هل تمثل السيطرة العشائرية تهديداً لتركيا؟ بين سردية الماضي وإرهاصات الحاضر

هل تمثل السيطرة العشائرية تهديداً لتركيا؟ بين سردية الماضي وإرهاصات الحاضر

الحراك الأخير في شرق الفرات دفع البعض للتساؤل حول إمكانية تمثيل العشائر العربية لحليف محتمل لتركيا، ومدى قدرتها على إثبات وجودها، والمطالبة بحقها الطبيعي في إدارة مناطقها. أو على العكس من ذلك، هل ستؤدي سيطرة العشائر العربية لحالة حرب ثانية كالتي تخوضها أنقرة ضد قوات سوريا الديموقراطية “قسد” وبقية المكونات الحزبية الأخرى؟ بدايةً تحتاج هذه الأسئلة إلى الوقوف على تاريخ العلاقة بين الطرفين، والمرور على بعض العوالم التي رسمت محددات العلاقة بينهم.

ينظر الكثير من المؤرخين إلى الدولة التركية الحديثة بوصفها وريثة الإمبراطورية العثمانية التي امتد حكمها في جغرافيا بلاد الشام والجزيرة العربية والرافدين إلى ما يزيد عن أربع قرون، هذا التاريخ الطويل بما يحمله من علاقات اجتماعية وتداخلات ثقافية بين الشعوب والقوميات المختلفة بقي ليكون جزء لا ينفك عن تاريخ الدولة الحديثة. ولهذا فلا بدّ من المرور السريع على تاريخ العلاقة بين العشائر العربية المنتشرة في الجزيرة الفراتية، وتحديداً في دير الزور، والدولة العثمانية آنذاك.

قلة هي الدراسات والمصادر التي تناولت طبيعة العلاقة التي تجمع المجتمعات القبليّة مع العثمانيين. العلاقة بين الطرفين بدأت مع إكمال العثمانيين السيطرة على الجزيرة الفراتية عام 1534م، فيما كانت أبرز الحواضر في تلك المنطقة قد لحقها الخراب والدمار جراء اجتياحها من قبل هولاكو وتيمور لانك. فعملت السلطنة على تولية شيوخ العشائر الأكثر قوّة وسطوة في تلك البوادي، فكان الحظ حليف عشيرة الموالي، التي أصبحت صاحبة القوّة المركزية المخوّلة من قبل السلطنة، وامتد حكمها لما يقارب الثلاثة قرون. كان للموالي صلة وثيقة مع السلطة العثمانية، واشتركوا معها في حروب عدّة، منها: معركة العثمانيين مع فارس إبّان الاجتياح الفارسي للعراق سنة 1638م، واختلفوا معهم أيضاّ، فكانت المعارك الطاحنة بينهم على جانبي الفرات. مثلما حصل عام 1721م عندما أتى أمر لوالي حلب أحمد باشا بتأديب المتمردين من العكيدات والموالي.

 ولعل ذلك يعود لعدة مشاكل متعلّقة بالظروف البيئية والأمنية لتلك المنطقة. إذ أُجبرت القبائل المنتشرة في تلك المنطقة على الترحال المستمر مما جعل من الصعب على السلطنة ضبط الأمور ووضعها في مجرياتها، فعملت على توطين البدو الرُّحَّل للحد من المشاكل. وكون المدينة تقع على طريق تجاري_ مائي تاريخي أقامت السلطنة لواء خاص (سنجق الزّور) لضمان تنمية الحواضر المنتشرة في تلك المنطقة. 

وفي أوساط القرن السابع عشر اتبعت السلطنة سياسة جديدة، فرضت فيها على المقيمين والرحل ضرائب، تزامناً مع قدوم سنوات قحط على المواسم الزراعية، مما دفع الأمور لعدم الاستقرار وعودة الغارات والسطو بين القبائل الموجودة وقوات السلطنة، ولظهور قبائل أخرى في القرن الثامن عشر أصبح لها دور أكثر فاعلية في صياغة الواقع السياسي والعسكري والاجتماعي للمنطقة أواخر الدولة العثمانية، كطيّ والبكارة والعكيدات: أصحاب الحضور الأكبر في مقارعة المستعمرين. فيما يذكر المؤرخون أن قبيلة العكيدات قارعت المستعمر الفرنسي والبريطاني وكانت السبب الرئيسي لثورة عشائر العراق عام 1920م ، وقد استطاع أبناؤها دحر المستعمرين عن دير الزور والبوكمال وما حولهما.

مع انهيار الدولة العثمانية وقيام الدول القومية وترسيم الحدود، لم يعد هناك علاقة وتواصل مباشر بين العشائر العربية والدولة التركية نتيجة الظروف السياسية التي كانت تمر بها تركيا والدول العربية المحيطة بها وخاصةً سوريا، فيما بقيت الحواضن الاجتماعية والعلاقات موجودة، لكن بزخم أخف، نتيجة للامتداد العشائري بين الدولتين. علما أن بعض القبائل العربية لها امتدادات وجذور ممتدة في الجنوب التركي، مثل ماردين وأورفا وديار بكر ولا تزال محافظةً على جزء من تراثها. فهي ولفترة من الزمن كانت تعدّ وحدة جغرافية واحدة تُدار بواسطة “سنجق الزّور”.

حراك العشائر العربية وتقاطع المصالح مع تركيا

مع بدأ سيطرة قوات سوريا الديموقراطية على شرق الفرات بدعم من الولايات المتحدة دأبت قسد على تغييب المكون العربي الذي يشكل غالبية المناطق الواقعة تحت سيطرتها وبنسبة 76.6 علماً أن المكون الكردي يشكل 19.9 فقط من المناطق الخاضعة لقسد. هذه الحالة من السيطرة “غير المتكافئة” جعلت المكون العربي في حالة قلق وترقب مستمر، ضاعف من حدّته: 

1- استمرار التضييق على العشائر واعتقال أبنائها بحجة انتمائهم لخلايا داعش، كما سوّقت الآلة الإعلامية لقسد في آخر حملة لها “تعزيز الأمن”، حيث ادعت بأن الحملة تأتي في إطار محاربة المفسدين واعتقال الخلايا الداعشية المتواجدة في دير الزور، إلا أن العنف والانتهاكات بحق المدنيين كانت العنوان الحقيقي للحملات التي تشنها قسد.

2- الاستئثار بالموارد النفطية والقمح، وتطويعهما في خدمة كوادر حزب العمال الكردستاني، وسوء إدارتهما اقتصادياً، مع أن أرياف دير الزور من أغنى المناطق الجغرافية في سوريا، وفيها أكبر حقول النفط، ومساحات زراعية شاسعة إلاّ أن الخدمات المقدمة في تلك البلدات تبقى متواضعة جداً مقارنة بالموارد المتوفرة، سيما ساهم ذلك بنشوء واقع معيشيّ وخدميّ سيء.

3-  جعل السلاح والسلطة في يد المفسدين من أهل المنطقة لضمان إحكام الرقابة على المكون العشائري وعدم خروجه عن دائرة الطاعة، فضلاً عن السياسات التي تستهدف المجتمع المحلي المناهض لها إذ رفضت العشائر بشكل مستمر الامتثال لقانون التجنيد الإجباري وإلزامهم بمناهج تعليمة مؤدلجة لصالح الحزب الذي يتبنى أيديولوجية شيوعية.

4- سوء الواقع الأمني وتعاظم حالات الاغتيال والخطف مع غياب شبه تام للجهاز الأمني الذي تتباها به قسد في حملاتها الإعلامية. 

نتيجة لهذه العوامل بدأ حراك العشائر الذي يتقاطع مع جوهر السياسة التركية في سوريا والهادف إلى: إنهاء تواجد قسد في المنطقة، والظفر بحكم محلي لأبناء المناطق الأصليين، كما صرّح إبراهيم الهفل شيخ العكيدات يوم 6 سبتمبر “قتال قسد وإخراجها من المناطق العربية”، مع إعادة هيكلة مجلس دير الزور العسكري وتسليمه لضباط محليين بتنسيق كامل مع قوات التحالف الدولي.

ويجدر لفت الانتباه إلى وجود قسم كبير من أبناء العشائر العربية في فيالق الجيش الوطني المؤسس والمدعوم من قبل تركيا، كالفيلق الأول الذي يعتبر امتداد لأهالي العشائر في دير الزور. كما أن أهداف وطموح الجيش الوطني والمكونات العشائرية تبقى ضمن (إطار الجغرافية السورية المتعارف عليها) بمعنى لا تهديد بعد اليوم للأمن القومي التركي بل على العكس من ذلك، نظرا لطبيعة الأطراف الموجودة في الشمال والشرق السوري من أحزاب انفصالية وميليشيا إيرانية ومافيات أسد وغيرهم تبقى العشائر العربية الأقرب لتحقيق تعاون حقيقي وفاعل، وهي الجار التي تطمح أنقرة بأن يكون على حدودها.

سامي الغاوي

المراجع:
لواء الزور في وثائق الدولة العثمانية لأحمد القيسي “ص 39”
لواء الزور في وثائق الدولة العثمانية لأحمد القيسي “ص 53”
سلسلـة القبائـل السوريـة.. قبيلـة العقيـدات،
لماذا يجب على تركيا والولايات المتحدة العمل معاً؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top