكثر من قرن، ثم ما لبثت بعد أن تماهت مع سلطة سوفييتية قمعية ان دخلت في متاهات لم تخرج منها إلا مشوهة ومحطمة، وانتهت مع القضاء على الإمبراطورية التي وظفتها في خدمة أغراضها السياسية والاستراتيجية واغتالت روحها وخانت غاياتها. وهذا هو الحال بالنسبة للعقيدة الدينية التي أصبحت بعد الثورة الإيرانية عام 1979 عقيدة السلطة الحاكمة واستخدمت من أجل تبرير السياسات القمعية الداخلية والتغطية على سياسات التوسع الاستعمارية التي نقلت الشرق الأوسط إلى حقبة الحروب الدينية والطائفية القرسطوية، وجعلت أبناء الثورة الإيرانيين أنفسهم يلفظونها. أما البعث الذي حمل في البداية رسالة قومية وبشر بعدالة اجتماعية فقد أصبح نظيراً للفاشية وغطاءً لسياسات مافيوية وطائفية قل نظيرها. وفي جميع هذه الحالات تحولت أسطورة حماية الدين/العقيدة من قبل الدولة إلى استخدام الدين لحماية السلطة أو النخب الحاكمة وتأبيدها ومن ثم تعميم الفساد والانحطاط والخراب الديني والأخلاقي معاً.

لن تنتصر وتحافظ على نفسها في المستقبل إلا تلك الأديان التي تقبل المنافسة على ساحة الرأي الحر والتعددية الدينية بما تقدمه من إضافة إلى ثقافة الإحسان والحكمة والتضامن والهداية النفسية والروحية للأفراد بصرف النظر عن مواقف الدول وسياساتها وباستقلال عنها. وللنجاح في هذه المنافسة الكبرى وفي تحدي التعددية الدينية في عالم أصبح مفتوحاً على مصراعيه أمام تبادل الأفكار والصور والعواطف والأخبار والمعلومات، لا يوجد أمل لديانة في البقاء إلا بمقدار ما يخرج مفكروها ورجال دينها من عباءة التقليد والمعرفة الوعظية الجامدة ويرموا بأنفسهم قبل غيرهم في لجة المعرفة الحية المتسائلة والمتعددة المشارب ويخوضوا معركة الحوار والنقاش وإثبات الوجود مع أندادهم من مفكري العقائد والديانات الأخرى. استمرار المسلمين المؤمنين على الرهان على وصاية الدولة للحفاظ على العقيدة، أو تقوقع علماء الدين على أنفسهم ومعارفهم القديمة، والاحتماء بلباسهم التقليدي لنيل الوجاهة والاحترام، لا يفيد الإسلام ولن يساعده على الانتصار في معركته المتفجرة مع الحداثة وفيها، لا في بلدان المسلمين ولا في العالم المفتوح. ينبغي أن يتحرر المسلمون في نظري من الارتهان في حفظ عقيدتهم الدينية أو غيرها للدولة ويعتمدوا على جهودهم الحية الخاصة ونشاط واجتهاد وإبداعات وعمل الإحسان لمليار ونصف من المؤمنين لا على بعض الطغاة المنافقين. وهذه دعوة أيضاً لتحرر رجال الدين المسلمين، الذين أصبحوا يشكلون طبقة خاصة معزولة عن مجرى النقاشات العالمية، من مخاوفهم والانفتاح على المعارف الإنسانية المتجددة وعدم الانكفاء على معارفهم واهتماماتهم وعلومهم وإشكاليات تفكيرهم القديمة الخاصة. باختصار لن يوجد الإسلام في المستقبل إلا بمقدار ما يستوعب قيم العالم الحديث ويطورها ويلونها بخبرته وأذواقه. وبالتأكيد ليس بالتناقض معها أو حتى تجاهلها، وفي مقدمها قيم الحرية والعدالة والمساواة والسعادة الإنسانية. وهذا هو التحدي الأول الموجه لرجال الدين المسلمين. أما جمهور المؤمنين من المسلمين فهو يتعلم السباحة في محيط المعرفة والمدنية الحديثة من تلقاء نفسه، ولا يخشى عليه منها، ولا يخاف على ولائه وإيمانه من شيء.

السؤال السادس:

شهد العالَم اليوم _ حسب المهتمّين _تحولاً هوياتي هائلاً، فهناك هويات تزول وأخرى تتشكل،

فهل يرى الدكتور برهان أن هوية شرقية محافظة قد تكون هي الحل لمواجهة هوية غربية تنضوي على حالة انهيار قيمي هي في طور التمدد السريع الآن؟

غليون:

في ميدان الهوية والثقافة والقيم والأفكار لا ينبغي الاعتداد بالثبات أبداً. بالعكس الثابت هو المهدد بالزوال، والمتغير أو المستعد للتغير هو الذي يبقى لأنه يملك ملكات التكيف مع الواقع المتجدد المادي والاجتماعي والفكري أيضاً. ومن لا يحسن التغير مع واقع عالمي متغير في كل أبعاده ومستوياته يتجمد وينحط ويموت لأنه ينقطع عن التاريخ والواقع. فالهوية ليست ماهية، أي كتلة صماء من القيم والأفكار والعادات التي ينبغي الحفاظ عليها لنستمر في الوجود كعرب أو مسلمين. إنما هي تركيبة حية ومتعددة الابعاد ومتغيره أيضا بالرغم من محافظتها على ملامح أساسية توحي باستمرارها. فالماء الراكد الذي لا يتجدد يتحول إلى مستنقع. والتجدد يعني إعادة النظر في المعاني والدلالات التي نضفيها على الوقائع والأفعال والأحداث، واستيعاب المعارف والعواطف الجديدة التي تنشأ في سياق تجاربنا المستمرة التي لا تشبه بأي شيء التجارب التاريخية أو الاجتماعية أو السياسية والاستراتيجية التي عاشها جيل المسلمين الأوائل. ولن نبقى مسلمين وعرباً إلا بمقدار ما ننجح في جعل الإطار الذي ننظر منه للعالم موائماً للإطار الذي تطرح من خلاله مشكلات المجتمعات الراهنة والمشاركة في فهم هذه المشكلات والتعاون على حلها مع باقي شعوب العالم. أي بمقدار ما نصبح ممتلكين لمفاتيح الحداثة وقادرين على أن نقدم مساهمتنا الخاصة في تنميتها وتطويرها وتعديلها أيضاً. من دون ذلك لن يعمل التقوقع على الذات إلا على عزلنا عن العالم وتحييدنا وإعادة استيعاب عناصرنا الشاردة في نسيجها بعد تفكيكنا من قبل الدول الصناعية، كما يحدث اليوم لنا تماماً. فمعظم العناصر ذات القيمة: من مهارات وخبرات وإبداعات متراكمة وبراءات اختراع تنجم عن تطور مجتمعاتنا يستفيد منها الغرب ويمتصها على شكل هجرات أدمغة وأرصدة في المصارف الأجنبية.

وصورة الغرب وهو في حالة انهيار أخلاقي والشرق المحافظ على القيم الأخلاقية الأساسية ليست صحيحة على الإطلاق. الغرب أخلاقياً اليوم أفضل بكثير مما كان عليه منذ خمسة قرون أو قرن أو نصف قرن. فقد تخلى عن خوض الحروب الاستعمارية الوحشية وعن الإبادة الجماعية وتبرير العنصرية والعبودية والنهب السافر للشعوب الضعيفة، وأصبح أكثر ميلاً إلى توفير وسائل العيش الآمن وحماية الحياة وتثمينها لمجتمعاته التي تعيش حقبة سلام مديد منذ الحرب العالمية الثانية.

في المقابل يبدو لي أنه في مقابل وجود قطاعات محدودة محافظة، أي حريصة على احترام القيم الأخلاقية الشخصية، تكاد شعوب الشرق تفقد احترامها لحرمة حياة الإنسان وحريته وكرامته والاهتمام بمصيره ومصيرها. فنحن نتراجع أخلاقيا وهم يتقدمون ويستخدمون تراجعنا كي ينفذوا بأيدينا مآربهم تجاهنا ويحافظوا على نفوذهم ومصالح لامشروعة في أقطارنا. فنحن لا نعيش إلا من أجل أن نحارب بعضنا ونتنازع على السلطة والموارد والمواقع والمناصب ولا نفكر لا في مصالح مجتمعاتنا ولا في مستقبلها ولا في أمنها.

السؤال السابع:

ما هو الرابط الصحيح الذي يحقق الاستقرار والتماسك _ من وجهة نظر الدكتور برهان _ بين الدولة والمجتمع والمواطنة في سياق الخطاب الهوياتي؟

غليون:

أهمية الدولة تنبع من وظيفتها في إقامة حكم على أساس سلطة القانون. والقانون غير الشريعة الدينية. لأن الشريعة الدينية تعني المؤمن بها وحده، ويعتمد تطبيقها على الإيمان برسالتها، ويقوم على التقدير الشخصي للفقيه والعالم والقاضي وصلاح تأويله للنص وصحة أحكامه. أما القانون فهو يطبق بالتساوي على الأفراد، سواء آمن به الفرد أو لم يؤمن، وله وسائل تنفيذه الدقيقة والمعروفة، ولا يقوم على رأي مجتهد، وإنما ينبع من تفاهم الأفراد جميعاً، من خلال ممثليهم المنتخبين في جمعية تأسيسية أو مجلس نيابي، على مبادئ وقوانين تخضع لإرادتهم مجتمعين ويمكنهم تعديلها وتغييرها. ولأنها نابعة منهم وخاضعة لإرادتهم المجتمعة وليس لاجتهاد فرد، وهي من إنتاجهم، فهم أكثر استعداداً للخضوع الطوعي لها. كما أنهم قادرون على تعديلها وتغييرها عندما تثبت عدم فاعليتها لأنها ثمرة اختيارهم وليست قوانين مقدسة مفروضة عليهم.

وللأسف لم يساهم تعطيل القوانين في معظم الأقطار العربية في العقود الطويلة الماضية لصالح التدخل الغاشم للسلطة السياسية، وخلط السلطات، في إظهار معنى القانون وتثبيت مفهومه في مجتمعاتنا. وزاد في ذلك خلط بعض النخب الدينية أو الثقافية بين القانون والشريعة وعدم التمييز بين مجالَي عملهما، بل بوضعهما في تناقض الواحد مع الآخر. الشريعة تخص العلاقات الاجتماعية داخل جماعة الإيمان، وعلى مستوى المجتمع الأهلي، أما القانون فهو جوهر السياسة التي تقوم على مشاركة الجميع، المؤمن وغير المؤمن، والتزام الفرد بصرف النظر عن رأيه، وهو الذي يضبط عمل الدولة وعمل الفرد تجاه المجتمع في الوقت نفسه. ولعل أبرز نموذج لوثيقة دستورية في تاريخ الحضارة الإسلامية كان وثيقة المدينة التي عبرت عن تفاهم بين جماعات قومية ودينية على مبادئ العيش المشترك والدفاع عن النفس مع فارق أن العقد الدستوري الحديث يتم بين أفراد مواطنين لا طوائف وقوميات.

السؤال الثامن:

أثبتت تجارب بعض الدول العربية وعلى رأسها العراق وقد تكون لبنان الآن، أن الصراع الهوياتي لا يقبل التساهل ويتطلب المواجهة بكافة مكوناتها الثقافية والعقدية.

ما رأي الدكتور برهان بتلك التجارب وهل هناك طرق لتحصين باقي الدول العربية _ سوريا مثلاً _ بحيث تحافظ على إرثها الثقافي وهويتها العامة؟

غليون:

الصراع الهوياتي الذي يشكل جوهر حياة لبنان السياسية ومنذ عقدين حياة العراقيين أيضاً، هو ثمرة هذا الخلط بين الهوية الثقافية والهوية الوطنية للدولة. فباستبعاد الهوية الوطنية أو الانتقاص من قيمتها لصالح الهوية الثقافية أو القومية أو الدينية يصبح من الطبيعي أن تسعى كل جماعة دينية أو ثقافية إلى السيطرة على الدولة أو على أكثر ما يمكن من دائرة السلطة والقرار أو إلى صبغ الدولة بهويتها حتى تضمن تفوقها وفرض هويتها على المجتمع بأكمله وقطع الطريق على الهويات المنافسة الأخرى. فتكون الحياة السياسية حروباً دورية مستمرة لتداول الجماعات الطائفية والأقوامية على الدولة والسلطة ولا مجال لوقفها أو حسمها. والحل البسيط هو أن فصل الانتماء للدولة عن الانتماء للجماعة الدينية أو الأقوامية. وهذا لا يصح إلا بالفصل بين وظائفهما. فالانتماء للدولة يعني الالتزام بقانونها، القانون السياسي الذي أجمع عليه الأفراد بصرف النظر عن دينهم وأصلهم وجنسهم. والانتماء للجماعة الأهلية، الدينية والثقافية والقومية، يعني الالتزام باعتقاداتها وتقاليدها وعاداتها وتعميق التضامن والتعاون بين أفرادها بصرف النظر عن الدولة ومن خارجها. هكذا تصبح الدولة هي المجال المشترك للتعاون والتفاعل بين الأفراد بصرف النظر عن اعتقاداتهم الدينية والثقافية، أما الهويات الدينية والقومية فهي المجال الذي يعبر فيه الفرد عن خصوصيته الثقافية وانتمائه لجماعة خاصة يجسده العمل من أجل الحفاظ عليها بالوسائل الفكرية والاجتماعية من صحافة ومنشورات وجمعيات أهلية خيرية أو أدبية وفنية.

هذا يفترض أن نخفف في أقطارنا العربية ومجتمعاتنا الرهان على الدولة في كل شيء، ونخفف عنها وظائفها وأحمالها، ونستثمر جهودنا بشكل أكبر في المجتمع الذي ينبغي عليه أن يتحمل مسؤولياته، وهذا ما يستدعي العناية بتأهيله وتنظيمه وإعطاء اهتمام أكبر لتفاعل الأفراد ونقاشاتهم ولتطوير أشكال تعاونهم وحوارهم. نترك للدولة الأمور الاستراتيجية والتأطيرية الكبرى ونطلق طاقات المجتمع في مواجهة الشؤون الحيوية في الدين والثقافة. ونزيد من الرهان على المجتمع الأهلي والمدني، وعلى حكمة وذكاء الناس الذين يعيشون مع بعضهم وينسجون حياتهم الحقيقية من خارج الدولة وباستقلال عنها. فهم الأقدر على اكتشاف طرق التعايش والتفاهم والتواصل من وراء اختلافاتهم الطبيعية وبالرغم منها. وفي المقابل تصبح الدولة المتحررة من أعباء الصراعات العقدية والايديولوجية أقدر على القيام بمهامها الرئيسية الحقيقية، وهي ضمان السلام والأمن الجماعي والفردي، وتأمين الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة ومرافق عامة، والتطبيق النزيه للقانون، مع إطلاق حرية المجتمع في تحديد انتماءاته وتنويعها والبحث عن توازناته النفسية والاجتماعية والفكرية والروحية بنفسه.

فليس هناك أسوأ من التسليم للدولة في حل الخلافات أو النزاعات العقدية والدينية الداخلية. مما يعني أيضاً ضرورة حق رجال كل ديانة بانتزاع استقلالهم في الشؤون العقدية وعدم قبولهم بتدخل الدولة في هذه الشؤون أو في تعيين رجال الدين أو إقصائهم أو توجيههم. وإذا حصلت نزاعات داخل الجماعات الدينية أو فيما بينها فدور الدولة في حلها يقتصر على تطبيق القانون. فمن يتم توجيهه بوسائل خارجية يخس ضميره ولا يصلح أن يكون قائداً روحياً لأحد.

السؤال التاسع:

ماهي نصائحكم دكتور برهان للفاعلين والمهتمين بالقضية السورية وخاصة جيل الشباب بما يخص الحفاظ على الهوية الوطنية الجامعة؟

غليون:

أعتقد أن فيما ذكرته جملة من النصائح التي إذا أخذ بها الفاعلون والمهتمون بالقضية السورية، وخاصة جيل الشباب، تحقق الهدفين المطلوبين: الحفاظ على الهوية الوطنية، أي دولة المواطنة المتساوية وحكم القانون الواحد المطبق على الجميع من دون تمييز، واحترام الهوية الثقافية بوصفها بؤرة التعبير عن تجدد الجماعات الدينية والقومية، وتنشيط الحوار داخل كل منها وفيما بينها على أسس عقلية وحرة ومستقلة عن إرادة أي سلطة خارجية أو دولة. وهذا يعني إنقاذ الدولة التي لا يشك أحد بفشلها، بل انهيارها في معظم أقطارنا، وإنقاذ الدين الذي كاد أن يتحول لدولة، أي أداة قسر وقهر، ويحل محلها، ومصدر للكراهية بدل أن يكون منبع العواطف الإنسانية النبيلة والدعوة إلى الأخوة والإحسان وعمل الخير، وتوسيع دائرة المشتركات الإنسانية، فيما وراء حدود الجماعات الدينية والقومية الخاصة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top