هل تساهم الرياضيات في نجدة السياسة

هل تساهم الرياضيات في نجدة السياسة

مدخل:

لعل إحدى مشكلات الرياضيات تكمن في كونها علما مجردا. لكن هذه الخاصية قد تكون أيضا سبب قوتها، لأنها تسمح لنا نحن البشر المولعون بالمحسوسات بالإسقاط و القياس على الكائنات الحية وعلى الوقائع و الحوادث.

وهكذا فإن الرياضيات تعلمنا طرائق الاستدلال والتفكير المنطقي والتجريد، كما قد  تغرينا بمقاربة تسمح ب”ترييض” المعادلات الاجتماعية والسياسية والتاريخية، تثري طرائق النظر إذا تم التعامل معها بالحذر المنهجي الضروري.

ولطالما أفضت بنا معالجتنا لبعض المعادلات إلى انعدام الحلول، وكنا نتصور أن هذا الوضع خاص بفضاء الرياضيات، ولم تكن التفاؤلية النضالية تسمح بتوقع أن يصدق مثل ذلك الحكم على الظاهرة السياسية.

ودون أن أفقد تفاؤليتي فان الأوضاع الراهنة تؤكد لي أن الحياة السياسية يمكن أن ترتطم   بوضع تغيب فيه الحلول، والمقصود هنا هي الحلول الناجعة وذات القابلية للاستمرار، وهذا التدقيق لأنه يطمئننا إلى أن الحياة لن تتوقف رغم غياب الحلول، ولكنها تستمر بنوع من الانزلاق الميكانيكي التلقائي، في سياق دون روح.

ذلك أن استمرار حالة التوازن بين الفاعلين في المعادلة  تؤدي إلى عطالة تستحيل   زحزحتها (توازن العجز )، أو تكون غير منتجة إن حدثت (التوازن العقيم ).

ولكن الرياضيات نفسها تشفق لحالنا، ولا تغلق الأبواب في وجوهنا، إذ تنتهي بالتأكيد أن غياب الحلول ليس مطلقا، وإنما هو متعلق بشروط معينة و في مجال صلاحية معين وبتغيير الشروط وتغيير ميدان الصلاحية يمكن أن تنتهي حالة الانسداد، وتتبلور الحلول الجديدة، وإن أخذ الامر زمنا.

أولا: توازن العجز:

-1- خارطة الفاعلين:

-أ- صاحب سلطة الأمر الواقع الذي يستمد قوته من موقعه، ومن مسايرة القوى الصلبة، ومن عدم معارضة الفاعل الخارجي المؤثر، و من غياب بديل، ومن موقف المزاج  الاجتماعي.

-ب- الفاعل السياسي الذي بادرت بعض مكوناته الى معارضة ما حدث يوم 25 يوليو 2021، وكانت لها فضيلة اقتحام حاجز الترهيب وكسر جدار الخوف بفعاليات مستمرة منذ 16 سبتمبر 2021.

ومن المفارقات أن سياسات سعيد وممارساته تعزز صفوف معارضيه.

وتكمن قوة الفاعل السياسي في امتلاكه شارعا متحفزا وقابلا للتعبئة ومتعودا على النضال الميداني، وفي دفاعه عن أهم قضية جمعت النخب التونسية منذ عقود، وازدادت ثقافتها رسوخا خلال العشرية الأخيرة  في عدد من القطاعات المهمة مثل القضاء. كما أن الفاعل الدولي محتاج إلى تجربة في المنطقة تتوفر على حد أدنى من رتوش الديموقراطية دون أن تربك حساباته فيها. 

لقد أبرز الفاعل السياسي الديموقراطي نجاعته  في معركة مقاومة الاستبداد، دون أن يبرز نجاعة مقاربة لفرض الحوار على سلطة الامر الواقع أو فرض رحيلها، ولا في بناء جسور الثقة مع المزاج الشعبي.

-ج- الفاعل المدني الذي فاجأ كل المتابعين والممولين بهشاشته وارتباكه أمام حدث يوليو 2021 ، وفضح  ضعف التزامه الديموقراطي. وجاءت استفاقته متأخرة كما هو شان عدد من مكونات المشهد الحزبي والاجتماعي.

 وترافقت هذه الاستفاقة المتأخرة مع ارتكاس من النضال الحقوقي الشامل المندرج  في مسار بناء  الديموقراطية  إلى التركيز على مربعات تظل جزئية  مثلما كان عليه الشأن زمن مقاومة استبداد بن علي.

 -د- الاتحاد العام التونسي للشغل هو الفاعل الاجتماعي المنظم الأساسي. وقد خضع موقفه وسلوكه مما حدث إلى استراتيجيته التقليدية في الاقتراب من مركز السلطة، أو المزايدة التكتيكية مع إضمار الوصول إلى حلول توفيقية تضمن موقعا في مربع النفوذ، و هي ذات الثقافة التي تسربت الى غالب المنظومة الحزبية وكانت من أهم أمراضها.

لقد سعت المنظمة النقابية إلى إنكار مسؤوليتها في أوضاع ما قبل جويلية 2021، وعرضت خدماتها على سلطة الامر الواقع وتحملت الإهانة والتجاهل، ولم تحسن قراءة سلوك صاحب السلطة، كما أضعفتها توازناتها الداخلية وربما الخشية من إثارة ملفات ضد عدد من المسؤولين النقابيين، ولا يستبعد أن تكون تفاعلت مع صفقة خارجية تضمن التأمين مقابل الانسحاب من المربع السياسي.

لذلك كانت استفاقتها متأخرة، ولا تزال مرتبكة وجزئية، وفقدت بانحيازها  واختيارها تموقعا  ملونا موقع حكم محتمل في مسار جامع. كما أن  الهندسة الأولية المقترحة لادارة ما تعتبره حوارا وطنيا  تشبه مكونات أطروحة “الحزب اليساري الكبير “الذي تنادي به بعض الأصوات منذ منتصف الثمانينات.

-ه- الفاعل المالي والاقتصادي الذي كان رد فعله باهتا رغم الضرر البالغ في مناخ الاعمال، والسلوك المنفر من الاستثمار في البلاد، والإجراءات الجبائية القاسية، والدمار الذي لحق بنسيج المؤسسات الصغرى و المتوسطة.

وقد يفسر ذلك بالخشية من إطلاق يد القضاء في متابعات عشوائية خطورتها على السمعة وفرص الشراكات محتملة أكثر من خطورة الأحكام التي قد تصدر.

-و- المزاج الشعبي الذي يلاحظ حرص جهات خارجية عديدة على قياس نبضه في دوريات متقاربة بما يؤكد عمق الأزمة وتوقع الجميع لاحتمال المفاجآت.

ويجب قراءة ترحيب فئات واسعة من التونسيين بما حدث في 25 جويلية باستحالة استمرار حالة الانسداد وغياب الدولة، بما يعني تجديد المراهنة على الإنقاذ وإمكانية تحقيق المطالب  التي ما فتئت تتكرر منذ سنة 2015 على الأقل.

وقد أعطى المزاج الشعبي صاحب السلطة فترة إمهال فصمدت شعبيته قبل أن يتسارع نسق تآكلها لاحقا بسبب الفجوة بين أجندة سعيد واجندة الشعب الذي يريد.

إن المعارضة تخطيء عندما تعتبر فضيحة نتائج انتخابات 17 ديسمبر انتصارا لموقفها.

ورغم أن اللامبالاة بالانتخابات وبالفعاليات التي ينظمها الشارع السياسي تحسب سياسيا لصالح استمرار الوضع الراهن، فإن سعيد يخطيء أيضا إذا راهن على استمرار هذا الوضع . ذلك أن الصمت مرتبط بحدود استراتيجيات التأقلم التي تنتهجها مختلف الفئات لتحمل أعباء الحياة وتدهور أوضاعها المعيشية وانحدارها في السلم الاجتماعي.

والكتلة الصامتة هي خزان غضب انفجاره مرتهن بنفاد رصيده من التحمل.

 وهذا المزاج الشعبي السائل هو فاعل في حالة اختمار، ولديه قابلية  التمظهر المادي  بفعل  تفاقم الغضب  والإحساس بالاحتقار، و بفعل التغذية السياسية و الإعلامية أو التوظيف من جهات داخلية او خارجية. 

-ز-المؤسسات الصلبة: أفسر شخصيا موقف المؤسستين الأمنية والعسكرية  يوم 25 جويلية ليلا نظرا بعدم حصول تنازع حول الشرعية لترهل المؤسسة البرلمانية قبل ذلك الوقت.

وأتفهم نأي المؤسسة العسكرية بنفسها عن أن تكون حكما في الصراعات السياسية. 

 أما في الوضع الراهن فتبدو المؤسسة الأمنية  الأكثر هشاشة بسبب تعدد الصراعات داخلها. 

ومع احتمال تصاعد أوجه من الاحتجاج الاجتماعي والسياسي فمن المهم أن تحافظ هذه  المؤسسة على أهم مكسب حققته في عشرية الثورة، وهو التقدم خطوات في ترميم علاقتها بالمواطنين، وعدم الاستجابة لمحاولات التمترس بها والزج بها في مواجهة الشارعين، والتعامل بكثير من الصبر مع بعض الانفلاتات العفوية او المبرمجة لاستفزازها و إخراجها عن دورها في حماية الممتلكات وصيانة النظام العام  ومرافقة وحماية التنافس على الشارع.

أما المؤسسة الثانية فما أظنها تقبل الزج بها في معارك الساسة لتصبح طرفا في مشروع لم تكن شريكا فيه، فتجازف بذلك بخسارة موقعها كافضل المؤسسات سمعة لدى التونسيين.

-ح- الفاعل الخارجي، حيث يبدو الجار الغربي والمستعمر السابق وحاكم العالم هي القوى الأكثر تأثيرا في أوضاع الأزمة الراهنة.

ورغم اختلاف الرهانات وزاوية النظر إلى البلاد في استراتيجية كل طرف من هذه الأطراف، فان المرجح عندي هو التقاؤها على استمرار التعامل مع الوضع القائم و محاولة احتوائه طالما استمر الصمت الاجتماعي، وسترافق الأوضاع بجرعات  ومسكنات تؤجل الانفجار مع التعويل على انتخابات 2024  التي قد تسمح بافراز بديل باقل التكاليف.

وإضافة الى ذلك فإنه من الواضح اتفاق الجارين الليبي (حكومة دبيبة) والجزائري على استعمال الرشوة المالية لإبعاد السلطة عن المحور المصري الإماراتي، ولضمان مساندة الجزائر في معركتها على زعامة على المنطقة.

-2-الخلاصة : 

  لقد كان ممكنا مواجهة الانقلاب أو إجباره على التشارك خلال الأسابيع الأولى، ولكن الفاعل السياسي والمدني فوت تلك الفرصة، حتى بلغنا حالة توازن عجز بين سلطة أمر واقع غير قابلة لأي حوار وغير قادرة على إيقاف التدهور في البلاد، وبين معارضة نجحت في حماية مربع الحريات ولم تستطع ولن تستطيع بلورة بديل عن الانقلاب.

وبتفريط القوى السياسية والمدنية والاجتماعية في فرصة مواجهة الانقلاب أو احتوائه فقدت المبادرة أمام تاثير الشارع  الاجتماعي والفاعل الخارجي والمؤسسة غير المدنية.

 ونعتبر أن الشارع الاجتماعي هو العامل القادح لأي تغيير نوعي  في ميزان القوى، وسيؤدي تحركه، إن وقع، إلى خلط الأوراق، ويضطر الفاعل الخارجي إلى تغيير مقاربته، وقد يغري بحلول لا يرغب فيها ولا يقبلها أي ديموقراطي.

لكن في غياب الحراك الشامل للشارع الاجتماعي قد تستمر الأوضاع على ما هي عليه، في محاذاة الهاوية، الى انتخابات 2024.

ثانيا :مبادرات حلحلة الأوضاع:

يدفع استمرار وضعية الانغلاق المستحكم إلى بلورة مبادرات متنوعة عنوانها الجامع الحوار.

وبالرغم من تعدد صيغ ادارة العلاقات داخل المجتمعات وبينها، وبالرغم من كل الحروب والصراعات والمنافسات، فإن الحوار كان دائما هو الوسيلة الأفضل والأكثر استعمالا في السياسة، وإن الصراعات نفسها تفضي غالبا إلى تسويات وترتيبات ومقايضات على طاولة حوار.

ومن ثم لا يمكن من الناحية المبدئية إلا الترحيب بالحوار، ولكن بشرط أن يكون ممكنا، وأن يكون ناجعا.

-الحوار المستحيل:

نعتبر كل دعوات الحوار بإشراف سعيد أو تحت “رعايته الموصولة” لا طائل من ورائها، لا بسبب الموقف الأخلاقي والسياسي من سعيد، وإنما بالنظر إلى رفضه كل صيغ الحوارلأسباب لا تفسر بالسياسة فقط.

إلا أن تكون دوافع أصحاب هذه  الدعوات والمقصود منها  يتجاوز الظاهر منها. 

-الحوارغير الممكن /الحوار العقيم:

أما الدعوات إلى حوارات دون سعيد فلا نراها تجيب عن مجموعة من الأسئلة:

-أهمها هو ما نعتبره السؤال الجوهري وهو المتعلق بطريقة التعامل مع سعيد، وهو واقعيا في موقع الرئاسة.

– وهل من الممكن أن ينعقد مثل هذا الحوار، ومن هي الأطراف المشاركة فيه، ومن هي الجهة المشرفة عليه ؟

والإجابة عن هذه الأسئلة عسيرة في ظل استمرار حالة التنافي.

-أما ثالث الأسئلة فهو المتعلق بالمخرجات المتوقعة. فهل يمكن توقع نتائج مفيدة للبلاد من فاعلين ساهموا في إهدار مسارها و في التمهيد للانقلاب؟ وهل يمكن توقع جديد من منظومة رفضت كل مكوناتها السياسية والنقابية والمدنية القيام بالحد الأدنى من المراجعات؟

هذه البلاد يحكمها بشر يتصورون أنهم  لا يخطئون، “يعترفون ” بكل سخاء  بأخطاء غيرهم ويستميتون في الدفاع عن صوابهم في خيارات السلم و الحرب.

هل المبتغى من الحوارات انقاذ البلاد ؟ أم انقاذ منظومة الفت التسويات و الترتيبات الفوقية، وهي  تستمر، رغم الكارثة، في معاركها الفوقية دون استعداد لسماع الأصوات القادمة من العمق.

ثالثا: عودة الى الرياضيات:

ولكن الرياضيات التي لجأنا اليها تترفق بنا، فهي حينما تغلق بابا تفتح أبوابا.

ولذلك فهي لا تقطع باستحالة حلول في المطلق، وإنما تؤكد انعدامها في ميدان محدد، بما يحفز الذهن على التفكير في التغيير. وهذا ما فعلته  في تاريخها الخاص ومغامرتها  الذاتية لكسر الحدود.

ومن أجل ذلك يجب البناء على خلاصة أساسية:

إن ما حدث يوم 25 جويلية كان فعلا لاأخلاقيا موحشا لصدوره عن جزء من المنظومة ساهم في تعفينها وقفز بدعوى الإنقاذ.

و لكنه لم يكن بداية التاريخ، وإنما كان إعلانا لحالة موت واقعية ولنهاية حقبة، وكان كشافا لعمق أمراضنا.

وقد اكد ما حدث بعده هذه الخلاصة، باستمرار المعارك في نفس المربعات.

-1- إن نقطة الانطلاق تكمن  في  انتباه “النخبة ” الى أنها نخبة نفسها، وإنها تفوض نفسها و لم يفوضها أحد، وأنها يجب أن تعمل على انقاذ نفسها بدل ان تنقذ الشعب.

-2- وعليها أن تعتبر أن الشعب كيان محسوس من بشر يأكلون الطعام و يمشون في الأسواق وليس كيانا هلاميا تفوض نفسها حق التكلم باسمه وترجمة تطلعاته على هواها، وهي التي توشك أن تتحول إلى طائفة مولعة بالكلام .

-3-وأنه لا سياسة إلا بالعودة للعمق، أي للبناء القاعدي الحقيقي، بحسن الاستماع إلى الناس والتعلم منهم والمساهمة في بناء الفاعل الذي يستعيد ثقته في السياسة بعد أن نفر من “البوليتيك”، وحماسه للديموقراطية بعد أن يقتنع بنفعها و يلحظ ذلك، واهتمامه بالانتخابات بعد إن يقتنع أنها تداول بين خيارات وليس بين أشخاص، وأنها إيفاء بالعهود وليست تحيلا متكررا.

لا يوجد شعب يكره الديموقراطية باعتبارها تحريرا للإرادة، وإنما توجد شعوب تتمرد على ما يقدم لها على انه ديموقراطية.

-4-بالطبع نجدد إيماننا بدور الأحزاب و مختلف الوسائط، كما نجددإيماننا بأهمية دور النخب، ولكنها لعلها قد استنفذت سقف ما إتاحته لها الثورة وفرطت في تجديد نفسها رسالة ومناهج وثقافة وموارد بشرية و أوعية، فتحتاج الى إعادة بناء .

 -5- هذا الخيار الذي نراه لا يراهن على المدى القريب، لانه لا يرى حلولا حقيقية، ولأنه موقن أيضا بوجود متدخلين تدفعهم مصالحهم إلى تلقف البلاد قبل الوقوع في الهاوية، وهم الذين  تغريهم هشاشتنا الراهنة برعاية حلول تحت شروطهم.

ولذلك فإن هذا الخيار بقدر ما يتعامل بحذر مع الترتيبات التي قد تحصل، إلا أنه  ينخرط بنشاط  في عملية مقاومة للاستبداد، كما ينخرط فِي عملية بناء طويلة الأمد تستفيد من دروس طريقة إدارتنا للأوضاع بعيد 2011 ،وخاصة في طريقة إدارة  علاقة “النخب ” “بالشعب “،و في طريقة ادارة العلاقة بدوائر التاثير الحقيقي.

-6- هذه التحديات الكبرى التي يمكن أن تفتح على  آفاق جديدة وفرص كبيرة،  تصدق على كل المنطقة العربية التي نلاحظ مخاضاتها في مختلف الساحات.

ولكن لهذا حديث آخر. 

والله اعلم
أ. عبد الحميد الجلاصي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top