النّظام الدّولي قراءة تاريخيّة وتصوّرات مستقبليّة

النّظام الدّولي قراءة تاريخيّة وتصوّرات مستقبليّة 

السّياق الأول من سلسلة الوعي الاستراتيجي
إعداد الباحث: محمد أيمن سيف الدين

أهداف السّياق الأول

نهدف إلى تسليط الضّوء على النّظام الدّولي من وجهة نظر بُنيويّة تاريخيّة مع الوقوف على أسباب تشكّل وتفكّك النّظام الدّولي عبر التّاريخ هذا من جهة، ومن جهة ثانية محاولة لتقديم وجهة نظر حول ماهيّة النّظام الدّولي وإمكانيّة تغيّره في الوقت الحالي، مع التنبّؤ بالشكل القادم للنظام الدّولي في القرن الواحد والعشرين. معتمدين على منهجيّة البحث مستندة إلى المنهج التاريخيّ، المنهج المقارَن، المنهج الوصفيّ التّحليلي.

مقدّمة السّياق الأول

    تسعى الولايات المتّحدة الأمريكيّة منذ الحرب العالميّة الثانية للّدفاع عن مصالحها من خلال هيكلة سياستها الخارجيّة على شكل ملفّات تتضمّن جملة من النّشاطات والإجراءات. فعملت -على سبيل المثال- على إنشاء مؤسّسات اقتصاديّة دوليّة، ومنظّمات إقليميّة، كما عملت على نشر القيَم الأمريكيّة لأمركة الثّقافة العالميّة، وإقامة الأحلاف السّياسية والعسكريّة، للإحاطة بأيّ محاولة لدولة من الدّول للصّعود إلى مسرح القيادة العالميّة، وغيرها العديد من النّشاطات.

     على الصّعيد الداخليّ فهي تسعى منذ ذلك الوقت إلى تطوير مؤسّساتها الداخلية وعلى رأسها المؤسّسة العلميّة، والمؤسّسة العسكريّة، والمؤسّسات الاقتصاديّة، والمؤسّسات التقنيّة والتكنولوجيّة. وقد عملت على ذلك بخطوات محسوبة مستخدمة كلّ الوسائل المُتاحة من أجل الحفاظ على النّظام الأُحادي القطبيّة. 

    في السّنوات الأخيرة ونتيجة لتطوّرات كبيرة على كلّ المستويات ظهرت التّوترات بين مكوّنات النّظام الدّولي، وبدأت القوى الدّولية الصّاعدة بالعمل على تحدّي هذا النّظام بمختلف الوسائل والآليات المُتاحة، سعياً منها إلى التخلّص من الهيمنة الأمريكية. ويأتي هذا البحث تحت عنوان النّظام الدّولي في القرن الواحد والعشرين بهدف إلقاء الضّوء على هيكلية النّظام الدّولي الحالي والعوامل المكوّنة له، ومحاولة تفسير عمليات التّغيير القائمة ووصف ديناميتاها، ومعرفة دور الفاعلين من الدّول وغير الدّول في هذه العملية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تنصرّف الجهود نحو تحليل وتفسير الدّور الذي قد تشغله الثّورة التكنولوجية في ذلك التحوّل. 

    سيتمّ تناول هذا الموضوع على شكل سلسلة من مجموعة إضاءات انطلاقاً من التعريفات وصولاً إلى قراءة التّغيرات الحاصلة في الوقت الراهن في بنية النّظام الدولي وتوقّعات شكله في الفترات القادمة. 

الإضاءة الأولى: تعريف النّظام الدّولي وأشكاله تاريخياً

     لا نستطيع الحديث عن مصطلح النّظام الدّولي إلا في الحقبة الحديثة من التاريخ السّياسي للعالم، ونقصد هنا تاريخ ولادة الدّولة القوميّة بعد وستفاليا، ورغم حداثة المصطلح إلا أنّ مضمون النّظام العالمي – من علاقات وتفاعلات وترتيبات –  قد كان موجوداً على مدى التاريخ السّابق لوستفاليا. فما هو مفهوم النّظام الدّولي، وما هي أشكاله؟

تعريف النّظام الدّولي ومفهومه

    تعدّدت وجهات النّظر التي تناولت مفهوم النّظام الدولي، فتعدّدت تبعاً لذلك تعريفاته. من خلال دراستنا لمفهوم النّظام الدّولي لاحظنا أن تعريفات النّظام الدّولي تشترك في عدة جزئيات، سنعرض فيما يلي بعض التّعريفات للنظام الدولي.

تعريف النّظام الدّولي:

     حسب موريس إيست النّظام الدّولي هو: النّظام الذي يمثل أنماطاً من التفاعلات، والعلاقات بين الفواعل السياسية ذات الطبيعة الأرضيّة ( الدول ) التي تتواجد خلال وقت محدّد().

    حسب بولدينغ: هو مجموعة من الوحدات السّلوكية المتفاعلة التي تسمّى أُمَماً، أو دولاً، والتي يضاف إليها أحياناً بعض المنظّمات فوق القوميّة كالأمم المتّحدة، ويمكن أن توصف كل واحدة من هذه الوحدات السّلوكية بأنّها مجموعة من المتغيّرات التي يُفترض وجود علاقة معيّنة فيما بينها().

    يرى هوفمان: أن النّظام الدّولي عبارة عن نمط للعلاقات بين الوحدات الأساسيّة للسّياسة الدّولية، ويتحدّد بهذا النّمط بُنيان أو هيكل العالم، وقد تطرأ على النّظام تغيّرات مردّها إلى التطور التكنولوجي، أو التغير في الأهداف الرّئيسية لوحدات النظام، أو نتيجة التغير في نمط وشكل الصّراع بين مختلف الوحدات المشكّلة للنّظام().

    أما كابلان فقد وصف النّظام الدّولي بأنّه: مجموعة من المتغيّرات المترابطة فيما بينها، والمتميّزة عن محيطها، وتستند هذه المتغيّرات على قواعد سلوكيّة تميّز العلاقات القائمة على مجموعة من المتغيّرات الفرديّة عن تجمّع المتغيّرات الخارجيّة().

    يمكن نتيجة لما سبق تعريف النّظام الدّولي بأنه: عبارة عن مجموعة متنوّعة من الفواعل من الدّول، ومن غير الدول، تتفاعل مع بعضها البعض ضمن قواعد ضابطة للعلاقات فيما بينها.

الإضاءة الثانية: النّماذج التّاريخيّة للنّظام الدّولي حتى عام 2011

    يعتبر صلح وستفاليا نقطة فارقة في التاريخ حيث نوقشت فيه عدة قضايا. على رأسها القضية الدّينية، ومسألة السّيادة، ثم وقعت الممالك الأوربيّة المعاهدة التي أنهت الحروب الدينيّة في أوروبا، كما وضعت قواعد ومبادئ تتعلّق بالحدود وضرورة احترامها، وعدم التّدخّل في الشّؤون الدّاخلية للممالك، كما وضعت أسس الدّبلوماسية، وأسس توازن القوى، وغيرها من المبادئ. ومنذ ذلك الحين بدأ النّظام الدّولي الحديث بالتّشكل على نماذج متنوّعة ما بين: النّظام المتعدّد، والثّنائي، والأحادي القطبيّة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ النّظام أحادي القطبيّة هو النّظام النّاشئ منذ حرب الخليج عام 1991م، التي تزامنت مع انهيار الاتّحاد السّوفيتي.

 يمكن تناول هذه الأشكال كما يلي:

النّظام متعدّد القطبيّة:

    أهمّ معالم هذا النظام تتمثّل بوجود مجموعة قوى قوميّة تمتلك القوة التي تجعلها في قمّة الهرم الدولي، وتمتاز بأنّها متكافئة نسبياً.

    من أمثلة هذه الأنظمة ما كان سائداً في القرن الثامن عشر، حيث كانت الإمبراطورية العثمانيّة، والسويد، وهولندا، وإسبانيا، والنمسا، وفرنسا، وبريطانيا. تمثّل القوى المشكّلة للنظام الدولي آنذاك. كذلك ما كان سائداً في عام 1800م، حيث كانت النمسا، وفرنسا، وبلاروسيا، وروسيا، وبريطانيا. هي من تمثّل النظام الدولي. ومن الأمثلة أيضاً ما كان سائداً في عام 1870 م حيث ظهرت إيطاليا إضافة إلى الدّول السّابقة. ثم في 1910 م كانت القوى العظمى تتمثّل بالنمسا، وبريطانيا، وألمانيا، وروسيا، وإيطاليا، واليابان، والولايات المتحدة. ثم خرجت النمسا عام 1935 من بين هذه الدّول().

النّظام ثنائي القطبيّة:

    بعد الحرب العالميّة الثانيّة ظهرت الهيكلية الثنائية القطب القائمة على وجود قوّتَين كل منهما تمتلك مصادر قوّة تميّزها عن الثانية، وبذلك دارت الدول الأخرى في فلك هاتين القوّتين. تبلور هذا التمحور من خلال عمليّة استقطاب دوليّة نحو كلّ قطب من القطبين – الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية – وتجلّت الاستقطابات في تشكيل حلف شمال الأطلسيّ، وحلف وارسو، وعصبة الأمم، ثمّ الأمم المتّحدة. وقد استمرّت هذه الهيكلية ما بين عامي 1945 م و 1991 م().

النّظام أحادي القطبيّة:

    في عام 1991 م  تفكّك الاتحاد السّوفيتي وأَفَل نجمه، وترتّب على ذلك انفراد الولايات المتّحدة الأمريكية بالقوّة، مما منحها الفرصة لتكون على قمّة الهرم الدولي، وتكون قادرة على القيام بوظيفة الرّاعي العام للنّظام الدولي وتوزيع الأدوار فيه، والتدخّل في شؤون الدول من أجل ترتيب البيئة الدّولية().

الإضاءة الثّالثة: النّظام الدّولي في القرن الواحد والعشرين

    ينشغل العديد من الباحثين والمهتمّين في استشراف شكل النّظام الدولي القادم، مع بذل الجهود في محاولة  الإجابة عن السؤال: ما هي إمكانيّة استمرار النّظام الحالي، وماهي مقدّمات تغيّره، وعند حدوث هذا التغيير كيف سيكون شكل النّظام القادم؟.

    إنّ تصنيف الأنظمة الدولية سابقاً كان يُبنى على أسس وعوامل واضحة، مما سهّل الحكم على شكل النظام وعلى مكوّناته، فقد كانت القوّة العسكرية والقوّة الاقتصادية هي المعيار الأساسيّ، فمن يمتلك القوّتَين الاقتصاديّة والعسكريّة ستكون له الأفضليّة في قيادة العالم. أما الآن ومع هيمنة عالم التكنولوجيا والمعلومات والتطوّر التّقنيّ الهائل، فإنّ معايير الحكم قد اختلّت، وتغيّرت المعطيات مما قد يؤدي إلى سيلان مراكز القوّة في العالم في اتّجاهات متعدّدة مُتّجهة نحو عدّة دول.

    تشير دراسة()  نشرتها مؤسسة RAND  بعنوان فهم النّظام الدّولي إلى الاعتقاد بأنّ النّظام الدّولي القائم في خطر، وبالتّالي فقد تكون مصالح الولايات المتحدة التي يحافظ عليها النّظام الدولي في خطر، ويشير تحليل السِّمات لنظام ما بعد الحرب العالميّة الثانية إلى ثلاث مستويات رئيسيّة من المخاطر المُحتمَلة:

  • بعض الدّول الرائدة ترى أنّ الكثير من مكوّنات النّظام مُصمّمة لتقييد قوّتها والحفاظ على ديمومة الهيمنة الأمريكية.
  • التقلّب نتيجة انهيار الدّول أو الأزمات الاقتصاديّة.
  • تغيّر السّياسات المحليّة في عصر النّمو البطيء واتّساع فجوة التفاوت. 

نتيجة لجملة التطوّرات السّياسية والعسكريّة والتكنولوجيّة التي يشهدها العالم اليوم، فقد نكون على أعتاب تغيّرات جوهريّة على مستوى القيادة العالميّة، وهناك من يقول بقرب انتهاء النّظام الحادي القطبيّة والتحوّل إلى شكل جديد قد يتّسم بلاقطبية أو يمكن أن يكون على شكل أكثر تعقيداً يُطلق عليه الدّارسون اليوم مسمّى النّظام المركّب.

    هناك العديد من المؤشّرات على صعود قوى جديدة مقابل الولايات المتّحدة الأمريكيّة، منها على سبيل المثال لا الحصر: الصّين. فقد عرض نوح فيلدمان في كتاب الحرب الهادئة نظرته حول الصّين من حيث تشبيهها بالولايات المتّحدة الأمريكيّة من حيث المساحة القارّيّة الشّاسعة والتاريخ الامبريالي الحافل واستعرض رغبة الصّين في تحقيق مصالحها الجيواستراتيجية لمنافسة الولايات المتّحدة الأمريكيّة علي القوّة العالميّة وقد عرض دليلاً واقعياً على سعي الصّين للتحوّل إلى قوّة دوليّة عُظمى مع قدرتها على فعل ذلك وقد تضمّن دليله محدّدات عسكريّة وثقافيّة و اقتصاديّة وتكنولوجيّة وإيديولوجيّة ووصف ما يحدث بين الصّين والولايات المتحدة بالحرب الهادئة تعبيراً عن حرب باردة جديدة بين الطّرفين() 

الإضاءة الثالثة: أثر التّطوّرات الدّولية ( التطوّر التكنولوجي ، …. ) على تغيّر النّظام الدّولي.

    أشار هانز- مورغان ثو في كتابه السّياسة بين الأمم، إلى مجالات قوّة الدول، وأجملها في تسعة مجالات، هي: الجغرافيا، والموارد الطبيعية كالغذاء والمواد الأوليّة، والطاقة الصناعية، والاستعداد العسكريّ كالتقنية والقيادة ونوعية القوّات المسلّحة، والسّكان من حيث التّوزيع والاتّجاهات، والشّخصية القوميّة، والمعنويّة القوميّة التي تتمثّل في ماهية المجتمع والحكم، ونوعية الدبلوماسيّة، ونوعية الحكم من حيث الموازنة بين الموارد والسّياسة، و الموازنة بين الموارد نفسها، والتأييد الشّعبي والحكم الدّاخلي والسّياسة الخارجية () ، وقد زاد على ذلك في وقتنا الحاضر مجال التكنولوجيا الواسع منذ بداية تسعينيات القرن الماضي حتى وقتنا الحاضر.

الجانب التكنولوجي 

    يكاد لا يخلو محفل من المحافل السياسية أو العسكرية من الكلام عن التغيرات الحاصلة في بُنية وهيكلية النظام الدّولي القائم. ويقصد بالهيكلية هنا تراتبية القوى الموجّهة للنّظام الدّولي، إضافة إلى الكلام عن استقرار هذا النّظام. المشكلة تكمن في التّداخل الكبير بين القوى العالمية اليوم، مع ما تشهده العديد من الدول من التطوّر العلميّ والتكنولوجيّ الذي فتح الباب أمام تنافس محموم نحو التفوّق في هذا المجال. حيث تسعى كلّ دولة من هذه الدّول المتنافسة إلى حجز مكانتها المستحقّة – حسب زعم كلّ منها – في مركز قيادة العالَم، فلكلّ منها طموح مستند إلى جدليّة ( تاريخية – سياسية ) تدور حول عدم منطقيّة أن تبقى الولايات المتحدة الأمريكية متحكِّمة في مصائر الدول، إضافة إلى التوجّهات الأيديولوجيّة لكلّ دولة من هذه الدول.

    يعرض بريجنسكي في كتاب رقعة الشطرنج الكبرى المتطلّبات الجيوستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكيّة ويحصرها في أربعة مجالات: المجال الاقتصادي، المجال العسكري، المجال التكنولوجي، والمجال الحضاري()

   ينظر جوزيف ناي للمجال التكنولوجي كمجال من المجالات الحديثة التي دخلت بقوّة على عالم العلاقات بين الدول، فترتبط قوّة الدّولة بشكل وثيق بتفوّقها التكنولوجي وقدرتها على الاكتشاف والاختراع والابتكار، وتحتفظ الدول المتطوّرة لنفسها بالمزايا التي تجعلها متقدّمة عن مثيلاتها من الدّول. فقد يجعل امتلاك دولة ما للقوّة العسكريّة دولة مهيمنة، لكن من جهة أخرى أصبحت التكنولوجيا والثورة المعلوماتيّة وثورة الاتصالات والأجهزة الرقميّة عوامل مهمّة في تحديد مدى قوّة الدّولة أو ضعفها ().

تشكّل الصّين، وروسيا، والاتحاد الأوربي، واليابان، والهند، أبرز الأقطاب التي يرى البعض أنها من المحتمل أن تنافس الولايات المتحدة في النّظام الدولي ().

    لقد أظهرت الحروب الأخيرة أهميّة التطور التكنولوجي في مجال صناعة الطائرات الحربية دون طيّار- الدرون – وهو المجال الذي كانت تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية منذ استخدامها له كسلاح فتّاك وفاعل في أفغانستان، وقد أسفرت السّنوات القليلة الماضية عن الوجه الحقيقي للتنافس الدولي في هذا الميدان، وتعتبر تركيا من أكثر الأمثلة تميزاً من خلال تطويرها للجيل الثالث من سلاح الدرونات الخاصّ بها. وتشير المعطيات إلى أنّ الصّراع القادم بين الدول سيكون حول امتلاك هذا النوع من الأسلحة، فالولايات المتحدة الأمريكية – على سبيل المثال – تسعى لإنشاء أسطول قوامه 200 ألف طائرة درون لاستخدامها في حروبها المتنوّعة، إضافة إلى سعيها لصناعة آلاف الجنود الآليّين بقدرات هائلة، من أجل تقليل استنزاف العنصر البشري. 

    سعت كل دولة إلى دخول ساحة التنافس العالمي من عدة بوّابات. لعله من أهم تلك البوابات ما يتمثل بالصّراع العلمي والتكنولوجي، حيث يرى المهتمّون بالشّأن الدّولي بأنّ التطور التكنولوجي والمعلوماتي وما أفرزه هذا التطور من هيمنة العولمة على العالم، قد أدّى إلى تحطيم الجدر الفاصلة بين مكونات النظام الدولي وبين الجماعات وبين المؤسّسات، فهناك من يرى أن الحدود الجغرافية قد تحطمت أمام التجارة العالمية والعولمة ولم يعد لها أن تقف عائقاً أمام الحركة الاقتصادية للشّركات العابرة للقارّات، والتي بدورها استطاعت فرض نفسها كفاعلٍ قويٍّ على السّاحة الدولية حتى أنّها قد تغيّر في السّياسة الدّاخلية لدولة ما. إضافة إلى ذلك تحطّمت بتأثير العولمة الجُدر الثقافية بين الأمم ولم يعُد بالإمكان السّيطرة المُطلَقة على سيلان الثقافة والمعلومات بين الشّعوب. بالإضافة إلى تأثير العولمة على تحطيم الجُدر بين الجماعات على كلّ مستوياتها، وهذا ما رأيناه في وصول ترامب إلى سدّة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية رغم عدم صعوده كممثّل لأحد الحزبين الحاكمين في الولايات المتحدة، والمثال الآخر البارز على المستوى العربي هو وصول الرّئيس التونسي قيس سعيد إلى الرئاسة متجاوزاً الأحزاب والتكتّلات التونسية الكبرى مع العلم بأنه لا ينتمي إلى أيّ تجمّع من هذه التجمّعات.

    إنّ انتشار الشّبكات وتطوّرها عالمياً أدّى إلى إمكانيّة قيادة نشاطات عديدة قد تكون مؤثّرة على مستوى دولي من قبل الشّعوب أو بتوجيه من الحكومات، ومثال ذلك ما حدث في التدخّل الروسي في الانتخابات التي أوصلت ترامب إلى رئاسة البلاد. أيضاً ما تشهده العديد من الدّول عموماً، ودول الربيع العربي خصوصاً من نشاطات شعبية يتمّ الدعوة لها عن طريق منصّات الكترونيّة دون معرفة القائم عليها أو من يدعو لها، وتمثّل ذلك في الدعوة للمظاهرات، وفي إطلاق التسميات على المظاهرات، وفي عمل التنسيقيات، وفي العديد من النشاطات الأخرى. 

    إنّ مستقبل القيادة الأمريكيّة للعالم، والسياسة الدولية بوجه عام، سيتوقّف على عدّة متغيرات رئيسيّة، يتحدّد على أساسها شكل وطبيعة النظام العالمي في العقد القادم، ومن هذه المتغيّرات مستقبل العلاقات بين القوى الكبرى، ومستقبل الطّاقة والصّراع على الموارد، ومستقبل الأمم المُنهارة، ومستقبل التطوّر التكنولوجي، ومستقبل تحدّيات العولمة.() 

    تشير المعطيات إلى أنّ امتلاك المجال التكنولوجي والمعلوماتي وانعكاسه على المجالات العسكرية والاقتصادية والسّياسية، هو المفتاح نحو السّيطرة الدّولية وهذا ما تسعى الدّول المهتمّة للوصول إليه. وعليه يرى المختصّون أنّ التكنولوجيا قد تحوّلت إلى أداة رئيسيّة في التحوّلات القائمة الآن في بُنية النظام الدولي القائم.

الإضاءة الخامسة: الشّكل المُحتمَل للنّظام الدّولي القادم

    يرى البعض أنّ النّظام الحاليّ يتحوّل نحو نظام متعدّد الأقطاب، حيث تشهد السّاحة العالمية اليوم تنافساً واضحاً يتمثّل في سعي الدول إلى زيادة امتلاكها للقدرات واستخدام هذه القدرات كي تكون أكثر استقلالاً. يُعيد نظام التعدّدية القطبيّة مبدأ توازن القوى إلى الواجهة العالميّة، وكذلك التركيز على فعاليّة الدبلوماسية والعلاقات في هذا المجال، فالتعدّدية توفّر فرصاً أكبر للتفاعل بين الدول مما يزيد العلاقات السّلمية بين الدّول وبالتالي تزداد فرص استقرار النظام، ويتوقّع أن تكون الأقطاب المكوّنة للنظام القادم كل من الولايات المتحدة، والصين، وروسيا والهند، والاتحاد الأوربي، واليابان. ومن الملاحَظ النشاط الذي تبذله كل من هذه الدول في المجالات العسكريّة والاقتصادية والتكنولوجية والحضاريّة. وهي مجالات النّفوذ الدولي كما يراها بريجنسكي.

النّظام ثنائي القطبيّة واحتمالات الظّهور

    أشار نوح فيلدمان في كتاب الحرب الهادئة إلى تصاعد الصّراع بين قوّتَين عالميّتَين هما الولايات المتحدة والصين()، وأشار إلى محاولات الباحثين والمنظّرين في وضع إطار نظريّ يؤطّر طبيعة النّزاعات الاقتصاديّة والسياسية بين الدّولتَين، وقد افتتح مقدّمة كتابه بالسّؤال: هل نحن على أعتاب حرب باردة جديدة؟؟ وبالتالي هل سيكون على الدولتَين خوض قتال حتى يتلاشى أحدهم؟ أم هل نحن مُقبلون على عصر جديد من التعاون الاقتصادي المتنوّع. من شأنه أن يقضي على فكرة القوّة الإمبريالية السّياسية القديمة؟ ويخلص إلى أننا على أبواب حرب هادئة مضمونها الصّراع من أجل القوّة وفي نفس الوقت يصبح التّعاون الاقتصاديّ أكثر عمقاً وأهميّة.

    مع نهاية التسعينيات من القرن الماضي، انتقل التعريف الأمريكي للخطر الصيني من الجانب الاقتصادي إلى الجانب العسكريّ. وبدأت الوثائق الأمريكيّة تركز على التهديد العسكري المحتمل للصّين. فقد كتبت لجنة رامسفيلد عام 1998 في تقرير لها: الصّين تشكّل خطراً على الولايات الأمريكية من ناحية كونها تساعد على انتشار الصواريخ البالستية، وأسلحة الدمار الشّامل بالإضافة إلى التكنولوجيا المرتبطة بذلك(). وحسب نفس المرجع فإنّ صعود الصّين والانحدار النسبي للولايات المتحدة سيمهّد الطريق لاحتمال أن تكون الصّين هي المنتصر الحقيقيّ في الحرب الباردة. رغم ذلك هناك رأي قويّ يقول: رغم صعود الصّين الاقتصادي، إلا أنّها لن تسعى إلى منافسة الولايات المتحدة على مكانتها في قيادة العالم، ولأصحاب هذا الرأي مبرّراتهم. ولا تزال النّقاشات قائمة حول شكل ومستقبل الصّعود الصّيني عالمياً، وهل سيكون هذا الصّعود سلمياً على الدّوام في المستقبل؟ فالمعطيات تشير إلى قدرة الصّين على الاستمرار في الصّعود ولكن إلى أيّ حدّ؟ هذا ما لا يمكن الجزم فيه.

    في النتيجة إذا استمرّت الصيّن بصعودها المضطرد واستطاعت امتلاك التفوّق في المجالات الحضارية المختلفة، وإذا استمرّ الدّور الأميركيّ كقائد للعالم بالاضطراب والتراجع فقد نشهد نظاماً ثنائياً جديداً يقوم على الصين والولايات المتحدة الأمريكية.

نظام الّلاقطبيّة كنموذج متوقّع

    هناك تغيّر ملموس في قواعد اللعبة نتيجة التطور الهائل في مجالات التكنولوجيا والمعلومات، مما مهّد الطريق للعولمة لفرض نفسها كعامل محرّك ومثقل في مجال توازن القوى، إضافة إلى التنظير لبناء حكومة عالميّة تعتبر التكنولوجيا وسيلتها الأساسية. 

    زادت العولمة من الترابط والتداخل على كل المستويات في العالم ممّا أدّى إلى زيادة فعالية الفواعل من غير الدول، ممّا أثار التساؤلات حول من سيتولى قيادة العالم من جديد. وبذلك لم تعد النّظرة السّطحية صالحة لفهم ديناميات وملامح النظام الآخذ بالتشكّل، وأصبح من الضروري التعامل مع تعقيد المشهد الدولي بطرق مختلفة.

    يقوم مفهوم الّلاقطبية على أساس وجود مجموعة كبيرة من القوى المؤثرة في العالم قد سحبت مركز قيادة العالم من يد قوى المركز، مما يعني أن الهيمنة على العالم اليوم ليست محصورة بيد مجموعة قليلة من القوى، بل في يد مجموعة كبيرة ومتنوعة من الفاعلين.

    ظهرت الّلاقطبية الدّولية في أدبيّات المفكرين منذ فترة من الزمن، فقد أشار هاس في مقالة عام2008 م. بعنوان ما بعد الهيمنة الأمريكية: إلى حالة أطلق عليها اسم عصر الّلاقطبية، وكذلك أطلق بريمر مصطلح عالَم بلا قيادة على النظام الدولي القادم مشيراً إلى عدم وجود قوى مركزية ثنائيّة، أو أحاديّة، أو تعدّدية، وقد وصف غارتون آش النظام الدّولي باللانظام العالمي الجديد.

    جاءت اللاقطبية في أدبيات الليبرالية حيث نظر الليبراليون لحكم عالميّ عبر ترتيبات مؤسّسية تعزز التعاون بين الدول من خلال حكومة عالمية قوامها العولَمة، للمنظّمات الدولية دور متصاعد فيها. وتتمثّل القيم الليبرالية حسب هذه النظرة في تحطيم الجُدر أمام التّجارة العالمية، وتسهيل حركة رأس المال، ونشر السّلام العالميّ وترسيخ حقوق الإنسان وحماية البيئة.

    سمات اللاقطبية الدّولية: يتّسم نظام اللاقطبية بثلاث سمات رئيسية(): فقدان الدّولة لاحتكار السّلطة لصالح المنظمات المحليّة، أو الإقليميّة، أو العالميّة، أو الشركات متعدّدة الجنسيات أو الميليشيات. والثانية: ظهور عدد غير محدود من الفاعلين المؤثّرين من الدول وغير الدول. والثالثة: تتمثّل في العولمة التي سرّعت من عمليات إزالة الحدود بين الدول. 

    يشير هاس إلى أنّ العولمة تعزّز اللاقطبية()، لأنّ العديد من التدفقات العابرة للحدود تحدث خارج نطاق سيطرة الدولة، مما يؤدي إلى تقييد تحكّم الدول بهذه التدفّقات، ومن جهة ثانية فإنّ العولمة ستزيل الحواجز بين الدول وستعمل على تقوية إمكانات الفاعلين من غير الدول(). وبالتالي تبذل العديد من الفواعل من غير الدول الجهود لتكون أكثر استقلالاً، وأكثر تأثيراً في النظام الدولي. وهذا ما سيزيد من تعقيد الكيفيّة التي سيواجه فيها النظام الدولي القضايا والتفاعلات بين مكوّناته. وتشير المعطيات أن تأثير الفواعل من غير الدول سيزداد بالتوازي مع التطور التكنولوجي وسلطة العولمة.

النّظام الدّولي المركّب

    برزت في التقرير الصادر في 2017 م عن مؤتمر ميونخ للأمن بعنوان – ما بعد الحقيقة، ما بعد الحرب، ما بعد النظام – العديد من الأفكار حول تقييم صلاحيّة النظام الدولي الحالي (). وقد كان المقصود بما بعد الحقيقة وجود حرب رقمية قوامها المعلومات التي باتت تصل إلى الملايين من الأفراد في لحظة واحدة، والتساؤل هنا عن مصداقية تلك المعلومات وعن مصدرها، وعن كيفية التحقّق من ذلك. وعبارة ما بعد الحرب تشير إلى التغير في القيم الغربية والاتجاه نحو قيم أخرى. أما عبارة ما بعد النظام فهي تشير إلى طبيعة النظام القادم، باعتبار أنّ النظام القائم غير قابل للاستمرار.

    يشير هذا التقرير إلى مستوى التعقيد في النظام الدولي الحالي، في ظلّ العولمة والتكنولوجيا المتطوّرة، والتوسّع في انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. يقودنا هذا التشابك إلى إمعان النظر فيما يمكن أن تكون عليه ماهيّة النظام الدّولي القادم، حيث تثار عدّة تساؤلات، من قبيل: هل مازال معيار امتلاك القوّتَين الاقتصادية والعسكرية هو الأساس في إعطاء مجموعة من القوى الأفضليّة في قيادة العالم؟. وقد كشفت العديد من الأحداث العالمية كالمسألة السورية، واليمنية، والليبية، والتنافس الرقمي، وأزمة كوفيد19، وغيرها من الأحداث المعاصرة، كشفت ضعف قدرة الولايات المتحدة الأمريكية – رغم تفوّقها العسكري والاقتصادي- على الوقوف في وجه طموحات عدّة دول بالعودة إلى واجهة التأثير العالميّ على رأسها روسيا والصين. وقد ظهر ذلك التراجع في الدّور الأمريكي جلياً في التدخّل الروسي في سوريا وليبيا، وفي الدور الصّيني البارز فيما يخصّ التفوّق التكنولوجي ووباء كوفيد19 . 

    إنّ تعقّد المشهد الدولي الحالي يثير العديد من التساؤلات، تدور حول عدم وجود هيكلية واضحة للنّظام الدولي قادرة على مواجهة القضايا الناجمة عن التطورات المُتسارعة على مختلف المجالات، والتي يسعى الفاعلون إلى امتلاكها في سبيل استيعاب التشابك الكبير في المصالح بين مكوّنات النظام الدولي في القرن القادم. 

    توصف العلاقة بين الفاعلين الدوليين من دول، وغير الدول، والأفراد. بأنّها علاقات شبكيّة شديدة التعقيد، وهو ما سينتج عنه نظام معقّد مركّب من عدّة مستويات من القوى، داخل كل مستوى هناك أيضاً مجموعة مستويات فرعية، تمثلها تكتّلات بين فواعل متنوّعة. وبالتالي ستكون البُنية الهرميّة للنظام الدولي معقّدة وتتحكّم بها شبكة معقّدة من العلاقات والتفاعلات.  

خاتمة البحث

    استعرضنا في هذا البحث لمحة عن النّظام الدّولي من حيث مفهومه وأشكاله التاريخية، ومن حيث الشكل المحتمل للنظام الدولي في القرن الواحد والعشرين. ذلك بافتراض أنّ النظام الدّولي اليوم يمرُّ في مرحلة تحوّل هامّة من الشكل أُحادي القطبيّة إلى شكل جديد لم يتمّ تحديد معالمه بعد. وبالتالي جاء هذا البحث كمحاولة لقراءة ديناميكيات التّغيير الطارئة على النّظام الدّولي، وتحليلها بهدف إدراك ماهية النّظام الدولي الحالي واستشراف هيكليته المستقبليّة في القرن العشرين. مع التركيز على التّطور التكنولوجي والعولمة، وجائحة كورونا، كعوامل مستقلة مع ثبات العوامل الأخرى. 

   توصلت الدّراسة إلى النتائج التالية:

  • من المؤكّد أنّه سيكون هناك نظام بديل عن النّظام الحالي، قد يكون أحادياً، أو ثنائياً، أو تعدّدياً، أو لاقطبيّاً، أو مركّباً. ولا أحد يستطيع أن يجزم على اليقين كيف سيكون شكل ذلك النظام. ذلك أنّ الأحداث ما زالت قائمة وأزمة كورونا ما زالت تلقي ظلّها على العالم.
  • نرجّح أن يكون شكل النظام القادم متعدّد الأقطاب، وقد يكون عدد القوى الممثّلة له أكبر من أيّ شكل مضى.
  • سيكون للفواعل من غير الدول: كالشّركات العابرة للقوميّات، والمنظّمات الدولية، والجماعات الأيديولوجية. دور أكبر في النظام القادم.
  • سيكون للشّبكات، ومواقع التّواصل. أثر بارز في التأثير في العلاقات الدوليّة، مما سينعكس على شكل التفاعلات بين مكونات النّظام الدّولي القادم. 

التّوصيات

    على الدّول الطّامحة لحجز مكانة عالميّة في النّظام الدولي القادم أن تتنبّه إلى مايحدث من تغييرات على المستوى الدّولي، وفي هذا السّياق يمكن التنبيه إلى بعض القضايا التي تمكّنها من تحقيق أهدافها:

  1. السّعي لامتلاك جهاز تفكير استراتيجي عالي المستوى يمكّنها من القدرة على قراءة المشهد الدولي المعقّد واستكشاف الفرص البينيّة بين القوى العظمى المتصارعة.
  2. السّعي إلى إقامة تحالفات على المستوى الإقليمي والدولي. الأمر الذي يتيح لها مساحات حماية أوسع ومجالات تحرّك أكثر حيوية وعمقاً.
  3. العمل على إعادة بناء شبكة اجتماعية داخلية مترابطة ومتكاملة، بما يحميها من التفكّك الداخلي الذي من شأنه _ إن حدث _ أن يعيق تحقيق هذه الدول لطموحاتها.
  4. الجانب التكنولوجي فرض نفسه كواقع لا انفكاك عنه ولا حصانة ضدّه، فلا بدّ لتلك الدول من الّلحاق بركب الدول المتقدمة في المجال التكنولوجي عموماً، ولا بدّ لها من محاولة امتلاك تكنولوجيا خاصة بها في الجانب العسكري خصوصاً.

المراجع

أولاً: الكتب

  1. نوح فيلدمان، الحرب الهادئة
  2. محمد عوض الهزايمة، قضايا دولية تركة قرن مضى وحمولة قرن آت
  3. أسيل شماسنة، النظام الدولي منذ الحرب الباردة
  4. علي حسين باكير، مستقبل الصين في النظام العالمي
  5. هشام محمود الاقداحي، الاستقرار السياسي في العالم المعاصر
  6. أ. م . د . سمير جسام راضي / أ. م. د. نوار خليل هاشم، الهيكلية القطبية والاستقرار العالمي

ثانيا: الصّحف والمواقع الالكترونية

  1. مجلة فورين بوليسي، كيف سيكون العالم بعد جائحة فايروس كورونا، 20 مارس 2020
  2. Michael.j. Mazzar / Miranola Priebe / Andrew Radin / Astrid Stuch Corallos   … فهم النظام الدولي / مؤسسة راند
  3. مجموعة مقالات نت، العالم بعد كورونا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top