معنى الهوية الوطنية وجدَل العلاقات بين مكوّناتها

معنى الهوية الوطنية وجدَل العلاقات بين مكوّناتها

لا يوجد تعريف نهائي لمفهوم “الهوية الوطنية”، فهذا المفهوم يختلف من شعب إلى شعب، ومن بلدٍ إلى آخر تبعاً لعوامل ترتبط بهذا الشعب أو ذاك، وبذلك البلد أو غيره.

علاقة الهوية الوطنية بمفهوم العقد الاجتماعي

ففي المجتمعات القديمة كان الانتماء للأرض التي لا تقع تحت سلطة مستعمر أو احتلال هو مقياس الوطنية، ولكن هذا المقياس لا يمكن أن يحدّد معنى الوطنية بمفرده، فهناك عوامل أخرى تلعب دوراً في تحديد معنى هذه الهوية.
ولكن يمكن وضع مربعٍ لهذا المفهوم “الهوية الوطنية”، واعتباره أنه يمثّل مجموعةً من القيم والأخلاق يجب أن تظهر بصورة أفعال تدل على الاستقرار في الوطن والدفاع عنه والتقيد بنظمه واحترام قوانينه.
مع ذلك لا يمكن الحديث عن أي هوية وطنية عموماً بدون الحديث عن المكونات الوطنية في هذا البلد أو ذاك، ودون الحديث عن درجة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي فيه.

فالهوية الوطنية في هذه الحالة تعكس الخصائص التي تتميّز بها هذه الأمّة أو تلك. لذلك فإن الحديث عن الهوية الوطنية يقود إلى الحديث عن السمات المتوفرة في هذه الأمّة، وأن هذه السّمات يمكن أن تتكثف من خلال مفهوم العقد الاجتماعي، وهذا لا بدّ أن يقودنا بالضرورة إلى علاقة الهوية الوطنية بمفهوم العقد الاجتماعي في أي بلد، فالعقد الاجتماعي يعكس طبيعة الفئات الأكثر استفادة منه، كما يُظهر الفئات الأكثر تضرراً منه، هذه العلاقة لاتتحقق حين تغيب قوى العقد الاجتماعي لكل المكونات عن التوافق على صيغة هذا العقد، الذي ينظّم الحياة بصورة ما، وقد يكون سبباً في انسداد أفق التطور، مما يستوجب الثورة عليه كعقد اجتماعيٍ مجحفٍ بحق بعض فئات المجتمع.

الانتماء ومراكمة القواسم المشتركة

الهوية الوطنية تترجم عمق الانتماء لدى أبنائها، والهوية الوطنية تظهر لديهم في تفاخرهم بأمتهم أمام الأمم الأخرى، من حيث رفعتها في التطور والتقدم والازدهار.
إذاً يمكننا القول إن الهوية الوطنية هي جامع للأفراد والجماعات، وبالتالي هي القاسم المشترك الذي تجتمع فيه مصالح وثقافات كل المكونات التي لا تعيش صراعات، ويمكن التعبير عن ذلك بالقول إنها الخواص التي تجتمع حولها هوية اجتماعية، تتميز عن غيرها بميزات فارقة.

الهوية الوطنية ليست هوية ثابتة بمرور الزمن، فهي تتغير مع تغيّر التكوينات الاجتماعية، ومدى قدرتها على مراكمة القواسم المشتركة، وبالتالي تخلق الإحساس بانتماء مشترك واحد لكل المكونات المختلفة في الجسم الوطني.

الثقافة الوطنية الشاملة

الهوية الوطنية لا يمكن تكثيفها عبر عنصر واحدٍ كاللغة، أو الأرض التي يعيش عليها الانسان،
فهناك من يجعل اللغة عاملاً حاسماً، وهذا يحدث في بلدان تكون فيها اللغة الفاعلة والمميزة للهوية هي لغة المكون الأكبر، كما في سوريا، ففيها يشكل العرب بكل دياناتهم وطوائفهم العنصر القومي الأكبر ولذلك تجد كل المكونات التاريخية في هذا البلد تعتبر الإرث الثقافي والتاريخي للمكون الأكبر جزءاً من هويتها لأنها ساهمت بمراكمته وترسيخه وبنائه، وهذا يقود بالضرورة إلى أن المكون الأكبر (العرب) يدركون أهمية عدم حجب لغات أخرى في البلاد، وإنما منحها المساحة اللازمة للتعبير عن ثقافة هذا المكون أو ذاك، فهناك مكون كردي سوري، وآخر آشوري سوري، وأرمني سوري… الخ، هذه المكونات يجب أن يحفظ لها العقد الاجتماعي حقها في إنتاج ثقافتها، التي سترفد بدون شك الثقافة الوطنية السورية الشاملة.

أهمية العامل الاقتصادي

لكن البشر بطبيعتهم يجمعهم العامل الاقتصادي، هذا العامل كان ولايزال عبر التاريخ البشري عامل اجتماع، فمن خلاله تتفاعل الجماعات البشرية وتنتج معارفها وثقافتها، فالدول الوطنية هي دول حديثة يجمعها اقتصاد وطني مشترك ومتعدد الوظائف، هذا العامل حاسم في ترسيخ الهوية الوطنية، لأن التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية ترتبط بالعامل الاقتصادي، فتطور الاقتصاد ونموه يخلق الأسواق الكبرى، وفي هذه الأسواق تولد مفاهيم وثقافات مشتركة بين قوى الإنتاج المختلفة.

العامل السياسي وطبيعة العقد الاجتماعي

لكن العامل السياسي هو العامل الأهم، لأنه يعبّر عن طبيعة العقد الاجتماعي القائم، ففي سوريا كان دستور عام 1973، ودستور عام 2012، عبارة عن ترسيخ واضح لسلطة الديكتاتورية والاستبداد السياسي، فليس هناك عقد اجتماعي حقيقي، اجتمعت المكونات السورية المختلفة بتكوينها الفكري والاقتصادي والاجتماعي وأقرّته، بل كان ذلك العقد الاجتماعي عقداً فرضته القوّة العسكرية والدولة الأمنية بما يحقق لها دوام هيمنتها على السلطة والاقتصاد الوطني دون اهتمام بمنح الحقوق الاجتماعية والسياسية للمكونات الوطنية. ولهذا لم يلعب هذا العقد الاجتماعي المفروض على مكونات السوريين دوراً إيجابياً في خلق مفهوم موحد للهوية الوطنية السورية، بل هو شجّع على الهويات ما قبل الوطنية لترسيخ سلطته الاستبدادية، وهذا يناقض مستقبل المكونات السورية في خلق مربع هويتها الوطنية المشتركة.

إذاً يمكننا القول إن الهوية الوطنية لا يمكن أن تتكون وتترسخ في ظلّ نظام لا يعترف بحقوق المكونات الوطنية، بل أن هذا النظام يشكّل بنية فوقية منعزلة عن مصالح المكونات الوطنية.

لهذا لا يمكن الحديث عن هوية سورية جامعة في ظل ما فعلته السلطة الاستبدادية من شرذمة للفئات والمكونات وما ينتج عنها من قوى سياسية، على طريقة خلق صراعات جانبية لقوى ما قبل وطنية (القبلية والعشائرية والطائفية والدينية والمناطقية)، فحين تسود هذه القيم ما قبل الوطنية ستتراجع الهوية الوطنية وتتلاشى، وهذا لا يخدم تنمية البلاد ووحدتها وحريات مكوناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل يحيلها إلى قوى تتنافس على تدمير أي إمكانية لنمو الوطنية السورية الواحدة، التي تجتمع في مربع تفاهماتها ومصالحها المشتركة بوطن واحد.

أ. ميسون محمّد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top