أدّت ثورة الاتّصال والمعلومات خلال العصر الحديث إلى تغيّرات هائلة طالت قيم الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء. ولعلّ ذلك يعود إلى ما لوسائل الإعلام والاتّصال من قدرة على برمجة عقول الأفراد والمجتمعات. وتوجيهها الوِجهة التي يرومها صنّاع القرار في العالَم والمتحكّمون في هذه الوسائط. إذ من الملاحَظ اليوم أنّ وسائل الإعلام والاتّصال بمختلف أشكالها وخصوصاً الإعلام المرئيّ والإعلام الرقميّ. باتت أكبر موجّه وصانع للرأي العامّ وللقيم التي يتحرّك وِفقها الأفراد والمجتمعات.
ما هي القيم؟
ويمكن تعريف القِيم على أنّها. (مجموعة من المعايير التي تحقّق الاطمئنان للحاجات الإنسانية ويحكم عليها الناس بأنّها حسنة ويحرصون على الإبقاء عليها)
كما عرّفها البعض بأنّها. (معيار عام ضمنيّ أو صريح فرديّ أو جماعيّ يعتمده الأفراد والجماعات في الحكم على السّلوك الجماعيّ قبولاً أو رفضاً وهي مقاييس اجتماعيّة وخلقيّة وجماليّة تقرّرها الحضارة التي ينتمي إليها أفراد المجتمع وفقاً لتقاليد المجتمع واحتياجاته وأهدافه في الحياة). ومن هنا فإنّ لكلّ مجتمعٍ قيمُه التي تميّزه عن غيره.
ويتمّ تعلّم هذه القيم وتَشرّبها عن طريق مؤسّسات التنشئة الاجتماعية كالأسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام. إلاّ أنّه من الّلافت للنّظر أنّ دور الأُطر التقليدية للتّنشئة في مجتمعاتنا (الأسرة، المدرسة، المسجد). قد انحسر وتراجع لصالح وسائل الإعلام التي ما فتئ دورها يتفاقم ويتعاظم يوماً بعد يوم. لتصبح في كثير من الأحيان صانعاً لمواقف الأفراد وتوجّهاتهم بل وحتى قيمهم، وهو ما سنعمل على إبرازه في هذا المقال.
1ـ دور الإعلام في صناعة قِيَم الفرد وتوجّهاته:
تُسهم وسائل الإعلام بمختلف أشكالها من خلال ما تبثّه من رسائل إعلاميّة في تشكيل رؤى الأفراد. والتّأثير في أنماط تفكيرهم والمواقف التي يتخذونها إزاء قضية من القضايا السّياسيّة أو الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة. وقد يتعدّى الأمر ذلك ليطال قيم الفرد ومعاييره التي يحكم بها على الأمور من حوله. إذ بات من الواضح اليوم أنّ تحوّلاً قيميّاً هائلاً لامس الأفراد والمجتمعات على حدٍّ سواء. ولعلّ من أهمّ ما يميّز هذا التحوّل طغيان القيم الماديّة والفرديّة. وانتشار ثقافة الاستهلاك والسّعي إلى الرّبح السّريع في مقابل التّغاضي عن القيم الرّوحيّة وقيم العمل كالمثابرة والفاعليّة والإنجاز والانضباط … وقيم العلم والمعرفة وعدم إيلائها المكانة التي تستحقّ.
إنّ المتتبّع اليوم لوسائل الإعلام المرئيّة والرقميّة يلاحظ احتفاء القائمين عليها بالمواضيع التافهة و”ترميز التافهين “. من خلال استضافتهم المرّة تلو الأخرى والإطناب في الحديث عن حياتهم الخاصّة .وفرضهم على المشاهد إلى الحدّ الذي يجعل منهم حديث مجلسه. ومحور اهتمامه في مرحلة أولى، ثمّ نموذجه الذي قد يقتدي به ويقلّده دون وعي منه في مرحلة ثانية. ولا أدلّ على ذلك من اقتداء بعض الشباب والمراهقين بالنّماذج التي يشاهدونها على شاشات التلفاز. سواء كانت شخصيات وقع استضافتها أو أبطال أفلام ومسلسلات تمّ عرضها وغذّت في نفوسهم الإثارة وحبّ التجربة. وولّدت لديهم أنماطاً سلوكيةً غير معهودة. فقد أثبتت بعض الدراسات أنّ “مشاهدة أفلام الجريمة واللصوصيّة ومطاردات الشّرطة. تكسب المشاهدين، ولا سيّما الأطفال والمراهقين منهم نمطاً سلوكيا يتّسم بالحيلة والخديعة”.
وممّا تجدر الإشارة إليه هنا أنّ الرسالة الإعلامية تُعدّ واحدة من أهمّ العناصر الاتصالية التي تخاطب العقل والفكر والخيال والوجدان. فهي تلعب دوراً هامّاً في برمجة العقول وتوجيه السّلوكيات حتّى أنّ دوائر صنع القرار. أصبحت تراهن عليها لصناعة الرّأي العام وتوجيهه نحو الغايات التي تروم تحقيقها.
2ـ دور الإعلام في صناعة القيم المجتمعيّة:
تتمتّع وسائل الإعلام بتأثير متميّز في قدرتها على زرع الأفكار والقيم الثقافية. وتتأثّر الثقافة بدرجة كبيرة بما تبثّه وسائل الإعلام من رسائل معلَنة وضمنية. كما تلعب هذه الوسائل دوراً هامّاً في تشكيل وعي الأفراد. حيث تؤثر في الطريقة التي يدرك بها الناس الأمور من خلال ما تقوم به من رسم لصور ذهنية لديهم عن الدول والمواقف والأحداث. فالتركيز على الممارسات الشاذّة داخل المجتمع وإظهارها على أنّها سلوكيات ومظاهر متفشيّة فيه وطاغية عليه تحوّلها من ممارسات أحاديّة إلى مظاهر منتشرة بالفعل.
إنّ محاكاة الكثير من برامج التلفزة الوطنية لبرامج أجنبية وتقليدها تقليداً أعمى دون مراعاة الخصوصيّات الثّقافية للمجتمعات المسلمة. وما يسودها من قيم أصيلة جَعَل من القيم المادية القائمة على الفرديّة والاستهلاك وتشيئة الإنسان تتسلّل إلى ثقافاتنا العربية والإسلامية. وتغزو عقولنا وتوجّه سلوكياتنا وهو ما ساهم في حالة من الاغتراب واستلاب الهوية في كثير من الأحيان.
لا شكّ أنّ هذه القيم الوافدة لم تكن نبتة طبيعية لتطوّر ثقافاتنا وإنّما كانت مُسقَطة ودخيلة على مجتمعاتنا وهو ما جعل منها نموذجاً مشوّهاً للقيم التي وقع تقليدها. ممّا أفرز في كثير من الأحيان سلوكيات غير معهودة وغير متناغمة مع ثقافاتنا.
أقرأ أيضا: تأثير وسائل الإعلام في صناعة الرأي العام “بوصلة تحتاج إلى ضبط”
علاوةً على ذلك فإنّ إظهار وسائل الإعلام وخاصّة المرئي منها لما شذّ من التصرّفات والسّلوكيات والظواهر المجتمعية بصورة متكرّرة والتركيز عليها. وإبرازها على أنّها مستشرية داخل مجتمعاتنا يُسهم في التّطبيع مع الظّواهر التي كانت تُعتبر مستهجنةً من قبل العقل الجمعي. مثل التهوين من الخيانات الزوجية أو الإنجاب خارج الأطر الشّرعية أو السّخرية من العلماء والقدوات إلى غير ذلك من الظّواهر المجتمعية.
أسباب تحوّل الظواهر والسّلوكيات غير المقبولة في المجتمع إلى ظواهر مألوفة
وممّا تجدر الإشارة إليه هنا أنّ من أهمّ الأسباب التي تحوّل الظواهر والسّلوكيات غير المقبولة في المجتمع إلى ظواهر مألوفة.: هو تكرار طرحها في كلّ مرّة بطرق مختلفة. إذ تكون تارة في شكل برنامج يعالج القضايا الاجتماعية وتارة أخرى يتمّ تسريبها في الأعمال الدّرامية وطوراً آخر في البرامج الحواريّة. وممّا ينبغي الانتباه إليه أنّ تكرار طرح هذه القضايا غير المألوفة في كلّ مرّة والتهوين. منها على فظاعتها وتعارضها مع قيمنا الأخلاقية يؤدّي إلى حدوث تغيّرات في البُنية المعرفيّة والقيميّة والسّلوكية للأفراد والمجتمعات. وحريٌّ بنا في هذا الموضع التأكيد على أنّ ما تبثّه وسائل الإعلام المرئية يكون أعمق أثراً في نفوس الناشئة لأنّ. ما يتسلّل إلى عقل الطّفل في سنواته الأولى يصعب محوه، لذلك من الضّروري اليوم أن تنتبه الأسرة المسلمة إلى ما يتسرّب إلى عقول أبنائها في غفلة منها.
و هكذا ننتهي إلى أنّ وسائل الإعلام وخصوصاً المرئيّ منها تحتلّ دوراً هامّاً في تشكيل قيم الأفراد وتوجّهاتهم ومواقفهم والمعارف التي يحملونها. وذلك يعود لسعة انتشارها وقدرتها على التأثير واختراق العقول. فهي سلاح ذو حدَّين فكما قد تكون أداة لتخريب العقول وانحلال المجتمعات وانحدارها إذا ما أسيء استخدامها يمكن أن تكون منهلاً للمعارف ومصدراً للتوعية والتوجيه والإرشاد إذا ما حسُن استثمارها، ولتحقيق ذلك توجّب على الإعلاميين ذوي الأهداف النبيلة أن يكثّفوا من البرامج التربوية الهادفة. ويعملوا على صياغة محتويات تنهض بوعي الإنسان وتحفّزه على تطوير ذاته والمساهمة في تنمية مجتمعه وأن يعرّفوا بمفكّري الأمّة وأعلامها ومبدعيها حتّى تقتدي بهم الناشئة ويصبحوا نموذجها الذي تحتذي به، كما يتوجّب على الأولياء مراقبة البرامج التي يشاهدها أبناؤهم وانتقاء برامج هادفة تحمل قيماً ومرافقتهم أثناء مشاهدتها كلّما أتيحت لهم الفرصة، وسؤالهم عمّا علق بأذهانهم من عِبَر لترسيخ القيم في نفوسهم.
الأستاذة: جنات نصراوي – تونس