حرب المفاهيم نظرة على تغير المفاهيم في ظل الحرب على غزة

حرب المفاهيم نظرة على تغير المفاهيم في ظل الحرب على غزة

إن الحروب في الكرة الأرضية قديمة قدم التاريخ، ومع تقدم الزمان وتطور الوسائل فإن أشكال الحروب وأنواعها تتطور وتتعدد حتى أنه يصعب حصرها، لأنها تختلف بحسب كل زمان ومكان، فهناك الحرب الإعلامية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها من أنواع الحروب.

إلا أن هناك نوع دقيق من أنواع الحروب يحتاج إلى تخطيط ونَفَس طويل وبُعد نظر في التعامل معه وهو حرب المفاهيم، فالمفهوم هو: “مجموعة الصفات والخصائص التي تحدد الموضوعات التي ينطبق عليها اللفظ تحديداً يكفي لتمييزها عن الموضوعات الأخرى”، فالمفاهيم هي التي تكوِّن وعي الشعوب وتساهم في تكوين أفكارهم التي تتحول إلى سلوك، والذي يسعى فيه كل طرف من الأطراف المتصارعة للتأثير على الطرف الآخر وترسيخ مفاهيم محددة لديه سواءً شعر بذلك أم لم يشعر.

هناك الكثير من المفاهيم التي تعرضت للحرب عليها قديماً وحديثاً حتى أنه بات مجرد ذكرها يعطي مدلولاً سلبياً لسامعها، فمفهوم العودة للتراث مثلاً أصبح يرمز في وعي كثير من الأشخاص إلى التخلف والرجعية والظلام على كافة الأصعدة وهذا المدلول صحيح بالنسبة للمجتمعات الغربية التي عاشت قروناً من الجهل والظلام لأنها لم تكن تمتلك تراثاً علمياً ولا حضارياً في العصور الوسطى، إلا أن المشكلة أنهم نقلوا مدلول هذا المفهوم إلى الوعي العربي المسلم، وأصبح بعض أبناء المسلمين يرفضون العودة إلى التراث، مع أن تراثهم مشرق أيما إشراق، وليتنا نعود لتراثنا العلمي والحضاري الغني الذي لا يضاهيه أي تراث عالمي، لكن آلة الإعلام والسياسة أثرت تأثيراً سلبياً بهذا المفهوم لمنع المسلمين من الاعتزاز بتاريخهم وتراثهم.

وفيما يأتي نستعرض مفهوماً من المفاهيم التي مورست عليها حرب مفاهيمية بهدف طمسها أو إفراغها من محتواها:

يعد مفهوم الجهاد من المفاهيم الأصيلة في الوعي الإسلامي وهو الذي يدفع المسلم للقتال دفاعاً عن دينه ووطنه ومقدساته، وقد كان استخدام هذا المفهوم شائعاً جداً خلال القرون الماضية وحتى نهاية القرن العشرين حيث كانت تستخدمه الكثير من الدول العربية والإسلامية لوصف ما يجري من مقاومة في أفغانستان ضد السوفييت مثلاً، إلا أنه خلال السنوات أو العقود الماضية سعت الدول بمختلف توجهاتها وانتماءاتها ولأغراض سياسية إلى طمس هذا المفهوم ومحوه تماماً من وعي الأجيال المسلمة، ذلك لأنه يشكل خطراً على الأنظمة الفاسدة في الدول الإسلامية قبل أن يشكل خطراً على الدول الغربية الاستعمارية، لذلك فقد سعت تلك الدول لمنع هذا المفهوم في وسائل الإعلام، وفي حال ذكره فإنه يذكر ضمن سياق الحديث عن التطرف والإجرام الذي تمارسه بعض الجماعات المتشددة (حسب تعبيرهم).

بالإضافة إلى ذلك فقد سعت معظم الدول الإسلامية لحذف هذا المفهوم وكل ما يشير إليه من آيات أو أحاديث من المناهج المدرسية، وعملت الأجهزة الأمنية على منع تداول هذا المفهوم أو التطرق إليه في الفعاليات الجماعية أو الصحف، بل حتى في الدروس والخطب التي تلقى في المساجد، وما زالوا حتى اليوم يحاربون هذا المفهوم بشتى الوسائل، حتى أنهم ربطوا مفهوم الجهاد بمفهوم الإرهاب الذي تم حصره في الوعي الجمعي لجميع سكان العالم بالمسلمين فقط وكل ما يقومون به من حق مشروع في الدفاع عن أنفسهم وأعراضهم ومقدساتهم.

بالإضافة إلى ذلك فإن أجهزة الإعلام العالمية والعربية حاولت استبدال بعض المفاهيم بمفاهيم أخرى تغاير معناها أو تفرغها من محتواها وقيمتها الحقيقية، فمفهوم الثورة تحول إلى حراك مسلح أو حرب أهلية، ومفهوم الشهداء تحول إلى ضحايا أو قتلى، ومفهوم المقاومة تحول إلى اعتداء وإجرام حسب ما يرغب أن يصوره الإعلام، حتى مفهوم الإبادة أو التطهير العرقي الذي تمارسه بعض الدول ضد شعوبها أو ضد شعوب أخرى أصبح يسمى حرباً على التطرف والإرهاب.

إن جزءاً من الحرب على المفاهيم هو في أن يتم تضييق مدلول مفهوم عام يشمل شريحة كبيرة ليعطي مدلولاً محدداً ومحصوراً في نطاق ضيق جداً، وذلك بهدف تحييد أكبر عدد ممكن من الأطراف ومنعهم من الدخول في الصراع المبني على المفهوم، فمثلاً جميع العرب والمسلمين يعيش في وعيهم مفهوم الصراع مع العدو الصهيوني منذ منتصف القرن العشرين عندما قام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وعلى امتداد النصف الثاني من القرن العشرين كان يتم التعبير عن الصراع بين العرب والصهاينة بأنه صراع عربي إسرائيلي، وكان كل المثقفين والسياسيين والقادة العسكريين وحتى أبسط فئات المجتمع على اتساع الرقعة العربية يشعرون بأن هذا الصراع يعنيهم وهو جزء من وجودهم.

ولكن مع بداية القرن الحادي والعشرين، عملت وسائل الإعلام ومختلف الأطراف السياسية على تحويل هذا الصراع من صراع عربي إسرائيلي إلى صراع فلسطيني إسرائيلي، وبالتالي فقد نشأ جيل يعتقد بأن ما يحدث في فلسطين هو شأن داخلي لا يعنيه التفكير فيه فضلاً عن المشاركة فيه والتضحية من أجله، حتى خرج بعض الجهال ممن يقول بملء فيه “إن القضية الفلسطينية ليست قضيتي”، وبذلك فإن شريحة كبيرة جداً خرجت من دائرة الصراع لمجرد غرس مفهوم جديد في الوعي العربي، وفي السنوات الأخيرة وتحديداً بعد قيام حكومة ديمقراطية منتخبة في غزة عام 2007م، عملت العديد من الأطراف العالمية على تضييق الصراع أكثر فأكثر حتى أصبح صراعاً بين غزة وإسرائيل، حتى باتت جميع المدن الفلسطينية المحتلة خارج إطار الصراح حسب هذا المفهوم الجديد.

واستمر الأمر كذلك حتى بدأت معركة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 فبدأت عملية تضييق المفهوم إعلامياً وسياسياً أكثر فأكثر ليصبح الصراع ينحصر فقط بين حماس وإسرائيل حتى بات جميع أبناء قطاع غزة خارج نطاق الصراع حسب هذا المفهوم الجديد أيضاً، وبهذه الحرب المفاهيمية المتدرجة على مدة عقود تحول الصراع العربي الصهيوني من صراع يواجه فيه العدو الصهيوني ما يقرب من مليار مواطن عربي مسلم، إلى صراع يواجه فيه مئة ألف مقاتل من حماس فقط.

إن هذا التغير في المفاهيم ينسحب على الكثير من المفاهيم في حياتنا، ولا ينحصر في مجال دون مجال آخر، لذلك فإن الدقة والحذر في استخدام المفاهيم أصبح واجباً لأنه بات يدخل إلينا مفاهيم لا يقبلها عقل، ولا منطق، ولا فطرة، ولا دين كمفهوم المثلية الجنسية وغيرها من المفاهيم الخطيرة.

إن مفاهيم أي أمة هي جزء من تاريخها وحاضرها ومستقبلها، لأن أول ما تصاب به الأمم في أطوار تراجعها الفكري والمعرفي والثقافي مفاهيمها، لذلك علينا أن نكون واعين لذلك، ونحافظ على مفاهيمنا الأصيلة التي هي جزء من هويتنا العربية والإسلامية، وأن نكون حذرين من أي خطاب إعلامي أو سياسي دخيل علينا يحاول تغيير مفاهيمنا أو تحريفها عن معناها الأصيل، وأن نغرس مفاهيم حب الله والأمة والوطن والدفاع عنها وكل ما يتصل بها من مفاهيم في وعي أبنائنا جيلاً بعد جيل حتى نحافظ على كياننا ولا نصبح في المستقبل أمة فاقدة للهوية والانتماء لأنها أضاعت ثوابتها.

مروان حيَّاني
باحت وكاتب في العلوم الإنسانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top