جاد الله الجباعي*
- هل تشكل ظاهرة الإسلام السياسي بداية تحول وتغيير حقيقي في العالم العربي والإسلامي أم هي مجرد مرحلة انتقالية في لحظة حرجة من تاريخ هذين العالمين؟ إلى أين يتجه الإسلام السياسي وما هي المخاطر والتحديات التي يفرضها على نفسه وعلى العالم؟ هل يصمد الإسلام السياسي أمام إغراء السلطة، أم أنّه سيعيد تجربة الاستبداد والشمولية التي نشأ في ظلها؟
يسعى الباحث الأمريكي، غرهام فوللر، في العديد من كتاباته وأبحاثه المهتمة بالشأن الإسلامي ومن خلال خبرته العملية الطويلة في هذا المجال، إلى بناء تصور لظاهرة الإسلام السياسي يختلف نسبياً عن الصورة النمطية السائدة في الذهنية الغربية عموماً والأمريكية بشكل خاص، والتي تشكلت تاريخياً على خلفية العلاقة المتوترة بين الطرفين، وانطبعت، غالباً، بطابع الرفض والعدوان ومفاعيل التحدي الحضاري في المرحلة الاستعمارية، وازدادت حدتها مع نشوء الإسلام “الجهادي” وظهوره على غيره من الحركات التي تشكل طيف الإسلام السياسي، ومفاعيل الحرب الأمريكية على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من أيلول.
ويمثل كتابه “مستقبل الإسلام السياسي”، الذي نقله إلى العربية محمد محمود التوبة، محاولة مهمة في هذا الاتجاه؛ فالموقع السياسي الذي شغله المؤلف في الإدارة السياسية الأمريكية مسؤولاً عن الاستشراف الاستراتيجي بعيد المدى، ونائباً لرئس المجلس القومي للاستعلامات في الاستخبارات الأمريكية؛ والمعرفة التي حصّلها خلال إقامته غير القصيرة في بعض الدول الإسلامية؛ وتواتر زياراته إلى بعضها الآخر، وعلاقاته الشخصية مع عدد من الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في صوغ الخطاب الإسلاموي وتوجهاته الفكرية والسياسية، كلها عوامل قد مكنته من رسم صورة عن قرب لواقع المجتمعات الإسلامية، ودور الإسلاميين ونشاطهم الاجتماعي، وطموحاتهم السياسية التي صاغت علاقاتهم مع المجتمع والدولة في بلدانهم، ومع العالم الغربي في مرحلة صاخبة وأشد توتراً وعنفاً في تاريخ العلاقة بين العالمين.
في استقصاء الإجابة عن سؤاله الإشكالي سابق الذكر حول مستقبل الإسلام السياسي يعتمد فوللر التحليل السياسي العياني لجملة من تجارب الحركات الإسلامية في العديد من الدول العربية والإسلامية سواء أكانت في موقع السلطة أو في المعارضة، ويُسبَق ذلك بتمهيد طويل يلقي الضوء على الخلفية التاريخية والنفسية التي نشأ عليها الإسلام السياسي، وهو ما يسميه فوللر (التألم الإسلامي من انتكاس التاريخ)، ويقصد بهذا التعبير شعور المسلمين المرير من انتكاسة الحضارة الإسلامية وتحولها من حضارة عالمية رائدة، ودولة إمبراطورية واسعة، إلى منطقة من العالم متخلفة ومهمّشه، ودول مقسمة عاجزة عن رد التحديات التي فرضتها عليها الحضارة الغربية الصاعدة على جميع مناحي الحياة. وهو ما يقوده إلى التركيز على جملة من الأفكار المحورية والفرضيات الأساسية التي يعيد التأكيد عليها مراراً وعلى مدار فصول الكتاب قبل الوصول إلى حكمه على مستقبل الإسلام السياسي. وهذه الأفكار والمعطيات تقدم للمسلمين صورة أكثر وضوحاً عن السياسة الغربية والأمريكية في تعاطيها مع الظاهرة الإسلامية بقدر ما تجلي الكثير من الغموض عن صورة الإسلام السياسي وملابساتها في ذهن القارئ الغربي.
ومن أهم هذه الأفكار هو ضرورة إدراك الخلفية التاريخية لنشأة الإسلام السياسي، والتي سيكون لها دور كبير في تحديد مستقبله بقدر ما تلقي ضوءاً كاشفاً على واقع حركاته السياسية وتساعد في فهم أيديولوجياته وتقييم ممارساتها. وفهم العلاقة بين الدين والسياسة في المجتمعات الإسلامية. (فعندما يحدث الربط بين الدين والسياسة يجتمع حينها اثنان من أكثر مواطن الاهتمام البشري حيوية. وقد يفضي هذا الاقتران للأفضل أو للأسوأ. فكل من الدين والسياسة لهما تاريخ ممتد من محاولات كل منهما استغلال الآخر. وما يحتم هذه العلاقة التي تجمع بينهما استحالة أن تتجاهل السياسة قوة دافعة قوية مثل الدين)، وهو ما استفادت منه حركات الإسلام السياسي في سرعة انتشارها وتوسع شعبيتها، لكنه وضعها في صدام مع الدولة والقوى العلمانية المختلفة الأخرى، وارتباك أمام قبول أو رفض قيم ومفاهيم العلمنة الغربية. فزاد من سرعة تشظيها وانقسامها. (فمنها من سطع نجمه ولفت الأنظار ثم هوى وتلاشى سريعاً كالشهاب) ومنها مازال يتوفر على حيوية التجديد والتكيف والاستمرار كونها (تؤدي وظيفة اجتماعية تنتظر من يقوم بها) في ظل عجز الدولة عن القيام بمسؤولياتها وفشل سياساتها التنموية، والفراغ الذي تركه غياب المؤسسات المدنية الحديثة والأحزاب التي تتبنى أيديولوجيات مغايرة عن ساحة الفعل السياسي والاجتماعي. الأمر الذي يبقي هذه الحركات قائمة في المستقبل القريب إلى أن يأتي من يقوم مكانها بهذا الدور.
فحركات الإسلام السياسي كما يرى فوللر تشكل طيفاً واسعاً من الأيديولوجيات تتدرج من الأصولية إلى “الجهادية”، وإن ادعت جميعها مرجعية واحدة هي الإسلام. لكن في حقيقة الأمر إنّ لكل من هذه الحركات إسلامها الذي تدعي أنّه الإسلام الصحيح. والكثير من هذه الحركات حديث النشأة ولم يمض على تأسيسها سوى بضعة عقود، وقد نشأت كتعبير عن حالة رفض للفقر والقهر والتهميش، وحاجة اجتماعية للتغير والتمدن والعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية بتدبير شؤون الحياة وتحسين ظروف العيش والكفاف الاقتصادي. وجُلّها يتبنّى قيم ومفاهيم الحداثة الغربية، ومفاهيم الاقتصاد الليبرالي، والديمقراطية، لكن بلبوس وبلاغة إسلامية.
وتتوفر هذه الحركات على قدر عال من البراغماتية السياسية تؤهلها للانخراط في العملية السياسية كلما توسع الهامش الديمقراطي في بلدانها وتراجعت الحالة الشمولية، فيما نشأ بعضها نشأة عُنفيّة أو انحدر البعض الآخر إلى الراديكالية والإرهاب بحكم ظروف القمع والاستبداد و(تحديات العولمة التي تخطو خطوات حثيثة بلكنة أمريكية)، وهذه التنظيمات كما يرى فوللر ستبقى على هامش العالم الإسلامي وستكون مرفوضة حتى من المسلمين أنفسهم رغم التعاطف الصامت معهم من الآخرين، كتعبير عن حالة العداء للغرب وليس تأييداً لمشروعهم أو اقتناعاً بممارساتهم. ولعل الفكرة المحورية التي يظهرها فوللر في كتابه هي نقده الحاد للسياسة الأمريكية وغطرستها، وطابعها العدواني النفعي وقصير النظر تجاه العرب والمسلمين ودعمها وانحيازها الدائم لإسرائيل. فيحملها المسؤولية التاريخية والأخلاقية عن إدامة الصراع وتفشي العنف وبروز الحركات والأحزاب الراديكالية والتنظيمات “الجهادية” والإرهابية، عبر استمرارها في إفقار تلك البلدان وإهمال مجتمعاتها، ودعمها للأنظمة الشمولية التي ترعى مصالحها رغم كل ادعاءاتها عن دعم الديمقراطية.
لا يخفي فوللر موقفه الوطني تجاه شعبه ودولته، ومسؤوليته كمواطن أمريكي رغم نقده لسياسة بلاده التي شغل منصباً مهماً فيها من قبل. وثمة من يحكم على كتابه باعتباره كتاباً موجهاً للقارئ الغربي، وفيه نقد وتحذير للغرب والسياسة الأمريكية المنتشية بتفوقها الحضاري من مغبة “غفلتها” أو سوء تقديرها لما يجري في الشرق الإسلامي، وما سيفرضه من تحديات مستقبلية على الغرب إن لم يتم احتواؤه واستيعابه أو التصدي له، وربما تمثل الحركات الإسلامية الصاعدة أهم تلك التحديات. فما من حضارة تلتفت جديّاً نحو مناطق ضعفها أو قوة غيرها عندما تكون في نشوة التفوق والقوة، وهذا ما حصل للحضارة الإسلامية من قبل وسرّع من وتيرة انهيارها. وما من حضارة تبقى في مجدها إلى الأبد، وليست الحضارة الغربية “نهاية التاريخ”.
ولا يخفي فوللر انفتاحه وتفهمه للعرب والمسلمين وتقمصه الشعوري لمعاناتهم، ومحاولة رؤية العالم بعيونهم. لكنه يدرك أن من كان مرة ضابط مخابرات أمريكي سابق، سيبقى في نظر البعض ضابط مخابرات، وهذا ما يجعل من كتابه كتاباً إشكالياً قابلاً للتأويل الأيديولوجي في كل الاتجاهات. فثمة من يرى في كتابه رسالة سياسية مشفّرة أو إيحاء مبطناً للإسلاميين يشي بتقبل مشروعهم من قبل الغرب وتيسير وصولهم إلى السلطة فيما لو حققوا جملة من الاشتراطات الغربية والأمريكية رغم نقده لتجارب الإسلاميين الفاشلة وخيباتهم، وانحدار مشروعهم النهضوي إلى طموح سلطوي ضيق، وعدم قدرتهم على إنتاج مؤسسات حكم تجسد القيم الأخلاقية الإسلامية في الدول التي وصلوا إلى السلطة فيها عن الثورة أو الانقلاب العسكري، أو تقديم رؤية اقتصادية أو مؤسسة حكم مختلفة عن رؤية ومؤسسات الدولة العلمانية الحديثة التي يرفضونها باسم “الدولة الإسلامية” التي لم يعرف التاريخ لها نموذجا من قبل.
لكن فوللر يسعى إلى التمييز بين الإسلام كدين يرفض العنف، وكونه ككل دين حاجة إنسانية للإجابة على الأسئلة الوجودية الكبرى، وبين إسلام سياسي يجعل من الدين أيديولوجيا سياسية. ولا يتخذ فوللر موقفاً أيديولوجياً في قبول الإسلاميين أو رفضهم يجعله يصدر حكماً نهائياً على مستقبلهم، إنما يتعامل مع الإسلام السياسي كأمر واقع، ويعاين تجارب الحركات الإسلامية المختلفة وعلى رقعة جيوسياسية واسعة بمنطق التحليل السياسي الاستشرافي، ويضع افتراضات واحتمالات لمستقبل تلك الحركات مشروطة بقدرتها على الإيفاء بحاجات مجتمعاتها الحقيقية، وانفتاحها على الحضارة الإنسانية الحديثة، وتخطي عقدة الهوية، وانشغالها الحقيقي بأزمة الحضارة العالمية، والسعي المشترك نحو تقديم بديل لأزمة الحداثة واختناقاتها. ويمكن لهذه الحركات أن تتجه نحو اليسار لتملأ الفراغ الحاصل فيه، كما يمكن أن تنحاز نحو اليمين لإعادة إنتاج التجربة الشمولية والاستبدادية التي تقارعها من جديد. ويعتبر فوللر أن تجارب الإسلاميين في البلدان التي وصلوا فيها إلى السلطة من خارج صناديق الاقتراع، في أفغانستان، وإيران، والسودان، مازالت حديثة العهد، ولا تؤهلنا لإصدار حكم نهائي عليها، مع الأخذ بالاعتبار موقف السياسة العالمية المؤثرة تجاه تلك التجارب. لكن عبارة فوللرالشهيرة:( إن واحداً من المحكات النهائية هو الكيفية التي يتصرف بها الإسلام السياسي فعلاً وهو في السلطة… فلا شيء يمكن أن يظهر الإسلاميين بأسوأ صورة من تجربة فاشلة في الحكم)، تعد بمثابة حكم على تلك التجارب. فالشعبية العريضة للإسلاميين كما يرى الباحث مستندة إلى دورهم وهم خارج السلطة، بوصفهم عنصراً جديداً، وذا مبادئ، وغير مجرب في مشهد سياسي متعب وفاسد. وكثير من الأصوات التي يحوزونها تأتي إليهم بوصفها احتجاجات ضد أحزاب فقدت صدقيتها أكثر مما هي أصوت ممنوحة لهم.
*كاتب وباحث سوري23
أيلول 2024 ( من موقع حفريات ) –