Search

سورية على مفترق الطرق: بين آلام الماضي وآمال العدالة

مؤيد حبيب 07 / 03 / 2025
منذ عقود، كان نظام الإجرام السوري يقود البلاد إلى هاوية الفساد والدمار، ورغم مرور أشهر على سقوط هذا النظام، لا يزال أثره باقياً في كل زاوية من زوايا المجتمع السوري.
ستون عاماً من الاستبداد والظلم، لم يكن فيها المواطن السوري إلا ضحية لفساد العصابة الحاكمة، التي غَرَّقت البلاد في الديون وأهملت البنية التحتية والحياة الاجتماعية وأفسدت القواعد الأخلاقية.
ومع سقوط النظام، أصبح واضحاً أن ما خلفه من فظائع لا يمكن أن يُغتفر، خاصة في السجون التي كانت تمثل صوراً حية للتعذيب والقتل الجماعي، مثل سجن صيدنايا الذي شهد أبشع الجرائم ضد الإنسانية. لكن هناك سؤالاً عميقاً يطرح نفسه اليوم: هل سنظل ندفع ثمن تلك الحقبة المظلمة في المستقبل؟
إن الطريق نحو سورية المستقبل يحتاج إلى تعافي شامل، يتجاوز محنة النظام الفاسد الذي حكم البلاد، ويضع نصب عينيه بناء دولة قائمة على القانون والمساواة بين جميع أبنائها.
هذه المهمة ليست بسيطة، فقد ترك النظام وراءه جروحاً عميقة في المجتمع السوري، وما زال من الصعب التغلب على الإرث الثقيل الذي زرعه في النفوس. لكن رغم كل التحديات، كان الربيع السوري بمثابة نافذة أمل جديدة، حيث تمكن الثوار من الوصول إلى السلطة وطرحوا مشروعاً لبناء دولة تحترم الحقوق وتحافظ على الحريات.
كان الثوار في بداية الثورة قد وجهوا رسالة واضحة لكل السوريين، من جميع الطوائف والمكونات، بأن الدولة القادمة ستكون دولة مواطنة تقوم على المساواة وتكفل حقوق الجميع.
لكن كما هو الحال دائماً، كان الطريق إلى الوحدة بعيداً عن السهولة.
بدأنا نلاحظ أن فلول النظام البائد عادوا بشكل مكثف لخلق القلاقل والفتن في المجتمع السوري، وسعوا لزعزعة الأمن والاستقرار الذي كان يخطط له الثوار.
هؤلاء الفلول الذين كانوا جزءاً من آلة القمع والقتل التي عملت على تدمير المجتمع السوري طيلة سنوات حكم النظام، لا يزالون يسعون جاهدين للحفاظ على مصالحهم، ولو كان ذلك على حساب الدم السوري والآمال في التغيير.
للأسف، واحدة من أكثر الحقائق قسوة في هذا الواقع هي الدور الذي لعبه عدد كبير من أفراد الطائفة العلوية في دعم النظام الفاسد خلال ارتكابه أبشع الجرائم بحق الشعب السوري. يجب أن نكون واقعيين في تقييم هذا الوضع، فلا يمكننا تجاهل حقيقة أن العديد من الذين رفعوا السلاح ضد السوريين كانوا من أبناء هذه الطائفة، وكانوا جزءاً مهماً في تنفيذ سياسات القمع والتعذيب التي طالت المدنيين في مختلف أنحاء سورية. هذا الواقع يجب أن يُعترف به، لأن التاريخ لا يرحم أولئك الذين كانوا أدوات في قتل الأبرياء وتدمير الوطن.
لكن من المهم أيضاً أن نوضح هنا أنه في الوقت الذي نواجه فيه هذه الحقيقة الصارخة، لا ينبغي أن نُسحب إلى مستنقع الطائفية أو التحريض ضد الطوائف بشكل عام.
فلا يمكن لأي فكر عاقل أن يبرر العنف أو الكراهية ضد أي فئة أو طائفة بناءً على أفعال البعض. الحقيقة التي يجب أن نتفق عليها هي أننا بحاجة إلى التعامل مع هذا الواقع بشجاعة وموضوعية، وأن نركز على بناء سورية جديدة تقوم على العدالة والمساواة.
في سورية المستقبل، يجب ألا يكون هناك مكان للفساد أو للتمييز الطائفي، بل يجب أن تكون القيم الإنسانية والمواطنة هي الأساس الذي يُبنى عليه المستقبل، بحيث يعيش جميع السوريين في سلام وكرامة بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية أو الدينية.
يجب أن نتذكر أن النظام السوري لم يكن مجرد طائفة أو مجموعة معينة، بل كان نظاماً استبدادياً يقوده أفراد من كافة الطوائف، بما في ذلك الطائفة العلوية. ومن غير المعقول أن نغفل حقيقة أن الطائفة العلوية، كما غيرها من الطوائف، تضم أفراداً أبرياء يعانون من النظام مثلهم مثل بقية السوريين. هؤلاء الأفراد يجب ألا يكونوا جزءاً من المعضلة التي نعيشها اليوم.
إن ما نطالب به هو تغيير النظام الفاسد وليس استئصال طائفة بأكملها.
لكن في المقابل، نجد أن بعض الشخصيات التي كانت في الماضي جزءاً من النظام، والتي كانت تدعو لحمل السلاح ضد الدولة الجديدة، تحولت اليوم لتدعو إلى السلم الأهلي والعيش المشترك. هذا التحول المفاجئ والمنافق يطرح تساؤلات كبيرة حول مصداقية هذه الدعوات. هل هؤلاء فعلاً يهدفون إلى بناء سوريا جديدة، أم أنهم يسعون لاستعادة مواقعهم في السلطة؟ لا يمكن للمجتمع السوري أن يثق بهذه الوجوه التي كانت وراء الدماء التي سالت، ثم تحاول أن تلبس ثوب الإصلاح اليوم.
إن هذه الدعوات ليست إلا محاولة للعودة إلى الوضع القديم، الذي يضمن لهم النفوذ والامتيازات على حساب حقوق المواطنين السوريين.
لا يمكن لسورية أن تبنى على أساس طائفي أو على حساب دماء الأبرياء الذين قتلوا في سجون النظام أو على جبهات القتال.
سورية الجديدة يجب أن تكون دولة قانون، دولة يتم فيها ضمان حقوق المواطنين السوريين بغض النظر عن طوائفهم أو دياناتهم.
يجب أن تكون سورية المستقبل هي سورية لجميع أبنائها، حيث يتمتع كل فرد فيها بحرية الفكر والمعتقد، دون أن يخاف من استهدافه بسبب خلفيته الطائفية أو السياسية.
بناء هذه الدولة يتطلب من الجميع أن يلتزموا بمبادئ العدالة والمساواة، وأن يضعوا مصالح الوطن فوق أي اعتبار آخر.
ومن الضروري أن نعترف بأن القتل والدمار الذي تم في الماضي يجب ألا يكون عائقاً أمام تحقيق السلام في المستقبل، بل يجب أن يكون دافعاً للمطالبة بالعدالة والقصاص.
لا يمكن أن نغلق أعيننا عن الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري من قبل النظام وأعوانه، ولا بد من محاسبة كل من كان له يد في إراقة الدماء.
القانون يجب أن يكون فوق الجميع، ويجب أن يُجرّم كل من تسبب في الفتنة والدمار. كما أن المستقبل السوري يحتاج إلى قضاء نزيه ومستقل يمكنه محاسبة الجميع، بغض النظر عن انتماءاتهم أو مواقعهم.
في الختام، أقولها بوضوح: إن أي محاولة لعودة فلول النظام القمعي أو لفرض هيمنة طائفية على حساب مصلحة الوطن ستفشل حتماً، لأن السوريين قد تعلموا الدرس وآن لهم أن يضعوا حداً لمآسي الماضي. سورية المستقبل هي سورية الجميع، وهي سورية القانون والعدالة. لن نقبل بغير ذلك، فالشعب السوري يستحق الأفضل. إن بناء سورية جديدة يتطلب إرادة سياسية حقيقية وتعاوناً شاملاً بين جميع القوى الوطنية، بعيداً عن أي حسابات طائفية أو حزبية ضيقة. إذا تمكنا من تحقيق ذلك، سنرى سورية التي لطالما حلمنا بها، دولة حرة، ديمقراطية، ومزدهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top