الصورة النمطية أم العقيدة القتالية

الصورة النمطيّة أم العقيدة القتاليّة

سابقاً ترسخت في ذهني الصورة النمطية عن الجهاد والاستشهاد التي شكّلتها المقاطع المصورة عن حرب الشيشان والتي لطالما حرص والدي حفظه الله على أن نراها منذ نعومة أظفارنا, ولطالما تخيلت المجاهد الذي يطلب الشهادة ملتحٍ بذقن طويلة وأحياناً شعره طويل مع التزامه باللباس الشرعي، وكان اعتقادي أن أي شخص يتمتع بهذه المواصفات هو مجاهد صادقٌ في طلب الشهادة، واستمر معي هذا الحال إلى أن بدأت عمليات الطعن في الأقصى ضد الكيان الصهيوني وكنت أتابع المقاطع المصورة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، فبدأت ألحظ أنّ جُلّ المنفذين لهذه العمليات هم من فئة الشباب الذين لا ينمّ مظهرهم عن نيّة الجهاد والاستشهاد، وأقصد أن مخالفاتهم تتلخص في حلاقة القزع وحلاقة شيء من الذقن واللباس الضيق وأحياناً لفوق الركبة والتدخين في بعض الأحيان, فالفيديوهات والقصص تُظهر منفذ العملية شاباً عادياً لا ترى في سيماه ما يميزه عن أقرانه من الشباب، فما الذي دفعه للتنفيذ وهو يدرك تماماً أن موتاً محتماً ينتظره, تُرى ماذا دار في خلَده وهو خارج للتنفيذ. 

ومن منطَلق اعتقادي أن نسبة عودة مجاهد المعركة من معركته حياً خمسون بالمئة مقابل خمسين بالمئة أن يستشهد، أما هذا فنسبة موته مئة بالمئة وأقصى أمنياته أن يقتل الأول وينتقل للثاني قبل أن يتحقق حلمه ويسقط شهيداً، فكنت أقول يالا حظّه، يكفيه أن يكون صادقاً مع الله عز وجل ساعة واحدة ومن ثم يخرج للتنفيذ فيَقتل ويُقتل ثم يفوز بجنات النعيم بإذن الله وبقيت أتخيل هذا الأمر أمامي، فهي ساعة صدق واحدة مع الله ما عليك سوى التوبة وإخلاص النية؛ سيما أني كنتُ متيقناً أن هذا العمل متاح للجميع ويمكن لأي شخص في العالم أن يقوم بمثله إثر حماسه لمدة ساعة يمكن أن يستمدها من أنشودة جهادية أو قصة من قصص الصحابة أو تذكير بالجنة ونعيمها، إلى أن رأيت مقطع فيديو يبثّ سلسلة من العمليات التي نُفذت ضد الكيان الصهيوني منذ شهر تقريباً وبعدها عرفتُ باغتيال واستشهاد عدد من المنفذين وبقاء أحدهم مطارَداً ثم خروجه ليشارك في تشييع رفاق دربه متحدياً الكيان الصهيوني، فبدأت أتتبع أخبار هذا الشاب فوجدته شاباً عادياً فهو يحلق القزع ويرتدي سلسالاً في رقبته وملابسه ضيقة فتبادر السؤال إلى ذهني ثانيةً كيف لهذا الشاب أن يجاهد وهو برأيي غير ملتزم (ظاهرياً).

وزاد الأمر غرابة أن هذه المرة مختلفة فهنا لدينا احتمال جديد لم يكن في السابق فالشاب مطارَد ولم يستشهد بعد التنفيذ وخرج ليتحدى الاحتلال والجواسيس ألم تنتهِ ساعة الحماس وساعة الصدق مع الله! 

على ما يبدو أنها ليست ساعة حماس وصدق فحسب، بل هي شي أكبر من ذلك إنه
كان المثال الأمثل على موضوعنا هو: إبراهيم النابلسي شاب من نابلس جبل النار من حراس المدينة القديمة يسير بين الناس بسلاحه، فأي ثقة بالله ثم بالنفس تلك وأي أمان نفسي يعيشه هذا الشاب العشريني ويزيد فيخرج علينا بمقابلة تلفزيونية يبث خلالها روح الجهاد في نفوس الشباب ويذكّرهم بالقضية. 

وصية من قلب المعركة

والجدير بالذكر أنني لم أتعمق في هذا الحدث كثيراً وقتها لاعتقادي أنّ مثل هؤلاء الشباب سيمل حياة المطارَد وسرعان ما يسعى لتسوية وضعه منتهياً بسلامته والعودة إلى بيته، حتى نزل خبر استشهاد إبراهيم بالمواجهة مع الاحتلال والمقاطع تتوالى علينا لتظهر عدد الناس الهائل الذين ذهبوا ليشيعوا هذا البطل وكمّ المحبة والشعبية التي يتمتع بها هذا الشاب. 

وبعدها سمعت وصيته قبل استشهاده وهو محاصر ومدرك الموت لا محالة في تلك اللحظات لم ينسَ حبه الأول والدته (أم إبراهيم) تلك المرأة العظيمة التي لم تبكِ على فقدانها فلذة كبدها كحال أي أم، بل آثرت الابتسامة والدعاء والزغاريد وكأنها تزفّه في عرسه، كم تحتاج الأمة لمثلها؟ 

في بداية وصيته العفوية جداً اعترف إبراهيم بحبه لوالدته أمام الملايين من البشر ومن ثم ذكّر رفاقه بضرورة الصمود والجهاد ضد الكيان الصهيوني. 

أثرت بي تلك الكلمات كثيراً إلى حدٍ جعلني أفكر لثلاث أيام متتالية في هذا السؤال الذي لا يفارقني من أنتم أيها الشعب الفلسطيني؟ كيف تربون أولادكم؟ كيف تفكرون؟ 

سابقاً كثيراً ما شغلتني أفعال حركة فتح برغم شيوعيتها وقومجيتها لكنها كانت تقوم بأفعال لا يفعلها سوى الجهاديين والاستشهاديين من هذا العصر, أما الآن فيشغلني كل الشعب الفلسطيني رجاله ونساؤه، كباره وصغاره, ووصلت إلى أن العقيدة القتالية التي يمكن تعريفها بأنها الدافع الذي يجعل الجنود يخوضون الحرب, هي سبب وصول الشعب الفلسطيني لهذه الدرجة من الوعي، وهذه العقيدة القتالية هي التي تربى عليها كل فلسطيني جيلاً بعد جيلٍ على تلك الأرض الطاهرة، فكل رجل يعلّم ابنه ويذكّره باستمرار بفلسطين، وما كانت عليه قبل الاحتلال ويحفّظه جرائمهم واغتصابهم الأراضي والبيوت، ويذكره بواجبه كمسلم تجاه الأقصى المبارك وفلسطين الحبيبة، فيكبر الصغير وهو يعرف تماماً ما يدفعه للقتال وما يبغي تحقيقه منه وهذا ما يؤهله لأن يقوم بأعمال استشهادية ضدهم. 

عقيدة قتالية متأصلة في النفوس

إذاً فجواب العنوان بسيط ولكن لضيق أفق تفكيري وقلة وعيي لم أره كل هذه السنين، إنها العقيدة القتالية المتأصلة في النفوس ومصحوبةً بالعقيدة الجهادية المحرك الرئيسيو فحتى إن كانت المعرفة بباقي جوانب الإسلام بسيطة ولم تظهر المجاهدين بصورة المسلم الملتزم، ولكن أهل فلسطين يدركون أن الأقصى أهم من فلسطين ويثمّنون أجر الرباط فيه ويعرفون تماماً ما يحاول الكيان زرعه في نفوس الأجيال القادمة من انحلال أخلاقي ليتخاذلوا عن واجب الدفاع، ولكن الله هيأ للأقصى رجالاً يدافعون عنه ويكشفون ألاعيب الصهاينة. 

فالعقيدة القتالية والعقيدة الإسلامية هذه السلسلة ستُخرج أجيالاً قادرة على مقارعة كل القوى العالمية دون خوف والنصر عليهم بإذن الله، وستُنتج قصص لم نكن نسمعها سوى في عصر الصحابة ومن بعدها قصص لبعض العظماء الذين شهدهم العالم ولكن على فترات متباعدة, وعلى الرغم من الأحداث الكبيرة والصادمة التي عاشها هذا الجيل وأنا منهم طبعاً ولكني ممتنّ لهذه القصص في حثّها لي على البحث والمعرفة وتقصى أصل الأمور لمعرفة الطريق. 

وفي السابق أثرت بي قصة الشاب الصغير من حلب في ثورة الثمانين الذي ألقى بنفسه في أحد أفران الخبز ليموت حرقاً بعد أن نفذت ذخيرته حتى لا يتم اعتقاله ويجبر على الاعتراف بأماكن رفاقه والآن قصة البطل إبراهيم النابلسي.

أ. محمد لؤي بكور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top