تشهد المنطقة الإقليمية مرور أشهر قليلة على سقوط النظام البائد في سوريا. والذي راهنت كثير من القوى الإقليمية والدولية فيما مضى عليه. على أنه صمام أمان للأمن الإقليمي في الساحة الإقليمية. وإن انهياره كان ليُحدث زلزالاً إقليمياً من حالة ازدياد نشاط الجماعات الإرهابية والمليشيات الخارجة عن الدولة في مقدمتها داعش والفصائل والمليشيات التي تدعمها ايران، على الرغم من أن الأخيرة كانت مصدراً خطيراً لحالة الفلتان الأمني والاقليمي. فبمجرد فُجائية سقوط النظام البائد، ظن الكثير أن هامش انعدام الأمن و الحروب الاقليمية ستتسع أكثر وأكثر، ومن الممكن أن يشكل عجزاً أمام الفواعل الدولية والإقليمية في مسألة إدارة الصراع وعقلنته ، والذي سيؤدي إلى تحديات في إدارة الازمات الاقليمية في الشرق الأوسط.
الاستراتيجية الدولية
في السابق كانت الإستراتيجية الدولية، لاسيما الأمريكية قوية للدرجة التي تعاملت فيها الولايات المتحدة الأمريكية مع المشاكل والتحديات في المسارح الدولية كفرص تستفيد منها. فتنجح في إدارتها بالطريقة التي تعود بالنفع عليها. أما اليوم، ومع تعدد المشاكل والأزمات الدولية وتعقيدها وبقاءها بدون حل كالأزمة الأوكرانية في العمق الاوربي، و حرب إسرائيل على غزة، وحرب الولايات المتحدة الاقتصادية الباردة مع الصين وإيران وحتى روسيا. كان لابد لها من تخفيف هذه الاعباء عن كاهلها في إدارة هذه الازمات واحتوائها. والأزمة السورية واحدة من هذه الازمات
تأمين الشرق الأوسط قبل خروجها منه
شعرت الولايات المتحدة بعد انتهاء العقد الثاني من هذا القرن أن الازمات الداخلية داخل امريكا “كالاستقطاب السياسي والأزمات الاجتماعية وحتى التقلبات الاقتصادية”. وخارجياً “كتعدد الازمات الدولية وكثرتها وعدم القدرة على إدارتها” في كثير من الأحيان، وبشكل خاص في الشرق الأوسط، أثقلت كاهلها وأنها ليست بصدد خلق أزمات جديدة تثقل كاهلها او الإبقاء على أزمات كبيرة دون حل. فكلما كثرت وتعددت وتعقدت هذه الأزمات كلما زادت الأعباء باحتوائها وإدارتها والسيطرة عليها. فما كان من أمريكا إلا أن تتبنى جيو- استراتيجية جديدة قائمة على إيجاد حلول مستدامة للأزمات الدولية أو تسكينها على الأقل. خصوصاً أزمات الشرق الأوسط “البؤرة الاكثر صراعاً ودموية في العالم”. وذلك لتخفيف الأعباء عليها للانسحاب منه أي “الشرق الأوسط”، ومن ثم الانطلاق إلى التركيز على أمرين. الأول، الداخل الامريكي “المأزوم”, لأن أمريكا تدرك أن قوتها في الهامش الدولي لابد أن تكون نابعة من قوتها في المركز الداخلي الامريكي. الامر الآخر خارجياً التفرغ للصراع الجيو استراتيجي مع الصين الذي سيأخذ ربما أشكالاً تتجلى بالحروب الاقتصادية والسياسية وربما عسكرية بالوكالة. ولضمان قوة وفاعلية الولايات المتحدة في هذه الحرب التي تلوح مؤشراتها في الأفق، كان لابد من التفكير أيضاً في تأمين الشرق الأوسط عبر إنشاء شراكات إقليمية لإدارة المشهد السياسي بطريقة تحفظ الأمن الإقليمي عبر تحقيق استقرار سوريا ووحدتها. بالإضافة إلى، تمكين الفواعل الإقليميين بدور ريادي وتشاركي معها “كتركيا” بشكل خاص. والمملكة العربية السعودية ومصر والاردن وسوريا وبعض الدول العربية بشكل عام لتعزيز الشراكات الأمنية وضمان الأمن الإقليمي وعدم الرجوع لمربع الفوضى بعد الانسحاب الأمريكي المخطط له من الشرق الأوسط
وعافية سوريا الإقليمية وانفتاحها على تأسيس شراكات أمنية إقليمية- في هذا المضمار مهم جداً في تنفيذ هذه الإستراتيجية التي تصب في منفعة الجميع
الإدارة السورية الجديدة كشريك محوري في إدارة الأمن الإقليمي
عند تسلمت الإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. تسلحت هذه الإدارة بفهماً عميقاً لحالة المزاج الدولي والإقليمي. والذي أرهقته حالة انعدام الأمن الإقليمي في ظل بيئة موبوءة وشديدة التعقيد. وإن هذه البيئة اكثر البيئات ملائمةً لنشاط المليشيات الخارجة عن الدولة والعابرة للحدود والقوميات اي انها لا تصلح إلا لنشاط هذه المليشيات. وهي مُربكة للدول بمفهومها المؤسساتي. كما أن سوريا بشكل ملحوظ قبل سقوط النظام البائد تحولت لمسرحاً لهذه المليشيات التي أوغلت في تهديد وضرب الامن القومي لسوريا و لبعض الدول العربية ايضاً، متمثلة في تنفيذ الهجمات الإرهابية، و إنتاج وتصدير المخدرات، وحتى الأفكار الراديكالية الطائفية. وذلك بالطريقة التي أَغرقت الدول الإقليمية بحالة عدم الاستقرار، في ظل إفراغ النظام السوري البائد لنفسه من المنظومة المؤسساتية إن وجدت، إلى منظومة مليشياوية تتماهى و تتشابه مع المليشيات الإيرانية الخارجة عن الدولة وتسلك سلوكها. فما كان من الإدارة السورية الجديدة في دمشق إلا التأكيد على ضرورة الانتقال من حالة الثورة وتعدد فصائلها إلى عقلية الدولة وانضباط مؤسساتها الكابحة لجماح فوضى المليشيات والمؤرقة للأمن القومي والإقليمي والذي ينعكس على الأمن الدولي. لهذا قد رأينا توافد الوفود الرسمية الاقليمية والدولية إلى دمشق. كان من أوائلها الجانب التركي الذي يعتبر بيضة القبان في إدارة وتيرة الأمن الإقليمي مع الجانب السوري. والذي يؤدي طبيعياً إلى الحاجة الملحة لإقامة شراكة استراتيجية مع باقي الفواعل الاقليميين كدول مجلس التعاون الخليجي على رأسها قطر والسعودية بالإضافة, إلى مصر التي لا يمكن الاستغناء عنها لعدة اعتبارات إقليمية. فسوريا خلال سنوات الثورة كانت ساحة للتجاذبات الدولية والإقليمية المعقدة ولحروب الوكالة. مما أفضى إلى تدني مستويات الامن الاقليمي إلى مستويات غير معهودة. في ظل هذه الحقيقة. تَشَكَّلَ إدراكاً إقليمياً ودولياً بأن الحلول والعراقيل وحسابات الأمن الجيوسياسي الإقليمي في المعادلة الأمنية تنطلق من سوريا. وأن تحقيق الاستقرار في سوريا، هو تحقيق لاستقرار إقليمي شامل. وإن عدم الاستقرار لأمن سوريا، يعني عدم الاستقرار لأمن المنطقة الإقليمية بشكل كامل. لهذا السبب سهلت الإدارة السورية الجديدة كل سبل الانفتاح على جميع الفواعل والاطراف الاقليميين والدوليين. في هذا المضمار يمكن القول إن الترتيبة الأمنية الجديدة دولياً وإقليمياً هي “ترتيبة تقايضية” على الأمن مع سوريا وإدارتها الجديدة. فالسوريون يحتاجون للأمن كحاجتهم للحياة. والقوى الاقليمية كذلك الأمر، تدرك أن الحفاظ على الأمن الإقليمي. ينطلق من سوريا موحدة، والحفاظ على أمنها. كما أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة كاستراتيجية دولية ، تبارك وبقوة استقرار سوريا كجزء محوري من استقرار الشرق الأوسط وذلك تمهيداً لطي سجلها في الشرق الأوسط قبل الولوج الحقيقي في معركة جيو-استراتيجية باردة تجاه الصين. وعليها فإن الجميع متفق ومتوافق على وحدة سوريا واستقرارها وان سوريا ذاهبة إلى مزيد من الاستقرار. وبقدر ما تكون الدولة في سوريا قوية داخلياً، بقدر ما تكون قادرة على ضبط إيقاع الامن الداخلي والإقليمي مع الشركاء الاقليميين والدوليين
ابراهيم عدنان المحمد
كاتب وباحث في الشأن السياسي