غزة

غزة ما بين  شعبوية المؤسسات الأمريكية واستبدادها

غزة ما بين  شعبوية المؤسسات الأمريكية واستبدادها.. والخروج بأنماط وحوامل جديدة تمثلها الشرائح الطلابية   

تعتبر أحداث قطاع غزة وتطوراتها الإقليمية، واحدة من أكثر الأحداث التي هزت الأوساط الشعبية والدولية على الأطلاق. ولأول مرة في التاريخ الحديث تستجلب القضية الفلسطينية مركزيتها السياسية والإنسانية. بعد أن كادت أن تضمحل في غياهب النسيان العالمي وذلك  بسبب صخب الأحداث الدولية والإقليمية المتسارعة وانشغال ساسة الحكومات وصناع القرار في مواضيع وقضايا احتلت حيز القضية الفلسطينية إلى حد ما. فمن حروب الخليج الثلاثة وحرب افغانستان. إلى ثورات الربيع العربي والحروب  التي اتت في سياقاتها كالحروب الأهلية.  إلى القضية الأوكرانية….الخ كل هذه الأحداث تم اعتبارها على أنها مختبرات حقيقية للرأي العام العالمي. أو بالأحرى هي قضايا وأحداث قدمت نفسها للرأي العالمي الذي كان من المتوقع أن يؤثر في توجيه مساراتها أو على الاقل التأثير النسبي فيها. لكن هنا لماذا أقحمت القضية الفلسطينية نفسها بقوة من جديد وكانت و من أنجح القضايا التي دخلت مختبر الرأي العام العالمي؟ وماهي دلالات  الاستجابة العالمية للقضية الفلسطينية ؟ 

هل كانت حركات الاحتجاج في العالم لاسيما  حركة الاحتجاجات الطلابية التي شهدتها الجامعات الأمريكية مثل جامعات كاليفورنيا وأتلانتا وبوستن والتي امتدت إلى تكساس وجامعات أخرى حالة شعبوية غير منضبطة؟ هل تدرك  بعض الشعوب “المتقدمة” لاسيما في أمريكا  وتثق بكفاءة أصرحتها العلمية  في التأثير في توجيه مسار الأحداث العالمية من خلال الضغط على صناع القرار؟ هل تفكر الأوساط الشعبية  بمكافحة هذا التناقض بأداة شعبويا أم أنها تحاول الخروج بنمط جديد قائم على المحافظة ووقف تآكل هذه القيم والمبادئ التي هي بمثابة مبرر لوجودها؟ 

 قضية غزة مختبر حقيقي للشرائح الطلابية الواعية 

لأول مرة في التاريخ البشري تحظى قضية شرق أوسطية بإنتاج حالة زخم شعبي عالمي. وهذا ما تم التماسه منذ معركة طوفان الاقصى التي اندلعت في السابع من أكتوبر العام الماضي. وأماطت هذه المعركة بإلحاح اللثام بشكل كامل عن الوجه الحقيقي  للصورة الإجرامية البشعة لإسرائيل  وللحكومات الغربية المتماهية  مع إجرامها. لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية التي قدمت نفسها على أنها واحدة من أسمى  الدول الحوامل لحقوق الإنسان. علماً أن اعلان فيرجينيا للحقوق 12 حزيران 1776   ( Virginia Declaration of Rights )

هي أول وثيقة دستورية أمريكية مهدت الطريق لمسألة احترام حقوق الإنسان والمحافظة عليها والتي تم اعتبارها مرجعية أساسية للدستور الأمريكي. والكثير من  المواثيق العالمية لحقوق الإنسان. وظلت هذه المبادئ راسخة إلى حد ما في عقيدة بعض  الشعوب ومؤسسات صنع القرار  المحلية والعالمية.

التحدي الأبرز

لكن التحدي الأبرز يكمن في مدى قدرة هذه الكيانات في المحافظة عليها من التناقض والازدواجية في المعايير. فالأزمات والصراعات وتناقض المصالح  هي أكثر مختبر قادر على قياس فاعليتها بكفاءة.  فنتائج الاختبارات أظهرت زيف المعيارية الأمريكية في حمل راية حقوق الإنسان. وفي هذا المضمار نجد التحالف الوثيق  بين شعبوية بعض الكيانات المؤسساتية الأمريكية المؤثرة على صنع القرار العالمي.  وبين غوغائية اللوبيات وجماعات الضغط المؤثرة عليها في ظل تآكل حقيقي لهذه المبادئ على المستوى الدولي. ومن هنا بدأ شعور السخط والتذمر يطغى على بعض الاصرحة العلمية الجامعية. والذي انعكس على شكل حركات احتجاجية داخل الجامعات الأمريكية كجامعات كاليفورنيا واتلانتا وبوستن والتي امتدت إلى تكساس وجامعات أخرى. فكان لهذه الحركات الاحتجاجية عدة اهداف. الأولى.  قصير الأمد يتمثل في تحقيق نتيجة الضغط على الحكومة الفيدرالية لتغيير سياستها في قضية غزة. وثنيها عن التماهي المطلق مع جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها حكومة نتنياهو في فلسطين بعد أحداث السابع من أكتوبر.

المحافظة على فاعلية زخم القضية الفلسطينية

 الأمر الآخر، المحافظة على فاعلية زخم القضية الفلسطينية عالمياً انطلاقاً من الولايات المتحدة الأمريكية الطرف الأكثر تاثيراً في هذه القضية. وكونها البلد الأكثر فاعلية في السياسة الدولية أيضا.  ثالثاً، التأكيد على قابلية تشكيل  فكرة القيام بنمط جديد يحمل على عاتقه حماية مبادئ حقوق الإنسان والحريات العالمية في حال انهيار الحوامل التقليدية داخل المؤسسات الأمريكية. أو على الأقل إصلاحها ورأب الصدوع والشروخ التي تتسرب منها هذه القيم. 

ومن هنا. لا يمكن صبغ هذا الحراك بصبغة شعبوية كما ادعت بعض الأوساط والجهات، لكن في الوقت نفسه لا يمكن نفي شعبويتها الإيجابية المنضبطة فكرياً أيضاً في سبيل مكافحة مرض الشعبوية السياسية المقيتة. والمفارقة هنا أن الشعبوية والغوغائية تسربت إلى بعض المؤسسات الليبرالية الأمريكية في مسألة التعاطي مع  بعض القضايا الدولية كقضية غزة. بينما بدأت شريحة من شرائح المجتمع  الأمريكي  جزئياً تستنهض أفكارها وتحرص على تخليصها من شعبويتها المقيتة ليُعَبَرَ عنها كأفكار إصلاحية من شانها حماية الإنسان والمحافظة على حقوقه. وإن شعور هذه الشريحة الطلابية من خلو الدولة الأمريكية وانحطاط معياريتها يشي وينبئ بزوال فاعليتها داخلياً وخارجياً. ولأن الشعب الأمريكي يفتخر بما تم إنجازه من تأسيس هذه الدولة ومؤسساتها على أُسس دستورية قوية ومتينة فبمبرد تصدع هذه الاسس وانهيارها دولياً ستنعكس على الداخل السياسي الأمريكي بقوة وهذا ما تستهجنه شريحة الحراك الطلابي. ومن هنا تقدم الشرائح الطلابية  الواعية نفسها في هذه القضية كمشروع لحماية المعيارية الأمريكية الراسخة في اصرحتها العلمية.

أقرا أيضا: غزّة… حربٌ لا مفر منها

التحديات الامريكية 

وفي هذه الحالة تجد الحكومة الفدرالية معضلة ثلاثية المحاور. أولاً، تتمثل في الاستمرار في محاباة إسرائيل والحفاظ على استمرارية كيانها الوظيفي القائم على استمرارية جرائمها بحق الفلسطينيين وبالتالي تقاسم الولايات المتحدة مع إسرائيل الوجه الدموي القبيح البشع عالمياً. ثانياً، إخفاقها في المحافظة على معياريتها الدولية  من التآكل والاضمحلال. وهذا ما تم استنتاجه من خلال اللعب والانتقال من دور الفاعل تارة المجرم  إلى دور الوسيط الإنساني تارة اخرى. التحدي الثالث.

يتمثل في الوصول لآلية فاعلة في إسكات الاصوات الشعبية الداخلية او لجمعها والحول دون عرقلة مساعيها والتأثير في سلوكها السياسي الموجه للخارج. هذه التحديات الثلاثة كانت حاضرة في أغلب القضايا الدولية بشكل نسبي ومتواضع.  لكن هذه المرة  مع قضية غزة شكلت هذه التحديات الثلاثة عبئاً كبير على المؤسسات  السياسية الأمريكية. التي من المفترض على حد أدنى أن توازن بين مصالحها ومسألة تعاطيها بجدية مع قضية حقوق الإنسان في غزة دون الاستهانة بها. فمن الازدواجية في المعايير إلى الاصطفاف الغير مبرر مع اسرائيل ككيان يشكل ندبة سوداء في وجه الإنسانية إلى عدم الكفاءة في معالجة الازمات الدولية وهدر حقوق الإنسان .كان لابد من خروج اصوات تمثل وعي انساني حقيقي بالحفاظ على المكتسبات الإنسانية المقدسة التي تم انتزاعها من طواغيت الاستبداد ورعاته ….

إبراهيم عدنان المحمد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top