Search

التحول السوري ومرحلة ما بعد الأسد

على مدار أكثر من عقد من الزمن، شهدت سوريا أحداثًا غير مسبوقة، تمثلت في صراع عنيف وتحولات سياسية واجتماعية هزّت أركان البلاد. بدأت الثورة  في عام 2011، حين خرج الشعب السوري مطالبًا بالحرية والكرامة، ليصطدم بآلة القمع المتمثلة بالنظام الأسدي، الذي قابل مطالب الشعب بالحديد والنار. ومنذ ذلك الحين، دخلت البلاد في دوامة من العنف والدمار، حيث تحولت الثورة إلى صراع مسلح، أودى بحياة مئات الآلاف ودمّر البنية التحتية، تاركًا السوريين في مواجهة معاناة مستمرة وآمالاً جديدة تتجدد مع كل يوم.

وفي السنوات الأخيرة، تزايدت التحولات بشكل غير متوقع، وبلغت ذروتها مع انهيار مفاجئ للنظام السوري في نهاية عام 2024. لم يكن هذا الانهيار مجرد نهاية لعقود من الحكم الاستبدادي، بل كان بداية لمرحلة انتقالية تعكس التحولات العميقة التي عاشتها البلاد، وتطرح أمام السوريين تحديات جسيمة في مسار إعادة البناء وترسيخ الأسس الجديدة للدولة.

ورغم أن انهيار النظام فتح نافذة أمل، فإن المرحلة المقبلة لا تزال محفوفة بالصعوبات. أمام السوريين الآن مهمة تاريخية تتمثل في بناء دولة عادلة ومستقرة، بعيدًا عن الاستبداد، مع تجنب الأخطاء التي أودت بالبلاد إلى هذا المصير. إلا أن الانقسامات السياسية والتنافسات الداخلية تظل عائقًا أمام تحقيق رؤية موحدة لمستقبل سوريا، مما يزيد من تعقيد المشهد.

هذه التحولات تثير أسئلة حاسمة وهي كيف سيتمكن السوريون من مواجهة هذه التحديات؟ وهل سيتمكنون من توحيد جهودهم رغم التباينات العميقة بينهم؟ الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد ملامح سوريا الجديدة، ما يجعل المرحلة الراهنة اختبارًا حقيقيًا للحكمة والقدرة على تجاوز الماضي.

فرص جديدة وبداية مرحلة بناء الدولة

إن ما تمر به سوريا اليوم لا يمثل فقط نهاية لمرحلة طويلة من الحكم الاستبدادي، بل يحمل في طياته فرصًا واعدة لبناء دولة حرة وديمقراطية قادرة على تجاوز جراح الماضي واستعادة مكانتها بين الأمم. هذه الفرص ليست وليدة اللحظة الراهنة، وإنما هي نتاج مسار طويل ومعقد من التغيرات الجذرية التي بدأت مع اندلاع الثورة الشعبية عام 2011، حيث أظهر السوريون خلاله إصرارًا على السعي نحو الحرية والكرامة. ما يمكن تحقيقه اليوم يتجاوز بكثير ما كان ممكنًا تحت حكم النظام السابق، مما يجعل من التفكير الاستراتيجي والرؤية الواضحة شرطًا أساسيًا لتأسيس مستقبل يستحق تضحيات الشعب السوري وصموده على مدار سنوات طويلة من الألم والمعاناة.

من أبرز الفرص التي تلوح في الأفق السوري اليوم  تكمن في الحاجة الملحة إلى تحقيق مصالحة وطنية حقيقية، تلك المصالحة التي لا ينبغي أن تقتصر على صياغة اتفاقيات سياسية شكلية أو إعلانات مؤقتة للتهدئة، بل يجب أن ترتكز على عملية حوار وطني شامل وصادق، تُعنى بالاعتراف بحقوق الجميع وتتبنى نهج العدالة الانتقالية كركيزة أساسية. إن معالجة القضايا الجوهرية التي خلفها الصراع، مثل المحاسبة على الانتهاكات الجسيمة والجرائم المرتكبة بحق المدنيين، يجب أن تكون في صلب هذه العملية، دون أن تتحول إلى أداة للانتقام أو إثارة النزاعات من جديد. بل على العكس، ينبغي أن تكون المصالحة نقطة انطلاق نحو إعادة بناء الثقة المفقودة بين السوريين أنفسهم من جهة، وبينهم وبين مؤسسات الدولة من جهة أخرى، بما يضمن تحقيق استقرار اجتماعي مستدام يشكل الأرضية الملائمة لإعادة بناء الدولة والمجتمع.

في هذا السياق، يبرز أهمية صياغة دستور جديد لسوريا، وهو بداية ضرورية لبناء دولة قانونية تضمن الحريات والحقوق الأساسية لجميع السوريين. هذا الدستور يجب أن يعكس إرادة الشعب ويضمن العدالة والمساواة، وأن يكون أساسًا لبناء نظام ديمقراطي قادر على ضمان حقوق الجميع في ظل نظام سياسي يعترف بالتنوع ويعمل على استيعاب جميع مكونات المجتمع السوري. ينبغي أن يكون هذا الدستور، بالإضافة إلى ذلك، متوافقًا مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ما يضمن أن تكون سوريا جزءًا من المجتمع الدولي المتحضر الذي يحترم كرامة الإنسان ويصون حرياته.

إلى جانب ذلك، يجب أن يكون إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية وتشاركية شاملة، إذ لم يعد السوريون بحاجة إلى مؤسسات تُدار بعقلية استبدادية أو تخدم مصالح ضيقة للنخب الحاكمة، بل إلى مؤسسات حقيقية تعبر عن إرادة الشعب وتحمي حقوقه بعيدًا عن سياسات المحسوبية والفساد. هذه العملية لا تقتصر على وضع قوانين جديدة أو إصلاح الأنظمة الإدارية فقط، وإنما تتطلب أيضًا تعزيز سيادة القانون وتطوير آليات تضمن تقديم الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة بشكل عادل وفعّال. المؤسسات الجديدة، لكي تكون قادرة على استعادة ثقة المواطنين، يجب أن تتميز بالشفافية وتكون خاضعة للمساءلة المستمرة، مع ضمان أن تعمل لصالح جميع فئات الشعب دون أي شكل من أشكال التمييز.

أما من الناحية الاقتصادية، فإن سوريا اليوم أمام فرصة لإعادة بناء اقتصادها الوطني على أسس جديدة، وذلك من خلال تبني إصلاحات شاملة تركز على استعادة الإنتاج المحلي، وتشجيع الاستثمار، وتوفير فرص عمل حقيقية تسهم في تحسين مستوى معيشة المواطنين. صحيح أن الحرب قد دمرت البنية الاقتصادية بشكل كبير، إلا أن مرحلة إعادة الإعمار، إذا ما أُحسن استغلالها، يمكن أن تتحول إلى نقطة انطلاق لتحفيز النمو الاقتصادي مجددًا.

إلى جانب ذلك، يلعب المجتمع المدني اليوم دورًا محوريًا في بناء سوريا الجديدة، حيث تُعتبر المنظمات المدنية أحد الركائز الأساسية لتعزيز حقوق الإنسان وتمكين النساء والشباب، فضلاً عن المساهمة في ترسيخ قيم الديمقراطية والمشاركة المجتمعية. هذه المشاركة لا يجب أن تظل حكرًا على النخب السياسية أو الفاعلين الرئيسيين فقط، بل يجب أن تشمل كافة فئات المجتمع لضمان تحقيق انتقال مستقر وشامل نحو دولة قادرة على استيعاب تنوعها واحتضان مختلف أطيافها.

وفي السياق ذاته، يبرز التغيير الثقافي كضرورة ملحّة لإعادة بناء الهوية الوطنية السورية. فبعد عقود من سياسات الاستبداد التي أضعفت قيم الحرية والمواطنة ورسخت النزعات الفردية والأنانية، بات من المهم إحياء القيم التي تجمع السوريين على أسس العدالة والمساواة واحترام التنوع. هذه القيم تشكل حجر الزاوية لبناء ثقافة وطنية جديدة تتبنى التنوع كقوة، وتعزز من تلاحم المجتمع وقدرته على مواجهة التحديات المستقبلية.

إن الفرص التي تلوح في الأفق السوري ليست مجرد أفكار نظرية أو أمنيات بعيدة المنال، بل هي تحديات حقيقية تتطلب إرادة قوية وجهودًا مشتركة من جميع السوريين. إذا ما تمكن الشعب السوري من استثمار هذا التحول التاريخي والعمل بروح جماعية، فإن سوريا قد تصبح نموذجًا لدولة تنهض من رماد الحرب لتبني مستقبلًا مشرقًا يليق بتضحيات أبنائها ويستجيب لتطلعاتهم نحو الحرية والكرامة.

ختاماً، إن سوريا اليوم تقف أمام مسؤولية تاريخية لا تقل أهمية عن تلك اللحظة التي خرج فيها أبناؤها مطالبين بالحرية والكرامة. فقد باتت فرصة إعادة البناء بأيدي السوريين أنفسهم، بعيدًا عن قيود الاستبداد والتبعية، اختبارًا لإرادتهم في صياغة مشروع وطني جامع يعيد اللحمة لوطن مزقته السنوات العجاف. لكن هذا المشروع لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أدرك الجميع أن بناء دولة المواطنة لا يقوم على الانتقام أو الإقصاء، بل على أسس العدالة والتعددية والمشاركة الحقيقية.

إن ما يعترض طريق السوريين اليوم ليس غياب الإمكانيات، بل تحدي تجاوز الموروث الثقيل من الاستبداد والانقسامات، وصياغة عقد اجتماعي جديد يستوعب تطلعات الجميع، ويؤسس لدولة تحمل مسؤولية أبنائها دون تمييز. فهل سيغتنمون هذه اللحظة التاريخية لصناعة مستقبل مختلف يعكس تضحياتهم وأحلامهم التي أزهقتها سنوات الصراع، أم أن الفرص ستضيع مجددًا وسط خلافات لم تعِ بعد قيمة الوحدة؟

بقلم :ميسون محمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top