يلتقي الدين بالدولة عبر نقاط متنوعة جداً.. عند كل نقطة لقاء يحدث بينهما ارتباط أو انفصال بدرجات مختلفة..
“هوية الدولة” أحد أهم نقاط اللقاء:
1. هل يتدخل الدين في تعريف الدولة لنفسها وغاياتها؟
2. هل يحضر الدين في رمزيات الدولة والسلطة؟
سلكت الدولة الحديثة ثلاثة مسارات أساسية في الإجابة:
1. الانفصال:
لا يحضر الدين بأي طريقة، مثل فرنسا والصين وروسيا وهي دول لها تاريخ متأزم ودموي مع الدين الموجود فيها، فهو موقف ناشئ عن أزمة تجاه الدين لا عن الحرية.
2. الارتباط الخفيف:
يحضر الدين بشكل مقبول في هوية الدولة أو رمزياتها، في أمريكا يقسم الرئيس على الإنجيل عند تنصيبه، ويطبع اسم الله على العملة، في بولندا تفتتح ديباجة الدستور بأن “ثقافتنا متجذرة في التراث المسيحي للأمة وفي القيم الإنسانية العامة.. نقر بمسؤوليتنا أمام الله أو أمام ضمائرنا”
3. الارتباط القوي:
يشارك الدين صراحة في صياغة غايات الدولة وهويتها (دين الدولة، واجب الدولة تجاه الدين، مصدر السلطات، وجود مؤسسة دينية دستورية، غايات التعليم..)
كما يحضر الدين في رمزيات الدولة والسلطة (شرط الدين في المناصب العليا للدولة، مراسم التنصيب وأداء القسم، العلم الوطني، تدريبات الجيش الصباحية..)
نص أول دستور نرويجي عام 1804 (الذي استمر حتى عام 2012) على دين الدولة وكنيسة الدولة ودين رئيس الدولة والوزراء باعتبارهم يتولون مناصب تعبر عن هوية الدولة..
نصت المادة (2): (يبقى الدين الإنجيلي اللوثري هو الدين الرسمي للدولة)، ونصت المادة (4): (الملك يجب أن يظل دائماً مؤمناً بالديانة الإنجيلية اللوثرية ودعمها وحمايتها)..
ونصت المادة (12): (يجب أن يكون نصف الوزراء على الأقل مسيحيون من المذهب اللوثري)، كما تم النص على أن الكنيسة اللوثرية هي كنيسة النرويج، مما يجعلها مؤسسة دستورية..
من الواضح كيف شارك الدين المسيحي في تحديد غايات الدولة وتوجهها ومهام الرئيس في حماية الدين المسيحي اللوثري، بهذا الدستور حازت النرويج على المركز الأول في مؤشر الديمقراطية الدولي (Economist) مثلاً في أعوام 2010 و2011، وكانت من أول دولتين في مؤشر (Freedom in the Worl) وهو من أشهر المؤشرات لقياس الحريات.
استمر الدستور على هذا حتى عام 2012 حيث تم تعديل هوية الدولة من الدين المسيحي إلى القيم المسيحية لتصبح المادة (2) هكذا: (يجب أن يبقى أساس القيم تراثنا المسيحي والإنساني).. وتم إلغاء شرط الدين للوزراء.. بينما بقي شرطاً لرئيس الدولة وبقيت الكنيسة اللوثرية مؤسسة دستورية مع تحريرها من سلطة الحكومة..
في الدنمارك نجد الأمر نفسه بالنسبة لكنيسة الدولة ودين الملك..
في إيرلندا تفتتح ديباجة الدستور بهذا العبق الكاثوليكي:
“باسم الثالوث الأقدس الذي منه كل السلطة وإليه، وباعتباره غايتنا النهائية فإنه يجب أن ترجع إليه كل أعمال الناس والدول، نحن شعب إيرلندا نعترف بتواضع بكل التزاماتنا تجاه ربنا الإلهي يسوع المسيح”
ثم تؤكد المادة (6) على الأساس الديني للسلطات كلها: “جميع سلطات الحكومة التشريعية والتنفيذية والقضائية مستمدة في ظل الله من الشعب”، ثم تؤكد المادة (44) على واجب الدولة الديني: “تعترف الدولة بأن العبادة العمومية واجبة لله تعالى، وعلى الدولة أن تقدس اسمه بخشوع وتحترم الدين وتكرمه”.
في اليونان يفتتح الدستور هكذا:
“باسم الثالوث المقدس المتساوي في الجوهر وغير القابل للانقسام..”
ثم تنص المادة (1): “الديانة السائدة في اليونان كنيسة المسيح الأرثوذكسية الشرقية، وتعترف الكنيسة في اليونان بربنا يسوع المسيح رأساً لها”.