إقَالَة حَاكِم مَصْرِف سوريا المركزِيّ، الأسبابُ والدَلائِل

 

أصدَر رئيس النِّظَام السُّورِيّ قرارًا بإقَالة حازم قرفول حَاكِم مَصْرف سوريا المركزيّ. وتُعتبر فترة حُكْم قرفول الأسوأ في تاريخ اللِّيرَة السُّوريَّة. فما هي أسباب ودلالات هذه الإقالة؟ وهل هي تغيير إداريّ روتينيّ أم أنَّ وراء الأكَمَة ما وراءها؟

 

إقالة الحَاكِم عملٌ روتينيّ أم تغييرٌ حقيقيٌّ؟

بصفة عامة تُعتبر قَضِيَّة إقالة وتغيير المسؤولين الحُكُوميِّينَ أمرًا طبيعيًّا في أيّ حكومة. فلا يُشترط بأيّ مسؤولٍ حكوميٍّ أن يبقى إلى ما لانهاية في مَنْصبه. فهذا الأمر طبيعيٌّ ومكرَّر في كلِّ دُول العَالَم إلَّا أنَّ أيّ تغيير في سوريا يُعتبر حدثًا مُهِمًّا تتناقله الأنباء ويُحلِّله الخبراء والمختصُّون. فلماذا لا يُعتبر أيُّ تغيير حكوميّ في سوريا أمرًا طبيعيًّا وعمليَّة إداريَّة عاديَّة؟

 

بصورةٍ شاملةٍ تعاني سوريا من غيابٍ تامٍّ للشَّفافية فلا وجود لأيِّ شكلٍ من أشكال المعلومات الرَّسْمِيَّة إلَّا ما تشاء السُّلطة الحاكمة نَشْره. زيادةً على ذلك فغياب المعلومة يدعو الجميع للتكهُّن حول أسباب أيّ قرار. وعلى ما يبدو فإنَّ هذه سياسة رسميَّة لدى النِّظَام السُّورِيّ. فلا يزال امتلاك المعلومة مَصْدر قُوَّة وغيابها جَهْل وضَعْف. ولهذا السبب تحرص المؤسَّسة الرَّسْمِيَّة للنِّظام على تغييب المعلومات الرَّسْمِيَّة.

 

في الحقيقة يقوم التعيين لدى مُؤَسَّسَات النِّظَام على معيار الولاء السِّياسيّ. فأيّ تغيير حكوميّ في شتَّى مستوياته قد يَشِي بتغير الاتِّجاه السِّياسيّ أو وجود شكوك حول الولاء السِّياسيّ للمسؤول المُقَال. ولهذا فإنَّ الإقالات والتعيينات الجديدة تحمل دلالات سياسيَّة وتغييرات داخليَّة. ولو كان المنصب لا علاقة له بالسِّياسة فإقالة مسؤول بيئيّ في سوريا له دلالات سياسيَّة حُكْمًا.

 

الظروف النَّقْديَّة والسِّياسِيَّة التي سبقت ورافقت الإقالة:

بصفةٍ عامةٍ عاشت اللِّيرَة السُّوريَّة أسوأ أيامها في ظلّ حُكْم قرفول، لكن لا يجوز تحميله مسؤوليَّة تدهورها؛ فالقَضِيَّة ليست مرهونة بسياسة الحاكم النَّقْديَّة. ففي سوريا لا يملك المسؤولون حُرِّيَّة التَّصَرُّف، بل يُنَفِّذُون تعليمات من جهات سياديَّة. وبالتَّأكيد لا نَدَّعِي غياب الحُرِّيَّة الكاملة للحاكم، ولكن لا يستطيع تنفيذ أيّ سياسة نقديَّة دون موافقة من رأس النِّظَام.

 

إن قَضِيَّة الإقالة والتعيين نادرًا ما ترتبط بالكفاءة المهنيَّة في سوريا، بل هي -كما أسلفنا- تخضع لاعتبارات سياسيَّة. لذلك لا يجوز البناء على النَّجاح والفشل في الأداء كمعيار للإقالة والتعيين. واللَّافت هنا أن قرار الإقالة جاء بعد التحسُّن في قيمة اللِّيرَة. من هنا فلو كانت الإقالة بسبب تدهور اللِّيرَة لكانت جاءت في ذروة الانهيار، وليس بعد البدء بالتحسُّن.

 

من ناحية أخرى فإنَّ طبيعة القرار تَشِي بأنَّه اتُّخِذَ فجأةً؛ حيثُ لم ينصَّ القرار على تعيين بديل. وبالتَّأكيد فإنَّ منصبًا كمنصب الحاكم لا يُحتمل أن يكون شاغرًا. فهذا دليلٌ على أنَّه ليس قرارًا مُخطَّطًا له. وهذا يَدْحَض الرأي القائل بأنَّ قرار الإقالة اتُّخِذَ منذ فترة. فلو كان هذا صحيحًا لكان تمَّ تعيين البديل مباشرة على اعتبار وُجُود هامشٍ زمنيّ يسمح باختيار البديل.

 

البناء على تحسن اللِّيرَة كسبب للإقالة

من جهة أخرى تقول بعض الآراء بأنَّ الإقالة وإنْ تمَّت مُؤخَّرًا إلَّا أنَّ قرفول قد جُمِّدَتْ صلاحيَّاته في ذُرْوَة تدهور اللِّيرَة. علاوةً على ذلك فإنَّ هناك فريقًا متخصصًا يقوم بإدارة البنك المركزيّ. وهذا الأمر هو السبب الفِعْلِيّ للتحسُّن الحالي في قيمة اللِّيرَة السُّوريَّة. وهذا الطَّرْح أيضًا يشوبه الضَّعْف. فقَضِيَّة تدهور اللِّيرَة تعود لأسبابٍ خارجيَّة في غالبيّتها. فأيّ فريق مهما بلغ من الخبرة والكفاءة لا يستطيع تحسين واقع اللِّيرَة دون وُجود دعمٍ خارجيّ.

 

في الواقع للوقوف على حقيقة الأمر لا بُدَّ من معرفة الآراء القريبة من النِّظَام. فصحيفة الوطن السُّوريَّة المقرَّبَة من النِّظَام ووكالات إخباريَّة أخرى محسوبة عليه بدأتْ بالهجوم على قرفول فَوْرَ صدور قرار الإقالة. وهذا الأمر يَشِي بضوءٍ أخضر لها بتناوله والإساءة له. فهذه الوكالات تقول بأن قرفول أساء استخدام السُّلْطة، وأنَّه ساهَم في الفساد؛ من خلال مَنْح قروض ضَخْمة، ناهيك عن سوء الإدارة.

 

زيادة على ذلك يسعى النِّظَام من خلال الإساءة لقرفول للقول بأنَّه أحد أسباب تدهور اللِّيرَة وبالتَّالي فعزله يعني تحسُّن قيمتها. ولهذا الأمر سببان: الأَوَّل محاولة امتصاص غَضَب الشَّارع السُّوريّ الموالي لا سيَّما أنه يُطالِب بمحاسَبَة الفاسدين. فهذا الأمر يشير إلى أنَّ محاسبة الفاسدين قد بدأت بالفعل.

 

السبب الثَّاني والأهمّ هو التغطية على السبب الحقيقيّ لتحسُّن اللِّيرَة السُّوريَّة. فكما أسلفنا فإنّ قَضِيَّة اللِّيرَة باتت خارج حدود سوريا، ولا يمكن ضبطها من الدَّاخل. ناهيكَ عن أنَّها ترتبط بقُوَّة بالملف السِّياسيّ لذلك لا علاقةَ لأيِّ إدارة داخليَّة بالتحسُّن أو بالتدهور. ولكن ما هو سبب التَّحَسُّن الَّذي يرغب النِّظَام بإخفائه والتمويه عليه من خلال الإقالة؟

 

تقول بعض التقارير الصحفيَّة نقلًا عن دبلوماسيين عرب بأن النِّظَام قد حصل مؤخرًا على 1,5 مليار دولار ساهمت في تحسين قيمة اللِّيرَة. مليار منها مَصْدره أرصدة سُوريَّة مجمَّدة لدى بنوك دول الخليج العربي. ونصف مليار دولار من الحليف الرُّوسيّ.

 

تقول هذه المعلومات: إنَّ روسيا أقنعت دول الخليج بالإفراج عن مليار دولار لسوريا؛ وذلك مقابل تعهُّد روسيا بالضغط على النِّظَام لتحجيم الدَّوْر الإيرانيّ في سوريا. وتعهَّدت روسيا بأنَّ النُّفُوذ الإيرانيّ في سوريا سيتراجع بعد الانتخابات الرئاسيَّة.

 

في نفس الوقت أعطت الولايات المتَّحدة الضَّوء الأخضر للصَّفقة الروسيَّة العربيَّة؛ من خلال تأكيدها على أنَّ قانون قيصر لا يشمل المُساعَدَات الإنسانيَّة. وتمَّ الإفراج عن الأرصدة السُّوريَّة من باب دَعْم الواقع الإنْسَانيّ في سوريا.

 

من هنا فالهدف الأمريكيّ من هذه المُوافَقَة على الإفراج عن الأرصدة السُّوريَّة يتمثَّل في دَعْم النِّظَام بحيث لا يسقط. فالولايات المتَّحِدَة ترغب ببقاء الوضع السُّوريّ على حاله على الأقل في المدى المنظور. فعندما بلغ انهيار اللِّيرَة مستوى خطيرًا يُهدِّد بسقوط النِّظَام سمحت بتقديم المساعَدَة له. فهي تضغط عليه، ولكنَّها لا تريد إسقاطه.

 

في الحقيقة قد تكون الصَّفقة الخليجيَّة الروسيَّة لدعم النِّظَام تشترط السِّرِّيَّة وعدم نَشْرها. لهذا السبب تبدو إقالة قرفول للإيحاء بأنَّ هذه الإقالة هي سبب تحسُّن اللِّيرَة. علاوةً على أنَّ سياساته السَّابقة هي التي سبَّبت الانهيار.

 

مستقبل اللِّيرَة السُّوريَّة بعد الإقالة

بصفة عامة لا يمكن التعويل على الإقالة ولا على التعيين المُرتَقَب في التَّأثير على اللِّيرَة السُّوريَّة. فقد يوجد أثرٌ للسِّياسة النَّقْديَّة للمركزيّ لكنَّه أثرٌ ضئيلٌ لا يمكن التعويل عليه. فمستقبل اللِّيرَة مرهونٌ بالدعم الخارجيّ المُقَدَّم، إضافةً للواقع السِّياسيِّ وللتقدُّم في المسار السياسي.

 

على أي حال يمكن تشبيه إقالة قرفول بإقالة رئيس حكومة النِّظَام السابق عماد خميس. فهي الأخرى جاءت بعد تدهور اللِّيرَة السُّوريَّة في منتصف العام السَّابق. وتلاها هجوم حادّ على خميس مِن قِبَل الإعلام الموالي، وصل للقول بأنَّ خميس في السّجن وتُوجَّه له تُهَم فساد كبيرة.

 

نجحت إقالة خميس والتُّهَم الافتراضيَّة التي وُجِّهَتْ له في امتصاص الغَضَب الشَّعْبِيّ المرافق لانهيار اللِّيرَة آنذاك. غير أنَّه تَمَّ دَحْض هذه الاتهامات كلّها من خلال ظهور خميس في الانتخابات التَّشريعيَّة التي جرَت في منتصف العام السَّابق.

 

بصفةٍ عامةٍ تقوم سياسة النِّظَام على التَّضحية المؤقَّتة ببعض الرؤوس. إلَّا أنَّها تضحيةٌ مُؤَقَّتةٌ فسرعان ما تهدأ النُّفُوس يتمّ عودة المسؤول المُقَال لحياته الطبيعيَّة. والحقيقة أنَّ النِّظَام لا يُضَحِّي بمَسْؤُوليه تضحيةً حقيقيَّة؛ وذلك لكَسْب ولاء المسؤولين الحاليِّين. فهو يُخْبِرهم بأنَّ أيَّ تَضْحِيَة هي تضحية شكليَّة، وهذا الأمر من شأنه ضَمَان وَلاء المسؤولين الحاليِّين.

 

يحيى السيد عمر / باحث في الاقتصاد السياسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top