تعتبر الأنظمة الاستبدادية، مثل نظام بشار الأسد في سوريا، بيئة خصبة لدراسة تأثير العوامل النفسية والاجتماعية على سلوك الأفراد والجماعات. من خلال تحليل هذه الأنظمة، يمكننا فهم الآليات النفسية التي تستخدمها هذه الأنظمة للحفاظ على سلطتها، وكيف يستجيب الأفراد لهذه الأنظمة.
غريزتا الحياة والموت
يمكن أن نبدأ مع النظرية التحليلية لفرويد التي تستند إلى فكرة أن السلوك البشرى مدفوع بغرائز أساسية، أهمها غريزتا الحياة والموت.
في سياق الأنظمة الاستبدادية، يمكن تفسير سلوك الأفراد من خلال هذه الغرائز. ففي ظل نظام بشار الأسد، يواجه الشعب خيارا صعبا: إما الاستمرار في العيش في ظل ظروف قاسية، أو الموت. هذا الخيار القاسي يعكس صراعا بين غريزة الحياة التي تدفع الإنسان للبقاء، وغريزة الموت التي قد تظهر كرد فعل على المعاناة المستمرة.
التعزيز والحرمان
كما وتسعى المدرسة السلوكية، التي أسسها باحثون مثل بافلوف وسكينر، إلى تفسير السلوك البشري من خلال التأثيرات البيئية، حيث إن السلوك هو نتيجة للظروف والعوامل المحيطة بالأفراد. في النظام الاستبدادي، يُستخدم التعزيز والحرمان بشكل مفرط من قبل النظام لتعزيز السلوك القمعي لدى الأفراد، وخاصة عناصر الجيش والشرطة. إذ يستخدم الحكام تلك التقنيات لتشكيل سلوك المواطنين. فمثلاً، يتم مكافأة عناصر الأمن الذين يرتكبون جرائم ضد المدنيين بترقيات ومزايا مادية، مما يعزز سلوك العنف والقمع. وفي المقابل يعاقب المعارضون بحرمانهم من حقوقهم الأساسية، مما يجعلهم أكثر خوفا وطاعة.
هرم ماسلو الشهير
في حين يرى عالم النفس الامريكي ماسلو (Maslow) في نظريته الإنسانية (Humanistic Theory) أن دافعية الفرد نحو تحقيق الحاجات الدنيا ولا سيما الفسيولوجية والأمنية منها تزداد في محاولة منه لإشباعها، إذ أن الفرد الجائع يستمر في البحث عن الطعام حتى يشبع حاجة الجوع بحيث لا يكون مدفوعا إلى إشباع حاجات أخرى غيرها. وحالما يتم إشباع الحاجات الدنيا، فإن دافعية الأفراد نحوها تتخفض وتزداد دافعيته إلى تحقيق حاجات أخرى في الهرم. فتقوم الأنظمة الاستبدادية هنا بتوجيه جهود الشعوب على إشباع الحاجات الدنيا فقط، مثل الغذاء والملبس والأمن، وذلك لتثبيط رغبة الأفراد في تحقيق الحاجات الأعلى.
في حالة الشعب السوري، تجد أن الأفراد يعيشون في حالة من الفقر المدقع، حيث أن إشباع حاجات الأمان والطعام أصبح أولوية. هذه الظروف تجعل السعي نحو تحقيق الحاجات العليا مثل الانتماء والتقدير أو تحقيق الذات أمرا صعبا للغاية. كما أن النظام الاستبدادي يشجع على فرض الفقر والتهديد المستمر بالأمن، مما يعزز فكرة أن الإنسان في مثل هذه الأنظمة لا يستطيع تحقيق حاجاته العليا.
أما فيما يتعلق بالحاجات العليا كالحاجة إلى الانتماء، والتقدير وتحقيق الذات فيرى ماسلو أن دافعية الأفراد نحو تحقيقها لا تتوقف عند حد الإشباع الجزئي لها فحسب، بل يسعى الفرد إلى تحقيق مزيد من الإشباع لمثل هذه الحاجات، لأنها دائمة الإلحاح ولا تشبع بصفة دائمة أو كلية. وهذا ما يفسر دافعية الحركات الثورية عند السوريين وغيرهم رغم فقدانهم للعديد من الحاجات الأساسية، مما يدل على أنهم كانوا يسعون لتحقيق حاجات أعلى تتعلق بالكرامة والعدالة.
الدافعية والتوقع
“ويميز عالم النفس الأمريكي واينر بين الجهد والقدرة حيث يرى أن الجهد عامل غير ثابت يمكن تعديله، في حين أن القدرة ثابتة لا يمكن تعديلها أو تغيرها، ويؤكد أن الأشخاص ذوي الدافعية العالية للإنجاز يصرون على العمل بالرغم من فشلهم المتكرر لأنهم يعتقدون أنهم سوف ينجحون إذا ما ضاعفوا جهودهم، أما الأفراد ذوي الدافعية المنخفضة للإنجاز عادة يرجعون فشلهم إلى عامل القدرة، وبالتالى فهم لا يحاولون بذل المزيد من الجهد لتحقيق النجاح.” (مدخل إلى علم النفس- الزغلول والهنداوي ص 301)
حينما نضيف الى ما سبق نظرية التوقع (Expectancy Theory) للعالم فيكتور فروم فيمكن أن تساعدنا في فهم كيف تتولد الدافعية لدى الأفراد لتحقيق أهداف معينة. وفقا لهذه النظرية، فإن الدافعية تنبع من معادلة “الدافعية = القيمة × التوقع” أي أنه كلما كانت قيمة النتيجة مرتفعة، وكان التوقع في القدرة على الإنجاز مرتفعا أيضا، كانت الدافعية أكبر. ففي حالة الثورات، يشجع النجاح الثوري في دول أخرى الأفراد على الثورة، حيث يزداد اعتقادهم بأن التغيير ممكن وأسهل مما كانوا يتوقعوا.
سقوط نظام بن علي في تونس ونظام مبارك في مصر بسهولة نسبية جعل السوريين يؤمنون بإمكانية التغيير وساعد على زيادة الدافعية لدى الشعب السوري على الثورة.
كما أن تدخل “حلف شمال الأطلسي” في ليبيا ودعمه للثوار ضد القذافي عزز التوقع بأن المجتمع الدولي قد يدعم الثورة السورية، مما رفع الدافعية للاستمرار في التظاهر والمطالبة بالتغيير. مع ذلك، فإن غياب الدعم الدولي الكامل أضعف هذا التوقع لاحقا، مما أثر على الدافعية العامة لدى الشعب السوري ولدى الشعوب الأخرى على حد سواء.
تأثير الاقتصاد والدين
إلى جانب العوامل النفسية، تلعب العوامل الاقتصادية دورا محوريا في استقرار الأنظمة أو سقوطها. الأنظمة الاستبدادية التي تعتمد على الريع الاقتصادي، مثل دول مجلس التعاون الخليجي، تحافظ على استقرارها نسبيا من خلال توزيع العوائد على المواطنين. هذا يختلف عن سوريا، حيث أدى الفساد وسوء الإدارة إلى انهيار اقتصادي ما جعل الشعب أكثر عرضة للتمرد.
أما الدين فيشكل مصدر إلهام ودافعية في الثورات. في سوريا، كانت للمعتقدات الدينية دور في تحفيز الأفراد على مقاومة الظلم. فقد استمد البعض الإلهام من المفاهيم الدينية التي تدعو إلى مقاومة الطغيان وتحقيق العدالة، مما أضاف بعدا معنويا للحراك الثوري.
إلى جانب دوره كدافع للثورة، يمكن للدين أن يكون وسيلة فعالة في يد الأنظمة الاستبدادية في عالمنا العربي لتثبيت حكامها. من خلال تأويل النصوص الدينية بما يخدم مصالحها، تسعى هذه الأنظمة إلى إضفاء شرعية دينية على سياساتها القمعية عبر استغلال رجال دين موالين للنظام لترويج فكرة “طاعة ولي الأمر”، وإقناع الشعب بأن معارضة الحاكم تُعد مخالفة دينية.
تُظهر العديد من الأنظمة في المنطقة براعة في توظيف الخطاب الديني، سواء عبر وصم المعارضين بـ”الخروج عن الدين” أو عبر استخدام شعارات دينية للدفاع عن سياساتها. كما تعمل هذه الأنظمة على تقويض استقلال المؤسسات الدينية، وتحويلها إلى أدوات داعمة لشرعيتها السياسية. هذه الاستراتيجية ساعدت في كسب دعم بعض الفئات الاجتماعية التي تتأثر بمثل هذه الخطابات، مما عزز حالة الجمود السياسي والاجتماعي وأضعف الحركات الاحتجاجية أو الإصلاحية في العديد من البلدان.
خاتمة
في النهاية، يظهر تحليل العلاقة بين الأنظمة الاستبدادية ونظريات علم النفس وعلم النفس الاجتماعي كيف تستخدم هذه الأنظمة أدوات متنوعة للسيطرة على الأفراد والمجتمعات، مستغلة الغرائز البشرية الأساسية، الدوافع، والحاجات المختلفة. من خلال تطبيق نظريات مثل التحليل النفسي لفرويد، المدرسة السلوكية، هرم ماسلو، نظرية التوقع، وأفكار واينر حول الدافعية، يمكننا أن نفهم بشكل أعمق كيف تعزز الأنظمة القمعية قبضتها على السلطة، وكيف تستجيب الشعوب لهذه الضغوط.
تاريخياً، أظهرت الشعوب في ظل هذه الأنظمة قدرة على المقاومة والبحث عن الكرامة والحرية، مدفوعة بدوافع تتجاوز الحاجات الأساسية لتشمل الانتماء والتقدير وتحقيق الذات. ومع ذلك، يبقى نجاح هذه الحركات مرهوناً بقدرتها على تجاوز العقبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتعزيز التوقعات بقوة التغيير وقيمته.
إن الأنظمة الاستبدادية، ورغم نجاحها في استغلال الدين والاقتصاد والدوافع النفسية لتثبيت سلطتها، إلا أنها ليست بمنأى عن السقوط. فالتاريخ مليء بالأمثلة التي تظهر أن القمع، مهما بلغ، لا يمكن أن يكسر إرادة الشعوب التواقة للحرية والعدالة