التخلف عن الركب!

التخلف عن الركب!

لطالما مثّلت الحضارة الإسلامية في عصورها الزاهية والمتقدمة مركز إشعاع حضاري ومصدر إلهام للإنسانية في شتى مجالات الحياة، وكان لها دور بارز في نهضة البشرية وتقدّمها؛ حيث شكّلت الحضارة الإسلامية ومنتجاتها المعرفية والثقافية والعلمية إحدى الروافد التي اعتمدت عليها الحضارة الأوروبية وغيرها من الحضارات القائمة اليوم فأصبحت من القوى المتحكمة بالعالم اليوم.

لكن هذا البريق الحضاري ما لبث أن خَفَتَ منذ أكثر من 400 عام بحسب بعض الباحثين، عندما بدأ داء التخلف والركود يصيب الحضارة الإسلامية ويعيق تقدمها واستمرارية قيادتها للعالم. ولكي تكون صورة التخلف الذي تتجرعه الأمة الإسلامية واضحا يمكن تشبيه واقعنا العربي والإسلامي المتخلف بسرعة عربة يجرها حصان وواقع الدول المتقدمة بسرعة سيارة آخر موديل إن صح التشبيه، وهنا يظهر حجم الفارق المهول في سرعة التقدم لدى الدول المتقدمة اليوم وبين دول العالم الإسلامي المتخلفة. ولكي نشخص مشكلة التخلف في عالمنا العربي والإسلامي، ونحاول وضع بعض الحلول لا بد من البحث عن جذور هذه المشكلة والأسباب التي ساهمت بشكل كبير إلى حدوث هذا التراجع والتخلف والتي من أهمها:

الاستبداد السياسي وغياب الديمقراطية وفساد تصورات الحكام والقادة وارتهانهم للقوى الاستعمارية، لأن الاستبداد من أهم عوائق التقدم والنهوض، فالمناخ الذي تصادر فيه الحريات وتنتهك فيه الحقوق وتصادر، وتهدر فيه كرامة الإنسان، وتهدد حياته، لا يمكن أن يكون مناخا مشجعا للإنسان على النهوض والتقدم والإبداع بل يكون سببا رئيسيا في التخلف وانحدار الوضع إلى الأسوأ، وهذا كله انعكاس للتصورات الفاسدة والخاطئة للحكام والقادة تجاه الحكم ومتطلباته، إضافة إلى ارتهانهم للقوى الاستعمارية الخارجية ورهن مقدرات بلدانهم لتلك القوى في سبيل الحفاظ على كراسيهم.

ضعف التمسك بالقيم والمبادئ وتعاليم الإسلام لدى معظم الحكام والشعوب الإسلامية وصارت هوّة كبيرة بين ما يقال وما يطبّق، لذلك استشرى الفساد المالي والإداري في كثير من البلدان الإسلامية وبالتالي تراجع الأداء والإنتاج والفاعلية وانتشر الفقر والرشوة والبطالة وأصبح التخلف النتيجة الحتمية لذلك.

التخلي عن مصادر القوة التي تمتعت بها الحضارة الإسلامية خلال عصور تطورها والتي من أهمها العلم أو التعليم الجيد والاستفادة من تجارب الحضارات الأخرى، فالتقدم على الصعيد العلمي هو مفتاح التقدم والنهوض، وهو أساس بناء الحضارات والدول، إذ تتطور الأمم بتطوره والاهتمام به، وتتخلف وتعيش على الهامش إذا أهمل وهمّش، فالاهتمام بهذا المجال نجده على الهامش في معظم البلدان العربية والإسلامية باستثناء بعض التجارب ونقاط الضوء في عدد قليل جدا من دول العالم الإسلامي وفي بعض مراحل التعليم فيها، لكنها لا ترقى إلى المستوى المطلوب، فالتعليم في مجمله يعيش على الهامش حيث يعاني تخلفا ممنهجا على مستوى المناهج والمخرجات وتأهيل الكادر وضعف رواتبهم، وضعف البنى التحتية، وتخلف الوسائل، فما ينفق على التعليم والبحث العلمي لا يساوي شيئا مما ينفق على التسلح والجانب العسكري بشكل عام، أضف إلى ذلك انتشار الأمية والجهل في أوساط المجتمع في كثير من البلدان العربية والإسلامية. التخلف في المجال العلمي والتقني أدى إلى التخلف على المستويين الاقتصادي والصناعي، لذلك الأمة الإسلامية في معظمها أضحت أمة مستهلكة لا منتجة، مستوردة لا مصنعة لأغلب الصناعات والمنتجات، وهذا يعني أن التراجع والتخلف في مجال التعليم كان سببا مباشرا في حدوث التخلف في المجالات الصناعية والاقتصادية والتقنية، وكل ما أشرنا إليه في المجال العلمي والتقني والصناعي والاقتصادي هي مؤشرات واضحة على تخلف العالم الإسلامي.

عدم استغلال الأمة الإسلامية لمواردها وموقعها الاستراتيجي في قلب العالم بشكل أمثل فيما يعود عليها بتحقيق أقصى المصالح لبلدانها وشعوبها، بل رهن حكامها للقوى الاستعمارية الغربية فأضحت نهبا للناهبين.

الصراعات والحروب الداخلية والخارجية التي غذّاها الاستعمار الغربي في البلدان العربية والإسلامية، مما أدى إلى تفرق الأمة وتشتتها وتنازعها وإشغالها بهذه الصراعات عن الأهداف الحقيقية للنهوض والتطور.

الاستعمار ونهب ثروات البلدان العربية والإسلامية وتقسيمها وصراع المشاريع الدولية عليها كل ذلك أثر بشكل أو بآخر في تخلف الأمة واستمرار هذا التخلف. هذه الأسباب وغيرها أدت إلى تخلف الأمة الإسلامية وتأخرها في اللحاق بركب الحضارة اليوم على الصعد كلها.

وأما النوع الثاني: التخلف على مستوى الزمن أو العصر مقارنة بالبلدان المتقدمة في عصرنا اليوم في المجالات كلها حيث الحضارة المادية على مستوى البنى التحتية المتطورة والجامعات الراقية والمصانع العملاقة والكفاءة السياسية والإدارية، والنظم والقوانين السياسية، والحريات والديمقراطية والمساءلة وحفظ الحقوق ورفاهية العيش وحفظ كرامة الإنسان، والتقدم التقني والرقمي والذكاء الاصطناعي، وبلدان الأمة الإسلامية قابعة في ذيل القائمة في أغلب هذه المجالات، فمثلا في الكتاب السنوي للتنافسية العالمية – الذي يصدر عن المعهد الدولي للتنمية الإدارية منتصف يونيو من كل عام– ففي نسخته الـ 35 لعام 2023 شمل قياس القدرة التنافسية الاقتصادية لـ 64 اقتصادا على مستوى العالم، منها 6 دول عربية فقط من بين 58 دولة عربية وإسلامية تقريبا، حيث يتم تقييم قدرة الدول على إيجاد بيئة إيجابية توفر القدرة التنافسية للمؤسسات وتحافظ عليها، وتقسم البيئة الوطنية لكل دولة إلى 4 محاور أو عوامل رئيسية وهي: الأداء الاقتصادي، والكفاءة الحكومية، وكفاءة الأعمال، والبنية التحتية. لذلك نلاحظ أن كتاب التنافسية العالمية لهذا العام ضم 6 دول عربية وهي الإمارات والسعودية وقطر والبحرين والكويت والأردن، وعلى الرغم من وجود 3 دول ضمن أقوى 20 اقتصاداً على مستوى العالم، كالإمارات التي جاءت في المركز الـ 10 عالميا، وقطر في المركز الـ 12، والسعودية في المركز الـ 17، إلا أن غالبية الدول العربية والإسلامية ما زالت تقبع في ذيل القائمة وهذا مؤشر تخلف واضح على المستوى الاقتصادي.

وهناك مؤشر آخر للتخلف العلمي والتقني والندرة في نسبة الابتكارات والاختراعات في معظم بلدان العالم الإسلامي من حيث تصنيف الجامعات ونسبة الإنفاق على البحث العلمي فمثلا تنفق إسرائيل ما مقداره 4.7% من دخلها القومي على البحث العلمي لذلك تأتي إسرائيل في مراكز متقدمة في أبرز التصنيفات العالمية للجامعات كتصنيف معهد شنغهاي وتصنيف كيو إس وتصنيف ويبوماتركس وغيرها من التصنيفات، فيما تحتل معظم بلدان العالم الإسلامي ذيل القائمة.

وأما أبرز الحلول التي يمكن أن تسهم في الحد من التخلف وتحسن الوضع على كل المستويات وتساهم في عودة الأمة الإسلامية إلى الريادة والسيادة والنهوض مجددا فأهمها:

1- إعادة تفعيل القيم الست السياسية العليا في المنظور الإسلامي كما يسميها الدكتور عبد الكريم بكار في كتابه (الحكم في الإسلام بين القيم والإجراءات) وهي: الشورى والعدل والحرية والمساواة، واختيار الأكفاء والرد إلى الله ورسوله، من خلال مأسستها وتطبيقها ووعي الشعوب بها وإبراز أهميتها، وذلك لمحاربة الاستبداد ومعالجة التخلف السياسي الذي يعدّ أصلاً كل بلاء وتخلّف.

2- ردم الفجوة الحاصلة بين القيم والمبادئ وتطبيقها، من خلال تجسيد تلك القيم في الواقع عبر التربية والتعليم والوعي وما يصاحبها من أنشطة وفعاليات، وتجسيد تلك القيم في نماذج وقدوات بشرية والتشجيع عليها.

3- تطوير التعليم والبحث العلمي والاهتمام بجودة التعليم في كل مراحله والتركيز على البحث العلمي والتطور التقني وزيادة الإنفاق عليهما والاستثمار فيهما، بل تخصيص نسبة كبيرة للنهوض بهما وتطويرهما.

4- وضع خطط تنموية للبنى التحتية وإنشاء المصانع والشركات وتسخير موارد الدول لتنفيذ تلك الخطط والمشاريع وتطويرها، ومعالجة المشكلات الاجتماعية كالفقر والبطالة والأمية.

5- الاستقرار السياسي وإنهاء الحروب والصراعات وتصفير التوترات والمشكلات، وجلب الاستثمارات الأجنبية وتشجيعها وتقديم التسهيلات لها بما يضمن مصالح البلد ويحترم سيادته.

ويمكن أن نخلص من كل ما سبق، إلى أن التخلف من أكبر الأزمات التي تعانيها الأمة الإسلامية، وهي أزمة لا بد لها من حلول كون أسبابها في غالبها معروفة ومؤشراتها واضحة، بشرط أن تتضافر كل الجهود وتصدق النوايا وتتوفر الإرادة الصادقة والعزم الأكيد، ويُؤْخَذ بأسباب النهوض وسننه وقوانينه من قبل الحكومات والمجتمعات؛ كي تنهض أمتنا وتعود مجدداً لتولي زمام الريادة والقيادة للعالم أجمع وما ذلك على الله بعزيز.

أ. ناصر الشكلية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top