مقدمة:
في مجملِ التاريخِ البشري، القديمِ والمتوسط، هناك حالاتٌ نادرةٌ جدا من أشكالِ الديمقراطيةِ والانتخابِ في النظم السياسية، أُولاها حدثت في مدينة أثينا قرابةَ القرنِ السادسِ قبلَ الميلاد، أما ثانيتُها فحدثت في القرن السادس الميلادي في المدينة المنورة بُعيد وفاةِ الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- كان العربُ، كما كلِّ أمم الأرض آنذاك، يحكمُهم ذو الشوكة، وذو الشوكةِ يوصي بابنه، الذي هو بدوره أيضا ذو شوكةٍ بالوراثة، وهكذا دواليك إلى أن يأتي ذو شوكةٍ غيرُه ويغلبَه حربا وبالقوة.
“الديمقراطية” الوليدة في المدينة المنورة
لم يتجاوز عُمرُ “الديمقراطيةِ” الوليدةِ، والتي كانت غريبةً عن أنظمةِ الحكمِ الدُّوَليةِ الملكية/الإمبراطورية السائدةِ في بلاد العالم في ذلك الزمن، لم يتجاوز عمرها الثلاثةَ عقودٍ تخللها انتكاساتٌ جاءت بمقتلها في نهاية المطاف. ولكن ما يُلفِتُ النظرَ والإعجاب؛ أنها تميزت وتفوقت على ديمقراطية أثينا، التي حَرَمتْ النساءَ والعبيدَ من حق التصويت، ومنحت ذلك الحق للجميع. فيذكر ابن كثير، رحمه الله، في (البداية والنهاية ج 7 ص:164 ت شيري) في اختيار الخليفة بعد مقتل ابن الخطاب رضي الله عنه: [نهض عبد الرحمن بن عوف يستشير الناس فيهما” أي بعلي وعثمان”، ويجمعُ رأيَ المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادِهم جميعا وأشتاتا، مثنى وفرادى ومجتمعِين، سرا وجهرا، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، أي المعتكفات في بيوتهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها.]
الانتكاسة والتوريث
إلا أنه لم تطل تلك الحالُ كثيرا، ولا متسع للتطرق للتفاصيل… ولكن تلك الحقبة تلقت الضربةَ القاصمة بعد أن تم الإعلان عن توريث يزيد الحكمَ وما تبعه من ردود فعلٍ ثوريةٍ على النقض بالعهد الممنوح للحسن بن علي، رضي الله عنهما، على اشتراطه لتنازله عن الحكم أن يعود الأمر من بعد معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، للشورى والانتخاب. فرجع الأمر لما كان معهودا عند العرب قبل ذلك وبعده إلى يوم الله هذا.
التوريث في العصر العباسي
حتى من ثاروا على الأمويين وأطاحوا بهم، وأقصد العباسيين، وقعوا بنفس البئر ووصل بهم الأمر أن ابني هارون الرشيد -الأمين والمأمون- بعد أن قسّم أبوهما المُلكَ بينهما من بعده حيث لم يكتفِ كلٌّ منهما بنصيبه وهاجما بعضيهما بجيشين عظيمين بحرب ضروس حتى انتصر أحدُهما.
وكان هذا حالُ الحُكْمِ عند العرب والعجم في الغالب الأعم في تلك العصور وحتى العصر الحديث.
الثورة الفرنسية وانعكاساتها على العالم الإسلامي
بعد الزلزالِ الذي أحدثته الثورة الفرنسية على الدُّوَل الأوروبية في القرن الثامن عشر وانتقالِ العدوةِ السياسية إلى شعوب الدولةِ العثمانية، لمع نجمُ “الديمقراطية” مجددا بتأسيس “مجلس المبعوثان” في زمن عبد الحميد الثاني، أواخرِ القرن التاسعِ عشر، فكانت أولى التجارب الديمقراطية بعد مئات السنين من الحكم الجبري المطلق.
في عصرالجمهوريات الحديثة
بعد انهيار الدولة العثمانية وحلولِ الاحتلالاتِ والانتداباتِ الغربيةِ على دولِنا، تشكلت ممالكٌ كثيرةٌ عند العرب وعلى الطريقة المعهودة في التوريث، ولكن كثيرٌ منها تعرض لثورات أثمرت بإنهاء الحكم الملكي كما حدث بمصرَ وسوريا والعراق. فمجيءُ “الجمهوريات” كانت سابقة في تاريخ العرب حينها، يبشرُهم بزمنٍ لا يكون فيه “المتغلبُ” صاحبُ شرعيةٍ، فالشعب هو “مصدر السلطات” وله الحق في “تعيين من يمثلَه”، عاشت هذه الجمهوريات “شهرَ عسلِها” في متصف القرن العشرين والذي كان مليئا بالنكسات والنكبات، لترجِعَ بعدها حليمة لعادتها القديمة، لتتحول الجمهوريات لـ “جملكيات” بعد أن يتغلبَ أكثرُ ضابطٍ بالجيش إجراما وخبثا على أقرانه، فيبدأ بتأسيس “مملكتِه الجمهورية” الوراثية كما حصل في سوريا وكما كان من المقرر أن يحصلَ مع علاء مبارك في مصر بعد أبيه، وكما كان يخطط “صدام حسين” لبكرِه “عدي” من بعدِه، وغيرهم الكثير. ولكنَّ للتاريخ كان رأيا مختلفا ولم يتماشى مع مشيئةِ جميعِ الطغات.
لبنان: الديمقراطية الطائفية
كان للبنان استثناءً، فأمراء الحرب الذين وقَّعوا على اتفاقية الطائف، والتي لها من اسمها نصيب، فهي اتفاقيةٌ طائفيةٌ بامتياز، لتُدخِل على المنطقة، أو ربما على التاريخ البشري، شكلا جديدا من الديمقراطية المشوهة، ولكن على كل حال “رمد العين ولا العمى” كما يُقال، لنتفاجأ بعد عدة سنوات بتوريث كلِّ رئيسِ حزب لابنه في خلافته بدءا بجنبلاط وليس انتهاء بالحريري وفرنجية.
التوريث في سوريا في “قطاعات مختلفة”
في سوريا كان الوضعُ مختلفا قليلا، فبعد نجاح التوريث على الصعيد السياسي، توسع وتطور مؤخرا ليشمل قطاعات أخرى ومنها الفن، فكلُّ فنانٍ يجب أن يكون جميعُ أبنائه فنانين، كأبناء حسام تحسين بيك وغسان مسعود ووائل رمضان وأيمن زيدان والذي كان أطفاله صغارا فأدخل إخوتَه على الخطِ لحين نضوج أبنائه، كما فعل سلطان طرب زمانه الموسيقار علي الديك مع اخوته لعدم امتلاكه ذرية.
التوريث في المجال الديني
مسألةُ التوريثِ جلبت للبشرية الكثيرَ من المصائب، فمعظم حروب البشر كانت لأسباب اختلافهم في أو على الحكم، وإصرارِ البعضِ على الاستئثار بالأمر له ولذريتِه من بعده.
ولكن هناك قطاعا مهما لم يكن بمعزل عن مشكلة التوريث، ألا وهو القطاع الديني، وبالأخص الطرق الصوفية. فعلى الرغم من أن هناك الكثير من الأنبياء الذين تنزل عليهم وحيُ اللهِ، لم يكن لأبنائهم من ذلك نصيبا من بعدهم، كما في سِيَرِ نوح ويوسُف أو حتى خاتمِ الرسل على جميعهم أفضل الصلاة والسلام. ومن كان لأبنائهم نصيبا من النبوة والحكم فذلك بفضل الله وبصلاح ذاته هو وليس بفضل من أبيه أو بوصية.
ولكن يصر أصحاب “السُلطة الروحية” على مسألة التوريث أبا عن جد! أذكر قبل عدة سنوات بعد وفاة شيخ الطريقة القادرية الكَسْنَزَانية أراد أتباعُها مبايعةَ ابن الشيخ الذي يدعى “نهرو” الذي لا علاقة له بالروحانيات، فهو رجلُ اعمال وسياسيٌّ، ولديه شركات في أمريكا وكان ذي علاقات وطيدةٍ مع إدارة ترامب ومتهما بالتجسس لـ (CIA) وبتهم فسادٍ ماليٍّ بالعراق، بالإضافة لكونه متزوجا من ممثلةٍ سورية شهيرة تدعى نورمان أسعد! ولَك يا صديقي أن تتخيل إلى أيِّ حدٍّ وصلت بنا مشكلةُ التوريث!
ختاما:
من خلال استعراضنا لتاريخ التوريث وتأثيره على الأنظمة السياسية، نرى بوضوح أن مشكلة الحكم والوصول إلى السلطة كانت ولا تزال من أهم التحديات التي تواجه مجتمعاتنا. لقد أثبت التاريخ أن التوريث ليس الحل الأمثل لتحقيق العدالة والاستقرار، بل غالبًا ما يؤدي إلى الفساد والصراعات الداخلية التي تُضعِف الأمم وتعرقل تقدمها.
بناءً عليه يبد أنه لن تقوم لنا قائمة إلا إذا وجدنا طريقة فعالة لحل مشكلة الحكم والوصول إلى السلطة. يجب أن نتبنى نظامًا يعزز مبدأ الشورى والانتخاب الحقيقي، حيث يكون الشعب هو مصدر السلطات، ويتمتع كل فرد بحق المشاركة في صنع القرارات. نحتاج إلى مؤسسات قوية ومستقلة تضمن النزاهة والشفافية، وتعمل على منع تكرار أخطاء الماضي ومحاسبة المخطئين.
إن التحدي الأكبر أمامنا هو كيفية تحقيق ذلك في ظل التعقيدات الحالية والمصالح المتشابكة. ولكن بإرادة قوية وتعاون جماعي، يمكننا أن نضع أسسًا راسخة لنظام حكم عادل يحقق تطلعات شعوبنا ويضمن لهم مستقبلًا أفضل. فقط عندها يمكننا أن نقول إننا نسير على خطى نهضة حقيقية تليق بتاريخنا العظيم وتطلعاتنا المشروعة. وعلى كل حال لا يمكن تقديم خارطة طريق متكاملة في مجرد مقال ولا حتى كتاب كامل… فالقضية كبيرة جدا ومعقدة وتحتاج لجهود جبارة، ولكن النقطة الأساسية كانت للفت النظر لمساوئ التوريث.