يذهب المنظرون الكلاسيكون والأطروحات الليبراليةـ في علم العلاقات الدولية أن معاهدة “ويستفاليا” 1648 كانت نقطة ارتكاز لنشوء النظام الدولي متعدد الأقطاب وأرست مفهوم توازن القوى، باعتبارهم وافتراضهم أن المعاهدة تولد عنها: إنهاء الحروب الدينية التي كان مسرحها معظم الأراضي الأوربية، ونشوء الدولة القومية وبداية للإقرار قانون يحد من الحرب وهو ما يعرف اليوم بالقانون الدولي، كما أن هذه المعاهدة ساهمت في فصل سلطة الكنسية عن السلطة الزمنية “الدولة”.
السياق المنتج لمعاهدة وستفاليا:
شهدت أوربا في مطلع القرن السابع عشر، تحولات عميقة وجذرية، على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث أطلق على هذه المنعطف التاريخي في أوروبا “عصر النهضة” والذي اتسم بتراجع دور الاقطاع والحكم الكنسي، بالإضافة إلى تشكل نهضة ثقافية وتشكل تيارات فلسفية، وبروز تيارات دينية إصلاحية مسيحية كان من أبرز روداها “مارتن لوثر” “وجون كالفن” اللذان قادا حملة تجديد للدين المسيحي الذي ترعاه الكنسية، ونشرا المذهب البروتستانتي _ الذي أخذ بالانتشار في أوروبا في تلك الحقبة_ الأمر الذي أدى إلى دخول أوربا في حروب وصراعات (طائفية – دينية) وواجهت أزمات عديدة، منها ما يعرف بحرب ” الثلاثين عاما” أو “ثورة بوهيما” التي أطلقها البروتستانت الألمان ضد استبداد “الإمبراطور الكاثوليكي” تحولت هذه الثورة إلى حرب دخلتها جميع الدول الأوربية، واستمرت هذه الحرب ثلاثين عاما أنهكت أوربا، طرح خلال هذه الحرب مطالب حتمتها طبيعة المرحلة التي كانت تعيشها أوربا، كاستقلال الأقاليم عن الإمبراطوريات، والحريات الدينية وشكل التنظيم السياسي؛ لذلك وجدت دعوات لإرساء السلام وإنهاء حالة الحرب فاجتمعت الدول المتحاربة في عام 1644 في مؤتمر والذي انتهى بعقد “معاهدة وستيفاليا” عام 1648.
هذه المعاهدة نتج عنها بحسب الطرح الليبرالي التقليدي، تحولات ذات أهمية على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، حيث صنعت شكلا جديدا من أشكال التنظيم السياسي بانتقال الدولة من الشكل الإمبراطوري الأممي، إلى دول قومية بشكلها الحالي اليوم، وتم ترسيم الحدود بين الدول على المستوى الجغرافي، كما أن الحكم الديني الكنسي تضاءل بشكل كبير بعد هذه المعاهدة، وتم نتيجة لها تقنين العلاقات بين الدول، فالقانون الدولي اليوم هو تطور طبيعي لما تم طرحه في حروب ما قبل المعاهدة.
لكن وإن تم التسليم بهذه التحولات التي تشكلت على إثر معاهدة ويستفاليا، فربما لا يمكن الإقرار بأنها كانت “نقطة إسناد جغرافي” لنشوء النظام الدولي، لا من ناحية السابقية التاريخية لمثل هذه المعاهدة، ولا على الأثر الذي تشكل بعد عقد المعاهدة، كما تذهب الدراسات الليبرالية لتأكيد ذلك، انطلاقا من المركزية الأوروبية حضاريا، ويقوم الطرح الليبرالي في هذا -كما ناقشه “د. بشير زين العابدين” أستاذ العلوم السياسية والتاريخ السياسي، في كتابه (النظريات الأمنية وتطبيقاتها في العالم العربي، الطبعة الأولي، عام 2023)- على أربعة فرضيات نفتها الدراسات الحديثة وهي:
- أن المعاهد تعد أول اتفاقية دبلوماسية في العصر الحديث. وهذا غير دقيق حيث إن هناك العديد من الاتفاقيات التي أبرمت بين الدول، قبل هذه المعاهدة، منها “معاهدات القسطنطينية”1533 التي أبرمت بين الدولة العثمانية والنمسا، ومعاهدة “كاتو-كامبريسس” 1559 وهي أول اتفاقية تسوية دبلوماسية تشهدها أوروبا في عصرها الحديث (النظريات الأمنية، ص121)
- أن المعاهدة شكلت نظاما جديدا في أوروبا يقوم على عدم التدخل في شؤون الدول. وهذا ما نفته الحقائق التاريخية بعد المعاهدة، حيث استمرت الحروب والتدخلات في شؤون الدول، بما في ذلك الحروب الإسبانية-الفرنسية (1635-1659)، والحرب الإنجليزية-الهولندية 1652-1654، حيث استمرت الحروب في أوربا والتدخل في شؤون الدول الأخرى، التي نشبت فيها حروب أهلية، في بريطانيا وفرنسا وغيرهما.
- أن الاتفاقية أنهت الحروب والصراعات الدينية في أوربا. وذلك ليس صحيحا حيث إن الكنيسة، أعادت صراعها إثر تراجع سلطاتها في النصف الثاني من القرن السابع عشر، ونشبت حروب دينية جديدةـ منها الحرب السوفياردية-الولدينسية (1655-1690)، وما يعرف بحرب التسع سنوات (1688-1697)، وغيرهما من الحروب التي اكتست بطابع ديني في أوروبا.
- أن الاتفاقية أسست لما يعرف بالدولة القومية. وهذا غير صحيح إذ أن شكل التنظيم السياسي الإمبراطوري ضل ممتداً لبعد الاتفاقية، ومصطلح ” القومية- Nationalism” إلى رد الفعل الألماني على الحروب النابليونية مطلع القرن التاسع عشر، وبروز القومية البريطانية 1830، وما تلا ذلك من دعوات لإنشاء دول على أساس قومي في بريطانيا وفرنسا أسبانيا.
بناء على ما سبق لا يمكن الانطلاق من الفرضية الليبرالية التقليدية، في أن معاهدة وستفاليا كانت مؤسسة للنظام الدولي، وهذه الفرضية ربما يكون دافعها “المركزية الأوربية” على المستوى الحضاري، وأنها معاهدة لا تستطيع تحمل إنجاز بقدر إنشاء نظام دولي، فالتحير للغرب بالمفهوم المتجاوز للجغرافيا، وإنما على السياق الحضاري، ربما أدى لمثل هذا الطرح، المجرد من الحقائق التاريخية، والذي يبني عليه سردية سياسية غير دقيقة في تصور النظام الدولي نشأة ودورا.