مقدمة
تعتبر مسألة شرعية الأحكام الصادرة عن المحاكم القضائية في ظل سلطات الأمر الواقع في مناطق النزاع قضية معقدة. وتعتمد إلى حد كبير على السياق المحدد ووجهات نظر المجتمع الدولي، حيث تلعب مفاهيم السيادة والدولة وسيادة القانون أدوارًا مهمة في هذا الصدد.
وفقًا للقانون الدولي، فإن الدول ذات السيادة المعترف بها، فقط هي التي تتمتع بسلطة إنشاء المحاكم وإقامة العدل داخل أراضيها. ومع ذلك، في الحالات التي تسيطر فيها سلطة الأمر الواقع على منطقة ما – كما هو الحال في سوريا. واليمن، وأفغانستان، وليبيا حيث تتعدد هذه السلطات- غالبًا ما تنشئ كل سلطة أمر واقع أنظمتها القضائية الخاصة بها للحفاظ على النظام ومعالجة السلوك الإجرامي في المناطق التي تقع تحت سيطرتها.
إلا أن الواقع العملي في أغلب التجارب يشير إلى أنه لا يتم الاعتراف بهذه الأنظمة القضائية على أنها شرعية من قبل الدول الأخرى أو الهيئات الدولية، حيث يعتمد الاعتراف إلى حد كبير على مدى التزام هذه الأنظمة القضائية الفعلية بالقواعد والمعايير الدولية. مثل احترام حقوق الإنسان، والإجراءات القانونية الواجبة التطبيق. ومعايير المحاكمة العادلة على النحو المنصوص عليه في القانون الدولي لحقوق الإنسان. بما في ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وما جرى عليه العرف الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، من الواجب أيضًا أن تحترم سلطات الأمر الواقع القانون الدولي الإنساني، لا سيما أثناء النزاع المسلح. وهذا يشمل، من بين أمور أخرى، حظر التعذيب والمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. إلى جانب توافر المتطلبات التي يجب استيفاؤها لكي تعتبر المحاكمة عادلة مثل افتراض البراءة (المتهم بريء حتى تثبت إدانته). ومبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني، وضمانات الدفاع الأساسية للمتهمين. ومبدأ المساواة في الأسلحة، والحق في محاكمة علنية وحكم علني. وضمان الحق في استئناف الأحكام الصادرة عن هذه المحاكم.
شرعية الأحكام القضائية
هل يحق للجهات الفاعلة غير الحكومية أو سلطات الأمر الواقع تشكيل محاكم قضائية؟
من حيث المبدأ، يقر القانون الإنساني الدولي للجهات الفاعلة أو سلطات الأمر الواقع أن تنشأ مثل هذه المحاكم. ومحاكمة الأشخاص الذين يرتكبون جرائم على الأراضي التي تقع تحت سيطرتها بهدف ضبط الأمن. لكن للاعتراف بالأحكام الصادرة عن هذه المحاكم على المستوى الدولي يجب أن تتوفر عدة شروط في المحكمة التي أصدرت الحكم منها: أن تكون مستقلة ومحايدة. وتحترم الضمانات الأساسية لمحاكمة عادلة مثل حق الدفاع. وأن تضمن جميع الحقوق القانونية الأخرى المعترف بها عمومًا على أنها لا غنى عنها في القانون الدولي. مثل افتراض البراءة للمتهم، والحق في محاكمة علنية خلال فترة زمنية معقولة. والحق في استدعاء الشهود وتقديم الأدلة الخاصة بهم والاطلاع على الأدلة التي في حوزة المحكمة. وحق المتهم في الطعن بقرار المحكمة.
وهناك شرط إضافي قد يكون الأهم في هذا السياق وهو أن يتم تشكيل المحكمة بشكل منتظم. وهذا يعني أنه يجب تشكيلها وإنشاءها وفقًا للقوانين والقواعد الإجرائية التي تنطبق في بلد معين، بمعنى أن المحاكم التي تم تشكيلها من قبل الجهات الفاعلة وسلطات الأمر الواقع في سوريا على سبيل المثال. يجب أن تشكل وفقاً للقانون السوري، وأن يعمل في هذه المحاكم موظفون كانوا. قبل اندلاع النزاع، معينين وفقًا للقواعد المعمول بها كقضاة أو كتبة في السلطة القضائية. وأن تطبق المحكمة القانون الذي كان ساريًا قبل بدء النزاع – أو على الأقل لا تطبق تشريعات أشد بكثير من تلك التي كانت سارية قبل اندلاع النزاع. بمعنى أن القضاة في هذه المحاكم يجب أن يكونوا من خريجي كليات الحقوق ومارسوا العمل القضائي سابقًا. ولا يجوز تعيين أشخاص لم يدرسوا القانون. وهذا الأمر ينطبق أيضًا على من يعملون في النيابة العامة والمساعدين القضائيين والمحامين وبقية الموظفين في السلطة القضائية.
رأي اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الأحكام القضائية
أما اللجنة الدولية للصليب الأحمر فترى بأن التركيز يجب ألا يتم على كيفية تشكيل المحكمة. بقدر التركيز على تقييم ما إذا كانت المحكمة تحترم الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة. وهذا يعني أن شرط تشكيل المحكمة بشكل منتظم قد تم استبداله هنا بشرط الاستقلالية والحياد. مع ذلك تتضمن المادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، والمادة 75 من البروتوكول الإضافي الأول. والمادة 6 (2) من البروتوكول الإضافي الثاني الملحقين بهذه الاتفاقيات. والمادة 8 من نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية. مبادئ تتعلق بتشكيل مثل هذه المحاكم ومتطلبات المحاكمة العادلة التي تنبع من القانون الدولي العرفي. وبالرغم من مرور عدة سنوات منذ اندلاع النزاع في سوريا. وتشكيل محاكم قضائية في مناطق مختلفة من البلاد تتبع لسلطات الأمر الواقع. لا يزال التشكيك في شرعية هذه المحاكم وأحكامها قائمًا بسبب مخاوف بشأن احترام الإجراءات القانونية الواجبة، والحياد. والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وسيادة القانون.
ما المقصود بسلطات الأمر الواقع؟
تشير عبارة “سلطات الأمر الواقع” إلى الكيانات أو الهيئات التي تمارس السيطرة والسلطة على أرض معينة دون الاعتراف بها دوليًا كحكومة شرعية لتلك الأرض أو الإقليم. في حالة سوريا، ظهرت العديد من هذه الكيانات خلال السنوات الماضية. بما في ذلك مختلف الفصائل العسكرية التابعة للمعارضة. وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، والكيانات الجهادية مثل جبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. وغالبًا ما تنشئ هذه الكيانات أنظمتها القضائية الخاصة بها، وتؤكد حكمها وسيطرتها على الأراضي التي تسيطر عليها.
ويمكن أن تشمل الأحكام الصادرة عن المحاكم التابعة لهذه الكيانات مجموعة من المسائل. بما في ذلك المنازعات الشرعية والمدنية. والقضايا الجنائية، ومكافحة الإرهاب، وحتى قضايا السياسة العامة.
ما هي العوامل التي تُقوّض شرعية محاكم سلطات الأمر الواقع؟
هناك عدة عوامل يمكن أن تقوض شرعية الأحكام القضائية الصادرة في ظل السلطات الفعلية منها:
أولاً، يمكن أن يتعرض احترام الإجراءات القانونية وسيادة القانون للانتهاك بشكل خطير. قد لا تتبع هذه المحاكم المعايير القانونية المقبولة دوليًا، وفي بعض الحالات. قد تتأثر إجراءاتها بشدة بالبيئة الأمنية والأهداف السياسية لسلطات الأمر الواقع. وهذا يثير مخاوف جدية بشأن عدالة ونزاهة الإجراءات والأحكام الصادرة عنها.
ثانيًا، قد يؤدي غياب التدريب المهني للقضاة وموظفي المحاكم إلى تقويض مصداقية هذه المحاكم وعدالتها. غالبًا ما يؤدي هذا النقص في المؤهلات المهنية إلى تطبيق غير متسق للقوانين وفهم ضعيف للمبادئ القانونية الأساسية. مما يزيد من تقويض نزاهة أحكام هذه المحاكم.
ثالثًا، تأخذ مسألة تنفيذ وتطبيق المعايير الدولية لحقوق الإنسان أهمية بالغة في هذه الظروف. هناك الكثير من الاتهامات الموجهة لسلطات الأمر الواقع بالقيام بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. مثل الاحتجاز بشكل تعسفي، والتعذيب، والاخفاء القسري، والإعدام خارج القضاء. وهذا ينتقص من شرعية أحكامهم القضائية بشكل ملحوظ.
رابعًا، يعبر المجتمع الدولي، بما في ذلك الخبراء القانونيين والهيئات المعنية بحقوق الإنسان. عادة عن انتقاداته حول شرعية الأحكام الصادرة عن محاكم الأمر الواقع، والرأي السائد هو أن هذه المحاكم تعاني من نقص في النزاهة. وغياب التزامها بمبدأ سيادة القانون، بالإضافة إلى عدم احترامها للمعايير الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. وهو ما يقوض موقعها كهيئات قضائية شرعية.
كيف سيتم التعامل مع الأحكام الصادرة عن هذه المحاكم في المستقبل؟
بعد انتهاء النزاع، أو زوال سلطة الأمر الواقع. يجب التدقيق في جميع الأحكام الصادرة عن المحاكم التابعة لها وتقرير ما إذا كان ينبغي تأييدها أو إعادة النظر فيها. إضافة إلى بذل جهود كبيرة لدمج الأنظمة القانونية التي كانت سائدة في النظام القانوني الرسمي للبلاد.
مع ذلك، فإن إصلاح الأنظمة القضائية لسلطات الأمر الواقع وإدماجها في الإطار القانوني الرسمي لبلد ما بعد انتهاء النزاع أو التوصل إلى تسوية سياسية هي عملية دقيقة ومتعددة المستويات وتحتاج إلى بذل المزيد من الجهود المحلية والدولية لإصلاح الهياكل والأنظمة الحالية لمحاكم الأمر الواقع وإلغاء القوانين التي كانت سائدة أو تعديلها لتتماشى مع النظام القضائي الرسمي للدولة والمعايير الدولية.
علاوة على ذلك، يجب وضع آلية للسماح بمشاركة الضحايا في هذه العملية، وضمان سماع أصواتهم، وتقديم تعويضات لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة من قبل العاملين في هذه المحاكم. ولا شك أن هذه عمليات معقدة، يجب تكييفها مع الظروف المحددة والاحتياجات المجتمعية للبلد وأن يكون الهدف النهائي من وراء كل ذلك هو إنشاء نظام قضائي يدعم سيادة القانون، ويضمن العدالة، ويحترم حقوق الإنسان.
خاتمة
عند النظر من منظور قانوني صرف إلى المحاكم التابعة لسلطات الأمر الواقع والأحكام الصادرة عنها، تصبح الصورة أكثر تعقيداً. ووفقًا لمبدأ الفعالية أو الكفاءة في القانون الدولي، فإن ممارسة السيطرة الفعلية على إقليم ما وسكانه يمكن أن يمنح سلطة الأمر الواقع بعض الحقوق والالتزامات، بغض النظر عن الاعتراف الرسمي من قبل الدول الأخرى أو الهيئات الدولية. قد يمنح هذا، من الناحية النظرية، درجة من الشرعية للإجراءات القضائية لهذه السلطات، إلا أن هذا الأمر لا يزال قضية خلافية ويفتح مجالًا للنقاش المستمر، خاصة في ظل استمرار النزاعات وتطور المعايير الدولية، وهذا يُحتّم على المجتمع العالمي وضع معايير واضحة تدعم مبادئ العدالة وحقوق الإنسان، حتى في البيئات المعقدة والصعبة في مناطق الصراع.
وإلى أن يأتي الوقت الذي ينتهي فيه النزاع، يتوجب على سلطات الأمر الواقع بالتعاون مع المنظمات الدولية أن تركز على معالجة مسألة شرعية المحاكم التابعة لها والأحكام الصادرة عنها، من خلال ادخال بعض الإصلاحات الهيكلية وبناء القدرات وتوفير التدريب على القوانين والمعايير الدولية لتحسين عملياتها القضائية. بالمقابل يجب على الهيئات الدولية والدول الأخرى ممارسة الضغط على سلطات الأمر الواقع لاحترام حقوق الإنسان واتباع الإجراءات القانونية الواجبة، وتقديم المساعدة القانونية والدعم للأفراد الخاضعين لمحاكمها. قد يشمل ذلك تقديم التقارير ومراقبة المحاكمات ومعاملة المحتجزين، وانتقادات علنية أو عقوبات أو حتى إجراءات قانونية في المحاكم الدولية ضد الأفراد المسؤولين عن الانتهاكات.
د. وسام الدين العكلة