(دراسة حالة روسيا البوتينية)
الباحث: محمد أيمن سيف الدين
المقدمة
أهداف البحث
يسعى هذا البحث إلى تسليط الضوء على الدور الفاعل لأفكار المفكرين والمنظرين السياسيين في صناعة القرارات المتعلقة بسياسات صناع القرار على المستوى الخارجي تحديدا. وكذلك على مراكز الفكر والدراسات من حيث مفهومها وتأثيرها في صناعة السياسات الخارجية للدول. كما يهدف إلى كشف دور وتأثير هذه المراكز على صناعة القرار في روسيا بشكل خاص منذ ظهور الآيديولوجيا الأوراسية إلى وقتنا الحاضر.
لماذا هذا البحث؟
اللافت للنظر أن مراكز البحث والدراسات قد تحولت إلى ظاهرة عالمية. حيث باتت تمثل أساسا للتغيير الحضاري والإنتاج الفكري والبحث العلمي. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، ظهر دور هذه المراكز كفاعل رئيسي في عملية صنع القرار في السياسات الداخلية والخارجية للدول. مما يثير مجموعة تساؤلات تتلخص في:
- ما هو تأثير مراكز الفكر والدراساتThink Tanks من الناحية النظرية في رسم الأطر العامة للسياسة الخارجية للدول؟
- كم عمق هذا التأثير من الناحية العملية؟
- في الحالة الروسية كيف نشأت الأوراسية وما هو أثرها في تطور الفكر الاستراتيجي ومراكز الفكر والأبحاث. وبالتالي ما هو أثرها في صناعة السياسة الخارجية الروسية في عهد بوتين؟
وبالتالي سيحاول البحث الإجابة على مجمل هذه التساؤلات.
تثار العديد من التساؤلات حول القرارات التي تتخذها الدول في مجال سياساتها الخارجية. لاسيما مع تعقد المشهد الدولي والتطور اللافت في كافة المجالات التي باتت تؤثر في عملية صنع القرار. هذا ما جعل العديد من المهتمين يتوجهون لبحث واستنتاج العوامل التي تساهم في صياغة ذهنية صناع القرار في لحظة محددة إزاء موقف محدد.
تقوم عملية اتخاذ القرار على الاختيار بين البدائل المتاحة والتي تتسم بعدم اليقينية في نتائجها، وترتكز على ثلاثة أركان أساسية هي: الحوافز الشخصية لصانع القرار ومجال الصلاحيات (المقصود هنا تشابك الصلاحيات) والمعلومات. فإذا انطلقنا من مُسلّمة: إن النظام السياسي هو عبارة عن نسق من التفاعلات قائم على الاعتماد المتبادل بين مكوناته. فإنه يمكننا دراسة دور وتأثير الفكر والمراكز البحثية في عملية تزويد صناع القرار بركن المعلومات والأفكار التي قد تمثل بالنسبة لصانع القرار منطلقا نحو فهم الظاهرة أو المسألة موضع القرار. وبالتالي بقدر ما يتوفر لصانع القرار من معلومات تكون قدرته على قراءة المشهد أوسع وتزداد بذلك قدرته على اختيار البديل الأكثر فائدة.
جاء هذا البحث لتسليط الضوء على مفهوم ونشأة المراكز الفكرية والبحثية، وعلى دورها وتأثيرها في عملية صنع السياسات الخارجية للدول. ومن جهة ثانية للتركيز على روسيا كنموذج لتأثير الفكر والمراكز البحثية في توجيه السياسة الخارجية لصناع القرار منذ انهيار الاتحاد السوفييتي حتى الوقت الحالي. وقد تم تناول الموضوع في مبحثين: تناول المبحث الأول: مراكز البحث والفكر من خلال ثلاثة مطالب، الأول يهتم بتسليط الضوء على مراكز الفكر والبحث من حيث النشأة والمفهوم والتأثير. والثاني يركز على أنواع هذه المراكز ومعايير تصنيفها. بينما جاء المطلب الثالث ليتحدث عن أهم مراكز الفكر والبحث الروسية. وقد رأى الباحث أن يكون هذا المطلَب ضمن هذا المبحث مراعياً لسياق التحليل البنيوي المُتَّخذ كمنهج للبحث.
المبحث الأول
مراكز الفكر والبحث والدراسات
تناول المبحث الثاني: دور الفكر ومراكز البحث في توجيه السياسة الخارجية الروسية من خلال مطلبين: في المطلب الأول تم تناول مفهوم الأوراسية ونشأتها وتطوراتها التاريخية. بينما جاء المطلب الثاني للكلام عن الدوغينية وأثرها على بوتين وسياسات روسيا الخارجية منذ استلامه السلطة إلى الآن.
تعتبر مراكز الفكر مؤسسات حديثة النشأة حيث كانت بداياتها الأولى منذ مطلع القرن العشرين. وتعددت وجهات النظر فيما يخص تعريفها وتقسيمها تبعا لمعايير متنوعة. لذلك خصص المبحث الأول في الدراسة للوقوف على نشأة ومفهوم وتصنيف مراكز الفكر والدراسات.
المطلب الأول
مراكز الفكر والبحث – النشأة والمفهوم والتأثير
النشأة
بداية نشأة مراكز لفكر والبحث كانت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، على شكل منابر للنقاش الجماعي. أو لدراسة القضـايا الساخنة الأساسية التي تشغل المجتمع أو صناع القرار. ويمكن تقسيم نشأة مراكز البحث على النحو التالي:
البدايات الأولى لتأسيسها كانت في العشرينات والثلاثينـات. وقد ظهرت أولـى مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تم تأسيس معهد كارنيغي للسلام الدولي 1910، ومعهد بروكينغز1916، و معهد هوفر 1918. ومؤسسة القرن 1919، ومجلس العلاقات الخارجية 1921، المكتب الوطني لأبحاث الاقتصاد عام 1920 وغيرها من المراكز البحثية .وفي بريطانيا تأسس المعهد الملكي للشؤون الدولية عام 1920، وفي فرنسا تأسس المعهـد الفرنسي للعلاقات الدولية. و في ألمانيا تأسست الأكاديمية الألمانية للسلام عام 1931. كما نلاحظ نشأة مراكز بحثية خاصة تعنى بقضايا وشؤون استطلاعات الرأي. في هذه الفترة كان ينظر لمعظم هذه المراكز كمؤسسات أكاديمية نظرية. ولم تستطع أن تؤثر بشكل مباشر في صانعي السياسات، وهذا لا ينفي طبعا تأثيرها غير المباشر في الرأي العام.
في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، اتجهت مراكز الفكر والبحث نحو الاهتمام بقضايا محورية ومعقدة مما زاد من تأثيرها في صناع القرار. فأصبحت تملك في الدول الديمقراطية تأثيراً جليا على الصعيدين الداخلي والخارجي.
في الأربعينيات و الخمسينيات و الستينات، تطـورت من حيث الزيادة العددية والانتشار. و من أشهر هذه المراكز التي تأسست في هـذه الحقبـة، المعهـد الـدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن 1958 و معهد دراسات الشرق الأوسط 1948 في أمريكا. ومعهد انتربرايز الأمريكي لأبحاث السياسات العامة1943، ومؤسسة راند 1952، ومركز أبحاث فض النزاعات 1959، وفي النرويج أسس معهد أبحاث السلام الدولي 1959 . وفي السويد معهد استوكهولم لأبحاث السلام 1966 ، وغيرها في العديد من الدول.
في السبعينات وحتى نهاية القرن الحادي والعشرين. انتشرت المراكـز البحثية في جميع دول العالم وازداد نفوذها، وتنوعت طبيعة اختصـاصها ومجـالاتها البحثيـة. وقد وصل عددها حسب مشروع مؤشرات مراكز الفكر والأبحاث() إلى 6480 مركزا بحثيا متخصصا.
مفهوم مراكز الفكر والبحث العلمي
يعتبر مفهوم مراكز الفكر والبحث العلمي مفهوما فضفاضا يحتاج إلى توضيح، فما هو المقصود من اصطلاح مراكز الدراسات؟
يشير wiarda أن Think Tanks عبارة عن مراكز للبحث العلمي والتعليم، ولكنها ليست جامعات ولا كليات. وليس لديها طلبة، وهي تحاول أن تقدم معرفة عميقة غير سطحية في قضايا أساسية في السياسات العامة. كما أنها ليست شركات تجارية، ولا تشبه جماعات المصالح، وهدفها البحث والدراسات وليس الضغط والنفوذ. وبالتالي فهي منظمات بحثية تهدف أساسا إلى توفير دراسات وأبحاث تتعلق بالقضايا العامة للدولة والمجتمع. وتحاول المشاركة الفاعلة والمؤثرة في السياسات العامة().
إن ما تنتجه مراكز البحث والرأي _كما يسميها البعض_ من تحليلات وأبحاث يُمكّن صانعي القرار وعامة الناس من اتخاذ قرارات مستنيرة في مختلف المجالات. وانطلاقا من هذا المضمون يمكن تعريف مراكز الفكر والأبحاث بأنها: مؤسسات تقوم بالدراسات والبحوث الموجهة لصانعي القرار. والتي تتضمن توجيهات أو توصيات معينة حول القضايا المحلية والدولية، بهدف تمكين صانعي القرار السياسي من صياغة سياسات حول القضايا العامة.
كما تعرف أيضا بأنها: مراكز إنتاج أو إدارة المعلومة البحثية. وتتخصص في مجالات أو قضايا معينة علمية أو فكرية بما يخدم تطوير وتحسين أو صنع السياسات العامة أو ترشيد القرارات أو بناء الرؤى المستقبلية للمجتمع أو الدولة.
وتعرف أيضا بأنها: تجمع وتنظيم لنخبة متميزة ومتخصصة من الباحثين تعكف على دراسة معمقة ومستفيضة لتقديم استشارات أو سيناريوهات مستقبلية يمكن أن تساعد أصحاب القرار في رسم أوتعديل سياساتهم بناء على هذه المقترحات في مجالات مختلفة().
تأثير وأهمية مراكز الفكر والبحث
أصبحت مراكز الأبحاث والدراسات في معظم دول العالم، تلعب دوراً أساسياً في إنتاج المعرفة والبحث العلمي، وما ينتج عنه من تطبيقات على صـعيد توجيه، وصياغة السياسة العامة للدول في مختلف مجالاتها الاقتصادية، والاجتماعيـة، والسياسـية، والتعليمية، وغيرها، وفي كثير من الأحيان يتم اتخاذ القرار في قضايا معينة وفق ما تحدده نتائج دراسات المراكز البحثية.
يتفاوت دور وتأثير مراكز الدراسات والأبحاث في الدول الغربية عموماً، وأميركا خصوصاً. في عملية صنع القرار ورسم السياسات العامة بشكل كبير عما هو عليه في دول العـالم الثالث. فما هو دور، وأهمية، وتأثير مراكز الأبحاث والدراسات بشكل عام؟؟
مهام مراكز الأبحاث
عموماً أصبحت مراكز الأبحاث في أمريكا والكثير من دول العالم المتقدم تعتبر جزءاً عضوياً في عملية صنع السياسـات فـي تلـك الدول. يلخص بعض الباحثين وظائف ومهام مراكز الأبحاث بما يلي:
- إجراء البحوث حول تحليل المشكلات التي تواجه السياسات العامة.
- تقديم الإرشادات أو الاستشارات حول الاهتمامات أو المستجدات العاجلة أو الفورية للسياسات.
- تقويم البرامج الحكومية.
- تقديم التفسير والتوجيه حول المبادرات والسياسات العامة لوسائل الإعلام، وتسـهيل استيعاب الجمهور لها.
- توفير العلماء والكفاءات الأساسية أو الخبرات اللازمة للحكومة لإعداد السياسات العامة.
يحدد مشروع مؤشرات مراكز الفكر المهام والأدوار الأساسية لهـذه المراكـز المرتبطـة بحاجة القادة وصناع القرار في دول العالم بما يلي:
- حاجة القادة لمراكز الدراسات لتزويدهم بتحليل مستقل
- المساعدة في إعداد مكونات وعناصر أو أجندات السياسات
- تجسير الفجوة ما بين المعرفة والتطبيق.
إن طبيعة هذه المهام تعكس مدى وأهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه مراكز الدراسات والأبحاث في التأثير على عملية اتخاذ القرار وعلى صناع القرار. وكذلك في رسم السياسات الخارجية للدولة، سواء كانت دولة متقدمة أو نامية. ذلك لأن هذه المراكز تسهم في تحقيق عدة أهداف منها: الكشف عن أولويات التنمية في المجتمع وما هي أسهل السبل وأسرعها لتحقيق هذه الأولويات من خـلال استخدام الموارد المحلية. وتطوير البحث العلمي المحلي بما يتوافق مع احتياجات البيئة المحلية وتوظيف الموارد الذاتية، ودعم اتخاذ القرار وجعله أكثر عقلانية. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف تأسست العديد من مراكز الأبحاث والدراسـات على شكل مراكز بحثية حكومية أو جامعية أو خاصة. وقد لعبت “ولا تزال” دوراً مهمـاً في توصيف المعضلات والقضايا الجوهرية التي تمس المجتمع على المستوى الداخلي. وكذلك التي تمس مصالح الدولة على مستوى سياساتها الخارجية.
الأعمال البحثية
ليس لدى صناع القرار أو كبار المسؤولين الوقت الكافي ولا المعرفـة المتخصصة في بعض المجالات أو القضايا موضع القرار ولا في رسم السياسات العامة الاقتصـادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية أو غيرها. لذلك فإن مراكز الأبحاث تقوم غالباً بإجراء الأعمال البحثية من أجلهم. يشير هوارد: إلى أن مراكز الأبحاث أصبحت بشكل أساسي تقوم بالتفكير للحكومة. فخبراء مراكز الأبحاث يقدمون الأفكار الجديدة والرؤى الإبداعية بالاعتماد على أبحاثهم أو يرشّدوا السياسات العامة. وأشار أيضا إلى أن مراكز الأبحاث تميل إلى أن تلعب دور الدمج أو التوفيق عند اختلاف أو تنازع البيروقراطية الحكومية حول إعداد سياسـة معينة. أو عندما يكون هناك أطراف حكومية متعددة تشارك في إعداد سياسة في مجال ما.
وتكـون تلك الأطراف غير موحدة أو متوافقة في سياستها ومواقفها ورؤاها، فتقوم عادة مراكـز الدراسات بدور الطرف التوفيقي عند تباين هذه المواقف وسياساتها أو رؤاها. من ناحية أخرى تقدم مراكز الأبحاث والدراسات الخدمات الاستشارية للقطـاع الحكـومي ومؤسساته في العديد من القضايا التي تتطلب معرفة متخصصة وسرعة في الإنجاز واتخاذ القرار. حيـث إن المراكز البحثية عادة تتوفر لها مجموعة أو شبكة من الخبراء داخل وخارج المراكز تكون علـى ارتباط وثيق بها. أو تملك المراكز سرعة في الوصول إلى هذه الشبكة أو السرعة في تكليفها بمهـام بحثيـة أو استشارية معينة. كما تملك المراكز القدرة على توفير البيانات البحثيـة اللازمة لصـناع القـرار والمسؤولين عند الحاجة.
تجدر الإشارة إلى وجود العديد من الإحصائيات حول توزع مراكز الفكر والبحث في العالم. ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا يوجد 1948 مركزا للفكر والرأي، يتركز 347 منها في العاصمة واشنطن().
المطلب الثاني
تصنيف مراكز البحث والدراسات
هناك تنوع واسع لمراكز البحث والدراسات تبعا لتعدد التخصصات ولتنوع القضايا العامة والخاصة. لذلك فإن تعدد طرق تصنيف مراكز البحث والدراسات يعتمد على اختلاف المعايير والأسس التي يقوم عليها التصنيف. ونحن بسبب ضيق مساحة البحث سنقتصر على اتجاه يرتكز على تقسيمها استنادا إلى المعايير التالية.
المعيار الأول: معيار التمويل والارتباط والسلطة العليا للقرار
يتناول هذا المعيار طبيعة العلاقة المرجعية لمراكز البحث والدراسات. وبناء على ذلك تصنف إلى ما يلي():
المراكز البحثية الحكومية: وهذا النوع من المراكز يرتبط ويخضع لملكية القطاع الحكـومي مـن حيث. تعيين إدارته، وتحديد مجالاته وأنشطته البحثية التي ترتبط عادة بسياسات ومتطلبات حكوميـة أو احتياجـات صانع القرار أكثر من ارتباطها باحتياجات أو متطلبات البحث العلمي. وارتباط بيروقراطية القرار فيه بالجهة الحكومية التي يتبع لها، وارتباط ميزانيته بالتمويل الحكومي.
المراكز البحثية الأكاديمية المقصود هنـا أن مراكـز الأبحاث الأكاديمية هي المراكز التي تعتمد على أكاديميين ومنهجيات البحث العلمـي الأكـاديمي. ولا تمارس العملية التعليميـة. هي مراكز بعضها قد يكون مستقلاً لا يرتبط بأي جهة سواء كانت جامعة أو غيرها. وبعضها الآخر قد يكون مرتبطاً بجامعة ما، ومن أمثلة هذا النوع من المراكز البحثية المستقلة معهـد بروكنجز في أمريكا. ومركز الدراسـات الاسـتراتيجية والدوليـة CSIS فـي واشنطن. والمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن .عادة هذا النوع من المراكز يعنى بدراسة القضايا الهامة التي تواجه المجتمع أو الدولة، كما أن تمويل هذه المراكز البحثية يأتي عادة من عدة مصادر: بعضها مؤسسـات تمويـل دوليـة، أو مـن مؤسسات مانحة للبحث العلمي أو مشاريع بحثية حكومية أو شركات كبرى أو رجال أعمال وغيرهـا من المصادر غير المشروطة.
المراكز البحثية الخاصة:
تمتاز بعدم ارتباطها الإداري والقـانوني بالقطاع الحكومي، إنما تنتمي إما إلى القطاع الخاص أو قطاع النفع العـام أو مؤسسـات المجتمـع المدني غير الربحية. وبذلك ينقسم هذا النوع من المراكز البحثية إلى صنفين :
أولاً: المراكز البحثية غير الحكومية وذات النفع العام: هذا النوع من المراكز البحثية لا يخضع في ارتباطه الرسمي أو الإداري أو المالي إلى القطاع الحكومي، وفي نفس الوقت لا ينتمي كلياً إلى القطاع الخاص، ولا يسعى إلى العائد الربحي، ويحمل استقلالية إدارية وقانونية ومالية، وبالتالي تمتاز بالاستقلالية من حيث الأمور التالية: التمويل وأجندتها واهتماماتهما البحثية، والتزامها بالمعايير العلمية والأكاديمية، كما أن أهدافها البحثية تتجه نحو قضايا المجتمع والدولة أو المشاكل الدولية.
ثانياً: المراكز البحثية المرتبطة بالقطاع الخاص، وهذا النوع من المراكز البحثية أنشئ من قبل القطاع الخاص إما: لخدمة الشركات الكبرى التي أنشأته. بهدف القيام بإعداد الدراسات والأبحاث اللازمة لها، وبالتالي تخضع في تمويلها أو أجنـدتها البحثية إلى احتياجات الشركات المنشأة لها. أو أنها أنشئت كمراكز بحثية تنتمي إلى القطاع الخاص. ولكن لا ترتبط أولا تنتمي إلى مؤسسات أو شركات كبرى. وهذه المراكـز الخاصـة متخصصـة ومستقلة من حيث تمويلها، ومن حيث اهتماماتها وأجندتها البحثية. فهذه المراكز يتوفر لها التمويـل إما من خلال المشاريع البحثية التي تتعاقد عليها سواء مع القطاع الحكومي أو مع الشركات الكبرى. أو من خلال التمويل الدولي لأنشطة وبرامج بحثية فـي دولة ما، وغالباً ما يكون هذا التمويل الدولي من هيئات أوروبية أو أمريكية لمشـاريع بعـض هـذه المراكز البحثية في الدول الفقيرة. وتنتشر هذه الظاهرة بشكل واضح في بعض الدول العربية.
المعيار الثاني: معيار الاتجاه السياسي والآيديولوجي
هناك من يصنف مراكز الدراسات والأبحاث وفق الاتجاهات السياسية أو الآيديولوجية، أو وفق طبيعة الارتباط السياسي الحزبي لها. ففي الدول الغربية يمكن تصنيف هذه المراكز إلى الفئات التالية: المراكز البحثية ذات الاتجاه الليبرالي. أو المراكز البحثية ذات الاتجاه المحافظ (القومي أو الديني أو الاجتمـاعي ) أو الآيديولوجي والمراكز البحثية ذات الاتجاه اليساري أو الاشتراكي().
المعيار الثالث: معيار الاستقلالية
صنف برنامج مراكز الفكر والمجتمع المدني في جامعة بنسلفانيا مراكز الأبحاث العاملة في مجال السياسات العامة وفق معيار الاستقلالية على الشكل التالي:
- المراكز البحثية المستقلة تتميز بدرجة كبيـرة مـن الاستقلالية للمركز عن أي جهة، سواء كانت جماعات مصالح، أو مانحين. وكذلك استقلالية ذاتية في أنشطتها وبرامجها أو تمويلها عن الحكومة.
- المراكز البحثية شبه المستقلة: هي المراكز التي تكون مستقلة عن الحكومة، ولكن تزود جماعات المصالح مثل النقابات أو المانحين أو هيئات الـدعم وتؤثر بشكل ملحوظ في أنشطتها وبرامجها.
- المراكز الجامعية: هي عبارة عن مراكز تُعنى بأبحاث السياسات العامة، وتكون ضمن أو مرتبطة بجامعة ما.
- مراكز أبحاث الأحزاب السياسية: هي المراكز البحثية التي تـرتبط بأحزاب سياسية بصورة رسمية، كما هو حاصل في أمريكا مـع الحـزب الـديمقراطي أو الحـزب الجمهوري.
- مراكز الأبحاث الحكومية: هي مراكز الأبحاث التـي تمـول بشـكل حصري من منح وعقود حكومية. ولكنها لا تكون جزءاً من بنيتها الهيكلية.
المطلب الثالث
مراكز الأبحاث في روسيا
تحتل روسيا المرتبة السابعة عالميا في تصنيف جامعة بنسلفانيا لمراكز الفكر في العالم لعام 2018 بعدد 215 مركزا. وهو ما يشير إلى اهتمام القيادة السياسية بتعزيز قوة روسيا الفكرية. وتدعيم مصالحها الدولية في مواجهة القوى التي تسعى لاحتوائها، حيث تضمنت وثيقة أمن المعلومات الصادرة عام 2016 دور مراكز الفكر ومنظمة المجتمع المدني في إتاحة المعلومات الموثوقة والصحيحة عن سياسات الحكومة للمجتمعين الروسي والدولي().
وتعمل الحكومة الروسية على استمالة مجتمع مراكز الفكر من خلال توجيهه لخدمة أهداف الدولة في التواصل مع الخبراء الدوليين ورعاية مؤتمرات دولية. حيث يحرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (على سبيل المثال) على حضور المؤتمر السنوي لمركز فالداي الحكومي للحوار الدولي. ويتواصل من خلاله مع الخبراء والساسة الأوروبيين، كما يعد نافذة هامة لطرح رؤية روسيا للتطورات على الساحة الدولية. وتتنوع مصادر تمويل تلك المراكز بين المؤسسات الحكومية والخاصة في إطار رغبة رجال الأعمال في إيجاد قنوات اتصال مع القيادة السياسية. التي تسعى لضبط دور مراكز الفكر لتعزيز قوتها الناعمة وتدعيم خططها الاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك توجد مراكز فكر دولية تتمتع بدرجة أعلى من الاستقلالية في التمويل وفي تحديد أجندتها البحثية، مثل: مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي.
أبرز مراكز الفكر في روسيا:
مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي
تحتل المرتبة 27 عالميا ضمن تصنيف جامعة بنسلفانيا لمراكز الفكر عام 2018. وتهتم بقضايا روسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق، إلى جانب دراسة التفاعلات الدولية في نطاق آسيا_باسيفيك والسياسة الروسية حيال نزاعها مع اليابان. بالإضافة إلى سعي المؤسسة لإيجاد صيغة من الحوار والتفاهمات المشتركة بين كل من روسيا والصين والولايات المتحدة حول تعزيز الأمن والسلم الدوليين.
معهد بريماكوف للاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية
يحتل المرتبة 34 عالميا، ويعد من أقدم مراكز الفكر في روسيا، وقد جاء امتداداً لمعهد السياسة والاقتصاد العالمي في الحقبة السوفيتية، ويسعى لاستشرف حالة الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية، ويتفرع من المعهد تسعة مراكز متخصصة بدراسات المناطق، وثمان وحدات بحثية تركز على قضايا الاقتصاد العالمي.
المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية
أسس عام 1992، وظل تابعا لوكالة المخابرات الخارجية الروسية حتى عام 2009، حيث أصبح تابعا للقيادة الروسية. وتتلخص مهمة المعهد في تزويد الرئاسة بالدراسات المتعلقة بقضايا الأمن القومي وعلاقات روسيا بالدول الأخرى. واستشراف التحولات السياسية والاقتصادية على الساحتين الإقليمية والدولية. بالإضافة إلى استكشاف الوسائل والآلية المتاحة للحفاظ على التوازن الاستراتيجي وحل الأزمات التي تهدد الأمن الدولي. مع إيلاء الاهتمام بملف مكافحة الإرهاب.
مجلس السياسة الخارجية والدفاعية
يعد من أهم مراكز الفكر في روسيا خاصة في تسعينيات القرن الماضي، وهو مركز غير حكومي يحظى برعاية الدولة الروسية. ويضم في عضويته العديد من العلماء والباحثين من مراكز الفكر الأخرى والسياسيين والدبلوماسيين، على رأسهم وزير الخارجية الحالي سيرجي لافروف. والمدير العام الحالي لوكالة الفضاء الروسية ديمتري روجوزين. ووصل المجلس إلى ذروة تأثيره في عملية صنع القرار بروسيا في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسن مع تولي أحد أبرز أعضائه يفيغيني بريماكوف منصب وزير الخارجية 1996، ثم رئاسة الوزراء عام 1998.
المبحث الثاني
دور الفكر ومراكز البحث في توجيه السياسة الخارجية الروسية
تعتبر الأوراسية بشكل عام إطارا آيديولوجيا للانطلاقة الروسية نحو بناء حضارتها الحديثة. وقد نشأت الأوراسية على أيدي تيار من المفكرين الروس بهدف بلورة الرؤية العالمية المتعلقة بالطموحات الروسية، ذلك في مقابل الرؤية الكونية الغربية. وقد جاء هذا المبحث للوقوف على جوهر الأوراسية، ومدى تأثيرها في صناع القرار الروس منذ نشاتها إلى عهد بوتين. من خلال مطلبين سنحاول خلالهما اختصار الموضوع بما لا يخل بالهدف الرئيسي الذي يسعى البحث للوصول إليه.
المطلب الأول
الآيديولوجيا الأوراسية – النشأة والتأثير
الأوراسية مصطلح حديث النشأة، فقد جاءت انطلاقتها الأولى في مطلع القرن العشرين كردة فعل على الاشتراكية والليبرالية في نفس الوقت. سيتناول هذا المطلب الأوراسية من حيث المفهوم والنشاة والتأثير في توجيه السياسة الخارجية الروسية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي حتى الوقت الحاضر.
مفهوم الأوراسية
ظهرت الوراسية في 1920 من خلال عدد من المفكرين المهاجرين الروس الهاربين من السلطة البلشفية. وتجدر الإشارة قبل عرض تعريف الأوراسية إلى أن هذا المصطلح مرتبط بأسس دينية وتاريخية وجغرافية.
تعرف الأوراسية بأنها: آيديولوجيا ذات طابع اجتماعي وسياسي لتيار فكري ولد ضمن بيئة الموجة الأولى من المهاجرين الروس إلى أوربا عام 1920، وتعمل هذه الآيديولوجيا على توحيد مفهوم الثقافة الروسية بوصفها ظاهرة غير أوربية، وتقدمها _من بين ثقافات العالم المختلفة_ على أنها مزيج عرقي من المميزات الغربية والشرقية، ونتيجة ذلك تنتمي الثقافة الروسية إلى كل من الشرق والغرب ولا تختزل في أحدهما().
تقوم الأوراسية على أسس ومبادئ دينية أرثوذكسية تدعو إلى نظام اجتماعي قائم على مبادئ فاضلة مستوحاة من الأرثوذكسية، باعتبار الدين هو قاعدة مشتركة وهوية ثقافية(). فالطابع الديني وتحديدا الآرثوذكسي يمثل مبدأ رئيسيا لكل المفكرين الأوراسيين. لذلك صاغوا أطروحاتهم عن الحضارة الروسية على أساس قيم ذات طابع تقليدي شرقي في مواجهة قيم الحضارة الغربية الليبرالية الحداثوية. بالتالي فالأوراسية هي امتداد للمواجهة بين الحضارة البيزنطية الارثوذكسية وعاصمتها القسطنطينية، والحضارة الرومانية الكاثوليكية وعاصمتها روما. هذا من جهة. ومن جهة ثانية فهي صراع بين التقاليد والحداثة على المستوى الاجتماعي. وصراع مع الليبرالية على المستوى السياسي، وصراع بين قيم الفرد وقيم الجماعة على المستوى الثقافي.
يمكن القول: إن الفلسفة الأوراسية تقوم على: أسس ومبادئ دينية، وأسس ومبادئ اقتصادية، وأسس ومبادئ ثقافية قومية.
نشاة الأوراسية
ظهرت الحركة الأوراسية كرد فعل على الثورة البلشفية وانتصار الجيش الأحمر الشيوعي. وكان تأسيسها على يد مجموعة من المفكرين الروس المعارضين للشيوعية، فعملوا على صياغة آيديولوجية جديدة في مواجهة الآيديولوجية الشيوعية. وقد كان ( نيكولاي تروبتسكوي و بيتر سافيتسكي ) أول المؤسسين ثم انضم إليهم عدد من المفكرين المعارضين المهاجرين. وكان ذلك في أوائل العشرينيات من القرن الماضي.
كانت فترة ما بعد الحرب الباردة صعبة على الأوراسية. حيث كادت أن تختفي كليا مع اعتقال وموت أغلب أعضائها، ولم يعد لها وجود مقابل سيطرة الآيديولوجيا الشيوعية.
مع ضعف الاتحاد السوفيتي ثم انهياره في 1991. عادت الأوراسية للظهور في أوساط المثقفين الروس، إلا أنها وجدت نفسها في مواجهة عدو آخر هو التيار الليبرالي الموالي للغرب الذي كان يعيش حالة الانتصار على الشيوعية. كذلك برزت أفكار أوراسية جديدة بعضها تقليدية وبعضها براغماتية. بعد ذلك تطورت الأوراسية وازداد الاهتمام بها حتى وصلت إلى مرحلة مهمة مع وصول بوتين للسلطة. وهنا بالتحديد تبلورت أهمية الأوراسية (الجديدة بشكل خاص) في صنع القرار السياسي الخارجي لروسيا.
الأوراسية التقليدية
لقد وضع مفكروا الأوراسية التقليدية نموذجا شبه متكامل للدولة الأوراسية. قائمة على آيديولوجية قومية ترى في روسيا حضارة قارية تجمع بين سمات الثقافة الشرقية والغربية، ولا تنتمي لأي منهما. بل هي حضارة تشكلت نتيجة امتزاج الشرق بالغرب. فهي وريثة المكانة الدينية للحضارة البيزنطية، ووريثة امبراطورية جنكيز خان من حيث توسعها الجغراقي (). أما من الجانب الجيوبولتيكي فإن الأوراسية لا تدعو صراحة إلى التوسع الجيوبوليتيكي. بل تدعو إلى الحفاظ على المكانة الجيوسياسية لروسيا بوصفها هي المؤهلة للسيطرة على الفضاء الأوراسي وتوحيد الشعوب الأوراسية سياسيا في امبراطورية موحدة.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ظهرت عدة اتجاهات ومشاريع سياسية متناقضة في الوسط الروسي ما بين ليبرالية يسارية تدعو إلى التوجه نحو الغرب والعولمة وبين اتجاهات يمينية تنادي بتفرد روسيا كحضارة فريدة.
يمكن تقسيم هذه الاتجاهات كما يلي():
الاتجاه الليبرالي
أبرز روادها غورباتشوف ويلتسن بين 1985-1996. يقوم هذا على الإصلاح الاقتصادي ( البيروسترويكا ) والتحول إلى الاقتصاد الرأسمالي، إضافة إلى اتباع سياسة الانفتاح والشفافية ( سياسة الغلاسنوست). وكانت مضادة للأوراسية.
الأوراسية البراغماتية
ظهرت بين 1996-1999. ومن أبرز روادها يفغيني بريماكوف. تقوم على إمكانية أن تتبع روسيا نظاما ديمقراطيا مع التأكيد على تفردها الثقافي والحضاري الذي يمنعها من التبعية للغرب.
الأوراسية الحضارية
هي امتداد للأوراسية التقليدية، تنظر إلى روسيا كحضارة أوراسية متميزة عن أوربا. وتقسم الأوراسية الحضارية إلى تيارين:
- الأوراسية الجديدة: من أبرز روادها الكسندر دوغين الذي تميزت كتاباته بمعارضة سياسات يلتسن التي تقوم على التقارب مع الغرب مما أضعف المكانة الدولية لروسيا. فقد أسس دوغين نموذجا متطورا عن الأوراسية التقليدية يختلف عنها بجوانب معينة ويتشابه معها في أغلب الجوانب. ولعل فكرة كونية الحضارة الروسية هي الجانب الأهم الذي اختلفت فيه أوراسية دوغين ( الجديدة ) عن الأوراسية التقليدية. حيث جاءت الأوراسية الجديدة على العكس تماما من التقليدية فأعلنت عن نفسها كآيديولوجيا كونية عالمية بشكل مطلق. فهي ترى أن مقاومة الهيمنة الأمريكية تقوم على استراتيجية مكونة من شقين: الأول جيواقتصادي، والثاني جيوسياسي. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تغيير الوضع القائم بما يتلاءم مع المصلحة الروسية في إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب().
- الأوراسية التقليدية الجديدة: هو التيار الثاني من الأوراسية الحضارية، نشأ في 2010. بقيادة المفكر الشاب يوري كوفنر. يعارض هذا التيار الأوراسية الجدية ( أوراسية دوغين ). فقد وجه الانتقاد إلى دوغين من حيث إنه –أي دوغين_ قد أدخل تعديلات كبيرة على الأوراسية التقليدية مما غير معناها ومضمونها، وهذا ما دعاه إلى إعادة إحياء الأوراسية التقليدية مع تعديلات قليلة لتتناسب مع الوضع الدولي الراهن. ويقوم هذا الاتجاه على تبني استراتيجية ذات سياسات ناعمة تستخدم فيها روسيا مواردها الاقتصادية والثقافية والآيديولوجية لتحقيق أهدافها بعيدا عن الصراع العسكري والتدخل العسكري المباشر(). ورغم حداثة هذا التيار إلا أنه حظي باهتمام صناع القرار في روسيا حيث انعكس في السياسات الناعمة لروسيا في فضاء الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي من خلال تشكيل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. رغم ذلك لم يصل إلى مستوى تأثير تيار الكسندر دوغين في صناعة السياسة الخارجية في روسيا، وهو التيار ذو الصبغة الواقعية الداعي إلى تشجيع التدخل الروسي في جورجيا وأوكرانيا وسوريا وليبيا وأذربيجان. وسيتبع ذلك حتما تدخلات روسية في غير منطقة في المجال الأوراسي.
المطلب الثاني
الكسندر دوغين _ الأوراسية الجديدة وأثرها في صناعة السياسة الخارجية الروسية
وصف دوغين بأنه عقل بوتين لما له من تأثير على الرئيس الروسي بوتين، الأمر الذي دعا للبحث في مدى تأثير دوغين في السياسة الخارجية الروسية، والبحث أيضا في دور بوتين في محاولة إعادة روسيا إلى مكانتها العالمية. من أجل ذلك تم تخصيص هذا المطلب لدراسة الأفكار الدوغينية ومدى تأثيرها في بوتين.
الكسندر غيليفيتش دوغين ( 1962 )
هو ناشط وفيلسوف سياسي ومؤسس العقيدة الأوراسية الجديدة، ولد في موسكو عام 1962. درس اللغات الأجنبية وهو يتقن تسع لغات، كان معارضا للنظام السوفياتي والآيديولوجيا الشيوعية، عين عام 1998، رئيسا لمركز التجربة الجيوبوليتيكية. أسس الحركة الأوراسية عام 2001، وأعلن تأييده لسياسات بوتين، وبسبب ذلك حظيت الحركة بدعم من شخصيات يهودية ومسيحية وإسلامية. كما أسس عام 2002، الحزب السياسي الأوراسي وكان زعيما له، وهو أول حزب سياسي يسعى إلى تطبيق رؤية الأوراسية الجيوبوليتيكية. ثم تحولت الآيديولوجيا الأوراسية إلى حركة آيديولوجية دولية وقد تم الإعلان عن الحركة الأوراسية العالمية عام 2003، وانضم اليها أعضاء من دول مختلفة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي أو من دول اخرى مثل ألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ولبنان وغيرها().
تقوم الأوراسية الدوغينية على محورين رئيسيين هما:
- الأوراسية الجديدة: تتصف() بأنها أوراسية كونية وليست إقليمية، تطرح مشروعا جيوبوليتيكيا تتحالف فيه روسيا مع محاور استراتيجية في أوربا وآسيا بهدف السيطرة على القارة الأوراسية وإزاحة النفوذ الأمريكي. أيضا هي ترى أن هناك مشتركات ثقافية بين أوربا وروسيا معارضة لليبرالية يمكنها أن تتحالف لمواجهة الهيمنة الأمريكية، وأخيرا هي تطرح فكرة: إن المدى الجيوبوليتيكي لأوراسيا يشمل كامل أوروبا وآسيا.
انطلاقا من الأوراسية الجديدة حدد دوغين ما سمي بمبدأ العدو المشترك الذي يقوم على أساس ثلاثة محاور: محور موسكو برلين، ومحور موسكو طوكيو، ومحور موسكو إيران.
- النظرية السياسية الرابعة: ابتكر دوغين النظرية السياسية الرابعة -تعتبر الجيل الرابع من النظريات السياسية- حيث يصنف دوغين النظريات الثلاث السابقة كما يلي: الليبرالية، الشيوعية، الفاشية.
يرى دوغين أنه من الضروري إيجاد نظرية سياسية تقاوم الليبرالية في عصر ما بعد الحداثة، فهو يصف النظرية السياسية الرابعة بأنها ثورة محافظة لرفض ومقاومة كل من: ما بعد الحداثة الليبرالية، والعولمة، والتجربة السياسية التي تقوم على الفكر الليبرالي.
بحسب دوغين فإن موضوع النظرية السياسية الرابعة تقوم على الافتراضات التالية:
1 – موضوع النظرية مركب يتكون من العناصر الإيجابية للنظريات السابقة.
2 – هي تقوم على القيم الدينية.
3 – ترفض التمييز العرقي الموجود في الفاشية.
4 – ترفض الصراع الطبقي الموجود في الشيوعية.
5 – تعادي الليبرالية عموما، لكن تستعير منها عنصر الحرية كمبدأ إيجابي بصيغة مختلفة عن الصيغة الليبرالية.
العقيدة البوتينية بين الأوراسية البراغماتية والأوراسية الجديدة
البوتينية هي عبارة عن نظام استبدادي يمثل مصالح العديد من الجماعات في المجتمع الروسي(). يمكن تعريف البوتينية بأنها: التطبيق العملي للنماذج المختلفة من الأوراسية بحيث يجمع هذا التطبيق خصائص الأوراسية بكافة أشكالها (البراغماتية أو التقليدية أو الجديدة). وذلك حسب مقتضيات الواقع الداخلي والخارجي لروسيا(). وقد جاء هذا التعريف من ملاحظة أن فلاديمير بوتين منذ استلامه الحكم عام 2000، قد سعى مابين (2000 – 2008) م. إلى تطبيق الرؤى الأوراسية ولعل نموذج الأوراسية البراغماتية هو أول نموذج تم تطبيقه وذلك بالعمل على تطوير العلاقات مع دول آسيا والسعي لإقامة نظام متعدد الأقطاب تكون فيه مكانة روسيا متميزة. وقد عمل بوتين على تطوير هذا المبدأ إلى أن عرف فيما بعد بمبدأ بوتين في السياسة الخارجية (). يقوم مبدأ بوتين على النقاط التالية:
- التركيز على الإصلاحات الداخلية.
- تطوير دور روسيا الاتحادية في عالم متعدد الأقطاب لا يخضع للهيمنة الأمريكية.
- استعادة دور روسيا تدريجيا في آسيا والشرق الأوسط.
- عدم السماح للغرب بتهميش دور روسيا في العلاقات الدولية.
- الحفاظ على روسيا كقوة نووية عظمى.
- التخلص التدريجي من نتائج الحرب الباردة.
- إعادة الترابط مع جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.
- ستعمل روسيا على دعم بيئتها الأمنية في الشرق الأقصى.
- معارضة القطبية الواحدة المتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية.
بوتين والأوراسية البراغماتية
انشغل بوتين بين عامي 2000 – 2008 بإعادة ترتيب السياستين الداخلية والخارجية. فعمل على المستوى الداخلي على إنهاء الأزمة الاقتصادية وحسم الحرب الشيشانية ومعالجة مسألة فساد الطبقة الأوليغارشية. أما على المستوى الخارجي فقد تمثلت سياساته في النقاط التالية().
- تعزيز العلاقات مع الغرب.
- السعي لإقامة عالم متعدد القطبية.
- التعاون مع الصين لمنع الانتشار العسكري الأمريكي في آسيا الوسطى.
- العمل على إنجاز عملية التكامل الأوراسي.
لقد اتسمت السياسة الخارجية الروسية في هذه المرحلة بالواقعية والديناميكية والمنافسة والمرونة().
بوتين والأوراسية الجديدة
مثلت أزمة اوسيتا الجنوبية 2008 اختبارا حقيقيا للسياسة الروسية تجاه الغرب، فكانت دليلا على عدم استعداد روسيا للتفريط بالقوقاز لصالح الغرب وحلفائه. وقد جاء الاندفاع الروسي في هذه الحرب تحت تأثير النخبة الأوراسية المؤثرة في القرار الروسي. وبالتالي كان عام 2008 نقطة تحول فعلي في السياسة الروسية نحو تبني الأوراسية الجديدة، حيث بدأت روسيا فعليا بالإعداد لمشروع النظام العالمي الجديد والتحرك مع الصين لبناء منظمة دول البريكس 2009 في محاولة لخلق توازنات اقتصادية في مواجهة النظام الرأسمالي العالمي.
بعد عام 2008 تصاعد دور الأوراسية الحضارية في الاستراتيجية الروسية نتيجة بروز تيارين: الأول هو التيار القومي الذي تبنى إعطاء بعدا جيوسياسيا للحضارة الروسية، والثاني هو التيار الديني الذي تبنى إعطاء روسيا بعدا دينيا بوصفه امتدادا لحضارة أرثوذوكسية. وقد عمل هذان التياران على الحد من التوجه الروسي نحو الغرب وتبني فكرة أن روسيا حضارة أوراسية آرثوذكسية(). وتتلخص الاستراتيجية الروسية منذ 2008 إلى الآن بثلاث نقاط أساسية():
- تخليص روسيا من الحصار الغربي العسكري والاقتصادي والسياسي.
- محاولة ربط منطقة أوراسيا بمصالح اقتصادية بالتنسيق مع الصين.
- تحقيق تقارب بين دول آسيا الوسطى والصين والهند وإيران من خلال مفهوم الأمن الجماعي.
بناء على ذلك يمكن تقسيم مراحل تطور الفكر الاستراتيجي الروسي منذ سقوط الاتحاد السوفياتي إلى ثلاث مراحل():
- المرحلة الليبرالية: بين 1991 حتى 1996.
- مرحلة الأوراسية البراغماتية: بين 1996 حتى 2008.
- مرحلة الأوراسية الجديدة: منذ 2008 حتى الوقت الحاضر.
خاتمة البحث
انتهى البحث إلى النتائج التالية:
- أصبح لدور الفكر والمراكز البحثية مكانة عملية فاعلة كمكون أساسي من مكونات الدولة على كل المستويات العلمية والعسكرية والفكرية والنهضوية والسياسية، بحيث مثلت حجر الأساس في وضع الخطط واتخاذ القرارات في كل ميدان من هذه الميادين.
- اتجهت الدول إلى تمكين مراكز الفكر والبحث من حيث عددها ونوعها، فقامت بإنشاء مراكز متخصصة، وانعكس ذلك على درجة تأثير هذه المراكز.
- لعبت المراكز البحثية دورا عميقا في عملية صياغة السياسات الخارجية للدول، لدرجة عدم خلوّ أي قرار سياسة خارجية لدولة ما من مضمون ناتج عن دراسات معمقة وقاعدة بيانات موسعة عن الظاهرة موقع القرار بحيث تخضع هذه البيانات إلى عمليات تحليل تخصصية، وبالتالي يتم امداد صناع القرار بنتائج هذه التحليلات. وهذا الدور تحديدا هو محور دور الفكر والمراكز البحثية.
- فيما يخص روسيا لعبت الأوراسية الدور الأبرز بعد انهيار الاتحاد السوفييتي حتى الوقت الحاضر، والمهتم سيجد أن السياسات الروسية تسير على الخط الذي ترسمه نماذج الأوراسية بشكل لافت.
- اعتمد بوتين في إنتاج ما سمي بالمبادئ البوتينية على نماذج الأوراسية الحضارية، وقد كان لأفكار دوغين أثرا واضحا في صياغة ذهنية بوتين وبالتالي في صناعة قرارات السياسة الخارجية الروسية
أقرأ أيضا: الفكر الإسلامي في مواجهة تحديات عصر السيولة
المراجع
- Marlene Laruelle, The “Russian World”: Russia‟s Soft Power and Geopolitical Imagination, Washington, DC: The Center on Global Interests, 2015.
- Alexander Dugin, Eurasian Mission: an Introduction to Neo-Eurasianism, Editor: John B. Morgan IV, Arktos Media Ltd, 1st edition, UK 2014.
- The Neo-Classical Eurasianism Ideology Eurasian movement Russian Federation, NO 1, December 2016, Eurasian movement website, available online on the next URL: www.eurasian-movement.ru
- عبد علي كاظم المعموري،الصراع الروسي الاميركي، أوراسيا مقابل الاطلسي، شؤون الاوسط، العدد 154، بيروت، مركز الدراسات الاستراتيجية، 2016.
- حسن فاضل سليم حسين، دور الوراسية في تطور الفكر الاستراتيجي الروسي بعد عام 2000، بغداد، 2018.
- احمد بدر، أصول البحث العلمي ومناهجه، دار المعارف بمصر، الطبعة 5، 1989.
- خالد عليوي العرداوي، تفعيل دور مراكز الأبحاث في صنع القرار السياسي العراقي، مركز الفرات للتنمية والدراساتالاستراتيجية، 2013.
- صباح عبد الرزاق كبة ، مراكز الأبحاث الأمريكية ودورها في عملية صنع القرار في السياسة الخارجية، الأحمدي للطباعة، الطبعة الأولى، بغداد، 2015.
- الكسندر دوغين، أسس الجيوبوليتيكا مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، الطبعة العربية 4004.
- وولتر الكوير، البوتينية: روسيا ومستقبميا مع الغرب، ترجمة: فواز زعرور، بيروت: دار الكتاب الجديد، 9102.
- وليد حسن محمد، دور الرئيس فلاديمير بوتين في رسم الاستراتيجية الروسية الجديدة، دراسات دوليةـ العدد 65، بغداد، مركز الدراسات الدولية الاستراتيجية،2016.
- امينة مصطفى دلة، المخيلة الجيوبوليتيكية الروسية والفضاء الأوراسي، دراسات استراتيجية، القاهرة، المعهد المصري للدرااسات، العدد27
- دور مراكز الفكر في دعم واتخاذ القرار إقليميا ودوليا.. دراسة مقارن، مركز الحكمة للدراسات والبحوث والاستشارات، 21 سباتمبر، 2020، https://www.alhekmh.com.kw/?p=2023
- سامي الخزندار، طارق الأسعد ، دور مراكز الفكر والدراسات في البحث العلمي وصنع السياسات العامة، مجلة السياسة والقانون، العدد 6، 2012.