ميسون محمد
إعلان مقتل حسن نصر الله وقادة حزب الله اللبناني كان لحظة فارقة في مسار الأحداث الإقليمية، لكن هذا الحدث يتجاوز حدود الفرح أو الحزن، إنه يعكس تغييرات عميقة في اللعبة السياسية بالشرق الأوسط، حيث يستمر الصراع على الهيمنة بين إيران وإسرائيل، لا يمكن اعتبار مقتل نصر الله مجرد ضربة انتقامية نفذتها إسرائيل، بل هو إشارة واضحة إلى رغبة إسرائيل في تحجيم النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة، خصوصًا بعد سنوات من تزايد هيمنة طهران على القرار السياسي في عدة دول عربية.
منذ فجر الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، تبنت طهران استراتيجية توسعية هدفها تعزيز هيمنتها على المنطقة العربية من خلال نشر أفكار الثورة الإيرانية وتصديرها إلى دول الجوار، اعتمد هذا التوجه على مفهوم “ولاية الفقيه”، الذي يضع المرشد الأعلى في موقع لا يمكن الاعتراض عليه.
وتدريجيًا، تحولت المكونات الشيعية في دول مثل لبنان والعراق وسوريا واليمن إلى أدوات لخدمة هذا المشروع التوسعي، حزب الله في لبنان منذ تأسيسه، كان رأس الحربة في تنفيذ هذه الاستراتيجية حيث قدّم نفسه في البداية كقوة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ليكتسب تأييدًا شعبيًا واسعًا في المنطقة، إلا أن دوره الحقيقي كان أكثر تعقيدًا إذ كان يُستخدم كأداة لتعزيز النفوذ الإيراني وتحقيق أهداف طهران في لبنان والمنطقة.
في العراق، بدأت إيران في استخدام الجماعات الشيعية لتقويض نظام صدام حسين، متذرعة بخطاب ديني يصور النظام العراقي على أنه كافر ويستحق الزوال، هذا الخطاب لم يكن إلا جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى السيطرة على العراق وتحويله إلى قاعدة تابعة للمشروع الإيراني. الحرب العراقية الإيرانية التي اندلعت عام 1980 كانت واحدة من نتائج هذه السياسات التوسعية، لقد كانت تلك الحرب بمثابة نقطة انطلاق لمشروع إيران في المنطقة، حيث سعت طهران إلى تعزيز مكانتها الإقليمية من خلال دعم الجماعات المسلحة الشيعية وتوجيهها نحو تحقيق أهدافها.
إيران لم تتوقف عند العراق ولبنان، فمع مرور الوقت استطاعت أن تفرض نفوذها على أربع عواصم عربية، هي بغداد، دمشق، بيروت، وصنعاء. هذا التوسع الإيراني أثار قلقًا إقليميًا ودوليًا، حيث أصبح واضحًا أن طهران تسعى إلى بناء إمبراطورية إقليمية تخدم مصالحها الاستراتيجية، وترافق هذا النفوذ مع دعم إيران للميليشيات المسلحة في هذه الدول، مما أدى إلى إضعاف الحكومات المركزية وزعزعة استقرار المنطقة.
في المقابل، كان هناك مشروع آخر يجري على قدم وساق، مشروع إسرائيل للهيمنة التنموية على المنطقة الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريس طرح رؤيته لما أطلق عليه “الشرق الأوسط الجديد”، حيث تهدف إسرائيل إلى قيادة المنطقة تنمويًا واقتصاديًا، معتمدة على تفوقها التكنولوجي والعقلي.
وفق هذا المشروع، يجب أن تستفيد إسرائيل من كل الموارد الطبيعية الموجودة في الدول العربية، بينما توفر هذه الدول العمالة الرخيصة لإسرائيل، هذا المشروع الطموح كان يعتمد على استقرار سياسي في المنطقة يسمح لإسرائيل بتنفيذ استراتيجياتها الاقتصادية والتنموية.
إلا أن هذا الصراع بين المشروعين الإيراني والإسرائيلي لم يكن صراعًا مباشرًا فقط، فقد استغلت إيران الفصائل الفلسطينية المسلحة، ليس بهدف تحرير فلسطين كما تزعم، بل لتحقيق أهدافها في استنزاف إسرائيل ومنعها من تحقيق أهدافها التنموية في المنطقة. الدعم الإيراني للفصائل الفلسطينية لم يكن بدافع مناصرة القضية الفلسطينية بقدر ما كان جزءًا من حسابات سياسية تهدف إلى إشغال إسرائيل وتقييد قدرتها على التحرك بحرية في المنطقة.
قبل أكثر من اثني عشر عاماً، ومع انطلاق الثورة السورية، شهد الصراع الإيراني الإسرائيلي تحولاً حاداً نحو مواجهة غير مباشرة تتسم بالتعقيد والتشابك، فالثورة التي استهدفت إسقاط نظام الأسد، لم تكن مجرد انتفاضة شعبية في نظر إيران، بل تهديداً مباشراً لواحدة من أهم ركائز مشروعها الإقليمي. سوريا كانت البوابة التي عبرت من خلالها طهران لتوسيع نفوذها في المنطقة، ولهذا سارعت إلى مد يد العون للنظام السوري، معتمدة على دعم سياسي وعسكري مكثف لضمان بقائه واستمرارية نفوذها في المنطقة، وفي الوقت ذاته، كانت إسرائيل تراقب بحذر ما يجري، مدركة أن سقوط النظام قد يؤدي إلى ظهور قوى جديدة غير مألوفة قد تقلب موازين القوى الإقليمية، وتشكل تهديداً لحدودها واستراتيجيتها الأمنية الطويلة الأمد.
لقد أثبتت الأحداث التي شهدتها المنطقة في العقد الأخير أن الصراع بين إيران وإسرائيل يتجاوز حدود الدول إلى محاولة إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط، كل من الطرفين يسعى إلى فرض نفوذه على المنطقة بأساليب مختلفة، سواء عبر التوسع العسكري المباشر كما تفعل إيران، أو من خلال الهيمنة الاقتصادية كما تسعى إسرائيل، وفي النهاية، يبقى الخاسر الأكبر في هذا الصراع هو الشعوب العربية التي تعاني من الفقر والحروب والدمار، نتيجة لغياب مشاريع تنموية حقيقية تخدم مصالحها.
مقتل نصر الله يمثل لحظة فارقة في هذا الصراع المعقد، فهو ليس مجرد نهاية لرجل كان يمثل جزءًا من آلة النفوذ الإيراني، بل هو نقطة تحول قد تفتح الباب أمام إعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية. وبينما تحتفل بعض الأطراف بهذا الحدث، يبقى السؤال الأهم هو: هل ستتغير معادلات القوة في المنطقة أم أن هذا الصراع المستمر سيبقى يحكم مصير الشرق الأوسط لعقود قادمة؟