Search

هل يساهم الاضطهاد في تشكيل الهوية السورية؟

تُعد “الهوية السورية” اليوم من الهويات الوطنية الهشة نوعاً ما، ويبرز هذا نتاجاً لتاريخٍ معقَّدٍ ومتشابكٍ من العواملِ السياسيةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ. خلالَ العقودِ القليلةِ الماضيةِ، شهدتْ سوريا اضطراباتٍ كبيرةٍ أدَّتْ إلى نزوحِ ملايينَ السوريينَ وانتشارِهم في جميعِ أنحاءِ العالمِ. هذا الشتاتُ السوريُّ، رغمَ آلامِه ومعاناتِه، يساهمُ بشكلٍ كبيرٍ في تشكيلِ الهويةِ السوريَّةِ الحديثةِ بطرقٍ لم تكنْ متوقَّعةً. في هذا السياقِ، يمكنُ القولُ إنَّ الاضطهادَ الذي واجهَهُ السوريونَ قد يكون له دورٌ في بلورةِ هويةٍ سوريَّةٍ جديدةٍ ومتميِّزةٍ.

تأثير السياسات الداخلية على الهوية السورية

قبلَ الحديثِ عن تأثيرِ الشتاتِ والاضطهادِ على الهويةِ السوريَّةِ، من الضروريِّ النظرُ في السياقِ الداخليِّ الذي سبقَ هذه الأحداثِ. كانتْ الهويةُ السوريَّةِ قبلَ الحربِ مشوَّهةً إلى حدٍّ كبيرٍ بسببِ سياساتِ النظامِ الحاكمِ. سعى النظامُ السوريُّ منذُ عقودٍ إلى تغذيةِ هويةٍ عربيةٍ جامعةٍ تتجاوزُ الحدودَ القُطريةَ والوطنيَّةَ. هذه السياساتُ كانتْ تهدفُ إلى توحيدِ الشعوبِ العربيةِ تحتَ رايةٍ قوميَّةٍ عربيةٍ، ما أدَّى إلى تهميشِ الخصوصيَّاتِ الوطنيَّةِ والثقافيَّةِ للسوريينَ. قبلَ هذهِ المرحلةِ، كانتْ سوريا جزءاً من نظامِ الخلافةِ الإسلاميَّةِ الذي لم يعرفِ الهوياتِ الوطنيَّةَ/القُطْرية، والتي ظهرت قبل قرنين فقط من اليوم، فقدْ كان يتبنَّى الهويةَ الإسلاميَّةِ الجامعة.

الاضطهاد والهجرة كعوامل في تشكيل الهوية

معَ اندلاعِ الحربِ في سوريا عامَ 2011، واجهَ السوريونَ مستوياتٍ غيرَ مسبوقةٍ من العنفِ والاضطهادِ في بلدهم. أدَّى هذا الوضعُ إلى نزوحِ ملايينَ السوريينَ إلى الدولِ المجاورةِ وأوروبا. في ظلِّ هذهِ الظروفِ الصعبةِ، بدأَ السوريونَ يواجهونَ تحدياتٍ جديدةً تتعلقُ بالاندماجِ والحفاظِ على هويتِهم في المجتمعاتِ الجديدةِ. في الشتاتِ، وجدَ السوريونَ أنفسَهم في بيئاتٍ جديدةٍ ومتنوعةٍ ثقافياً، مما أجبرَهم على إعادةِ تقييمِ هويتِهم والانفتاحِ على الثقافاتِ الأخرى. هذا التفاعلُ معَ الثقافاتِ المختلفةِ أدَّى إلى بلورةِ هويةٍ سوريَّةٍ مرنةٍ ومتعددةِ الأبعادِ.

الانقسامات الداخلية وتوحيد الهوية في الشتات

خلال سنواتِ الصراعِ في سوريا، كانتِ الفِرقُ والطوائفُ والمكوناتُ الإثنيةِ السوريةِ تعاني من انقساماتٍ عميقةٍ، حيثُ لم تكن ترى أنَّ هناكَ ما يجمعها تحتَ مظلة هوياتيةٍ واحدة. هذه الانقساماتُ دفعتْ كلَّ مكونٍ إلى البحثِ عن دعمٍ خارجيٍّ من دولٍ تدعمُ توجهاتِه الفكريةِ والإيديولوجيةِ ضدَّ المكوناتِ الأخرى. هذا الوضعُ أدَّى إلى تفاقمِ الصراعِ الداخليِّ وتعميقِ الهوةِ بينَ هذه المكوناتِ. ومع ذلكَ، السوريونَ الذينَ اضطروا للنزوحِ والهجرةِ إلى الخارجِ وجدوا أنفسَهم يتعرضونَ لعدمِ التقبلِ في المجتمعاتِ المضيفةِ. وبالأخص في دول الجوار، كلبنان وتركيا، التي من المفترض أن تكون تنتمي لنفس أو لثقافةٍ قريبةٍ من التي عِند السوريين بحكمِ الجوار. هذا الاضطهادُ والتهميشُ جعلَهم يشعرونَ بالانتماءِ إلى “هويةٍ سوريةٍ” بشكلٍ قسريٍّ، حيثُ أدركوا أنَّ ما يجمعُهم كسوريينَ في المنفى يتجاوزُ انقساماتِهم الداخليةَ ويعززُ من شعورِهم بالهويةِ الوطنيةِ المشتركةِ رغم أنفهم، وأنه حتى لو تبرؤوا من “السوري المختلف” سيبقى جميعهم بنظر المجتمعات المضيفة “سوريين”.

أمثلة على مساهمة الاضطهاد في تكوين هويات شعوب معينة

تجربةُ السوريينَ ليستْ فريدةً من نوعِها. هناكَ العديدُ من الأمثلةِ في التاريخِ على كيفيةِ مساهمةِ الاضطهادِ والشتاتِ في تشكيلِ هوياتِ شعوبٍ معينةٍ. من أبرزِ هذه الأمثلةِ التجربةُ اليهوديِّة. على مدى قرونٍ، واجهَ اليهودُ اضطهاداً ونفياً من بلدانٍ مختلفةٍ، مما أدَّى إلى تشكيلِ هويةٍ يهوديَّةٍ متميِّزةٍ تعتمدُ على الدينِ والثقافةِ المشتركةِ. رغمَ التحدياتِ التي واجهَها اليهودُ، إلا أنَّ تجربتَهم في الشتاتِ ساهمتْ في تعزيزِ الهويةِ اليهوديَّةِ وجعلِها أكثرَ قوةً وتماسكًا. منذُ العصورِ القديمةِ، تعرَّضَ اليهودُ للاضطهادِ والنفيِ، بدءاً من السبيِ البابليِّ إلى الشتاتِ في أوروبا خلالَ العصورِ الوسطى. في كلِّ مرةٍ كانوا يُنقلونَ من مكانٍ إلى آخرَ، كانوا يحملونَ معهم تقاليدَهم وثقافتَهم، ما ساهمَ في تعزيزِ هويتِهم والحفاظِ عليها. خلالَ “الهولوكوستِ” في الحربِ العالميَّةِ الثانيةِ، واجهَ اليهودُ اضطهاداً ورعباً غيرَ مسبوقٍ، فكانتْ هذهِ التجربةُ نقطةَ تحولٍ في تعزيزِ الهويةِ اليهوديَّةِ وجعلِها محوراً أساسياً لتشكيلهم كيانهم في فلسطين التاريخيةِ لاحقاً.

السود في الولايات المتحدة

واجه الأفارقة الذين جُلبوا كعبيد إلى الولايات المتحدة اضطهاداً شديداً وتمييزاً عنصرياً على مدى قرون. هذا الاضطهاد أسهم في تشكيلِ هُويةٍ جماعيةٍ للسودِ في أمريكا، رغم اختلاف أصولِهم العرقية والدينية بالأصل، إلا أن تجربة العبودية والنضال من أجل الحقوق المدنية أصبحت جزءاً من الهوية الثقافية للسود الأمريكيين. حركات مثل حركة الحقوق المدنية في الستينيات قادها شخصيات بارزة مثل مارتن لوثر كينغ الابن، ساهمت في تغيير المشهد الاجتماعي والسياسي في أمريكا، مع تعزيز الهوية السوداء القائمة على الفخر بالتراث الأفريقي والنضال من أجل المساواة.

الفلسطينيون

منذ نكبة 1948، واجه الفلسطينيون تهجيراً قسرياً واحتلالاً لأراضيهم، ما أدى إلى نشوء مجتمعات فلسطينية في الشتات. رغم التحديات الكبيرة، أسهم هذا الاضطهاد في تعزيز الهوية الفلسطينية، حيث أصبحت قضية العودة وحق تقرير المصير جزءاً لا يتجزأ من الوعي الجمعي للفلسطينيين. عملت الجاليات الفلسطينية في دول الشتات ، مثل لبنان والأردن وأمريكا الشمالية على الحفاظ على الثقافة الفلسطينية وتعليم اللغة العربية والتقاليد للأجيال الجديدة.

في النهاية

يمكنُ القولُ إنَّ الاضطهادَ الذي واجهه السوريونَ يساهمُ بشكلٍ كبيرٍ في تشكيلِ الهويةِ السوريَّةِ الحديثةِ. إذ تعكسُ تجاربُ السوريينَ في الشتاتِ وتفاعلاتهم معَ الثقافاتِ المختلفةِ الدورَ المهمَّ في آلية التشكيل. من خلالِ النظرِ إلى تجاربِ الشعوبِ الأخرى يمكنُنا فهمُ كيفيةِ تأثيرِ الاضطهادِ والشتاتِ في تشكيلِ الهوياتِ الوطنيَّةِ والثقافيَّةِ وجعلِها أكثرَ قوةً وتماسكاً. إنَّ الهويةَ السوريَّةِ اليومَ هي نتاجٌ لتاريخٍ معقَّدٍ ومتشابكٍ، ويمثلُ الشتاتُ السوريُّ فرصةً لإعادةِ بناءِ هذهِ الهويةِ على أسسٍ جديدةٍ ومتينةٍ.

عبد الرحمن الناصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top