مجيب خطاب
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، أصبح خطاب العنف والكراهية سمة بارزة في الصراع، حيث سعى نظام الأسد إلى تعميق الانقسامات الطائفية والاجتماعية عبر وسائل الإعلام والخطب السياسية، مما عزز ثقافة الكراهية بين مكونات المجتمع. ومع استمرار الصراع، أصبح بناء خطاب جديد قائم على التسامح والمصالحة المجتمعية تحدياً كبيراً في مرحلة ما بعد الأسد. يتطلب هذا التحدي معالجة خطاب الكراهية من خلال العدالة الانتقالية والمحاسبة، اللتين تشكلان أساسًا لبناء الثقة وإعادة الاستقرار. في هذا المقال، سنناقش تأثيرات خطاب العنف والكراهية على المجتمع السوري، ودور العدالة الانتقالية في تحقيق المصالحة وبناء سوريا جديدة على قيم التسامح والمساواة.
إرث الكراهية وخطاب العنف في سوريا
قبل التطرق إلى مألات خطاب العنف والكراهية في سوريا بعد الأسد، من الضروري أولاً فهم معنى “خطاب الكراهية” بشكل دقيق. يشير “خطاب الكراهية” إلى التصريحات أو التعبيرات التي تهاجم مجموعة أو فرداً استناداً إلى خصائص ثابتة أو متأصلة، مثل العرق، أو الدين، أو الجنسية، أو النوع الاجتماعي، أو أي سمة أخرى تعتبر جزء من هوية الشخص. ([1]) هذا النوع من الخطاب غالباً ما يتسم بالعدوانية ويسهم في نشر التفرقة والكراهية بين الجماعات المختلفة داخل المجتمع، مما يؤدي إلى تهديد السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي؛ على الرغم من أن الأمم المتحدة وبعض المنظمات الدولية قد وضعت معايير للإشارة إلى خطاب الكراهية، إلا أنه لا يوجد تعريف شامل ومحدد لهذا المفهوم في القانون الدولي لحقوق الإنسان. إذ لا يزال خطاب الكراهية يشهد نقاشاً واسعاً بين الفقهاء، خصوصاً فيما يتعلق بتوازنه مع حق الأفراد في حرية التعبير. ففي كثير من الحالات، يتداخل هذا المفهوم مع قضايا حساسة أخرى مثل حرية الرأي، وعدم التمييز، والمساواة بين الأفراد. لذلك، تبقى مسألة تحديد حدود خطاب الكراهية مسألة معقدة تتطلب توازناً دقيقاً بين حماية الأفراد من التحريض على العنف وبين حماية الحق في التعبير عن الآراء المختلفة.
في السياق السوري، تطور خطاب العنف والكراهية كنتيجة لمجموعة من العوامل التاريخية والاجتماعية، وأبرزها الحرب التي شنها نظام بشار الأسد ضد معارضيه بعد اندلاع الثورة السورية في عام 2011. استخدم النظام هذا الخطاب بشكل منهجي لتشويه صورة المعارضة ووسمها بالإرهاب،. إذ سعى النظام إلى بناء تحالفات مع بعض الجماعات الطائفية على حساب أخرى، ما أسهم في خلق بيئة خصبة لانعدام الثقة بين مكونات المجتمع السوري وزيَّن من الانقسامات الداخلية طوال فترة حكم بشار الأسد، كان النظام يعتمد بشكل منهجي على خطاب العنف والكراهية لتثبيت سلطته. من خلال وسائل الإعلام الرسمية، والخطب السياسية، والإجراءات العسكرية، كانت السلطة تُسهم بشكل مباشر في نشر الكراهية بين مختلف الأطياف السورية. هذا الخطاب كان يروج لفكرة أن العنف هو السبيل الوحيد للحفاظ على وحدة الدولة، وأن “المعارضة” هي جماعات إرهابية تهدد الأمن القومي ورفع مستوى الاستقطاب داخل المجتمع. في الوقت ذاته، انتشر خطاب الكراهية بين مجموعات أخرى، مثل حزب العمال الكردستاني، الذي تبنى خطاباً قومياً عنصريّاً يتعارض بشكل جوهري مع مفهوم التعددية السورية. ومع ظهور تنظيم “داعش”، اتخذ خطاب الكراهية ضد الطوائف الدينية أشكالًا أكثر تطرفًا وانتشارًا، حيث بدأت هذه الجماعات تروج لخطاب يستهدف الهويات الدينية والطائفية المختلفة، هذه السياسات عززت خطابات الكراهية والتمييز وأدت إلى تفشيها بين مختلف الأطراف والمكونات السورية. ونتيجة لذلك، بات خطاب العنف والكراهية جزءً من الثقافة السياسية لشريحة عريضة من السوريين حيث أثّر بشكل مباشر على. توزيع التوجهات السياسية والقيَم والمشاعر بين أفراد المجتمع([2]). إذ أصبحت المواقف لا تحدد فقط بالانتماء السياسي أو الأيديولوجي، بل أيضاً بالانتماء الطائفي أو العرقي.
العدالة الانتقالية في مواجهة الكراهية
بعد الإطاحة بحكم بشار الأسد وانتصار الثورة السورية، ظهرت على السطح بعض الخطابات “من نوع جديد” التي تهدد المشروع الوطني الجامع، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي. إذ بدأ البعض يروج لفكرة أن من لم يشارك في الثورة يستحق الحرية، لكنه لا يستحق الكرامة، وهو ما يعكس الإقصاء الذي يغذي الانقسامات الاجتماعية سيما وأنها تؤدي إلى إضعاف الوحدة الوطنية التي تحتاجها سوريا في هذه المرحلة الحساسة، سيما وأنه عملية الانتقال إلى مرحلة ما بعد الصراع تتطلب تماسكاً داخلياً يشمل جميع أطياف المجتمع، وبالإضافة إلى ذلك السخرية من تغيير مواقف بعض الشخصيات العامة “التي لم تتورط في الجرائم”، ووسمها بألقاب مثل “المكوعين – المتلونين” أو وصفهم بأوصاف مهينة، سيكون له تأثير سلبي على مسار إعادة بناء الدولة.
إن خطاب الكراهية، بما يتضمنه من أشكال متنوعة، يشكل تهديداً حقيقياً لتماسك المجتمع السوري في ظل التحولات التي تشهدها سوريا سيما أنه. يهدد حماية حقوق الإنسان ويعرقل تطبيق سيادة القانون[3]. وحتى في حال استمرار السلطة الحالية أو تولي أي سلطة جديدة، سيكون من الصعب إنهاء هذا الخطاب المدمر الذي ترسخ بشكل كبير خلال السنوات الماضية، خاصة وأنه أصبح جزء من الهوية السياسية للكثير من السوريين، ونتيجة لذلك، تبرز الحاجة الملحة إلى معالجة هذه الظاهرة بشكل جاد، لضمان بناء مجتمع سوري قادر على تجاوز ماضيه المليء بالانقسامات السياسية بشكليها العامودي والأفقي، والمضي قدما نحو بناء دولة ديمقراطية عادلة وذلك من خلال تعزيز المصالحة المجتمعية وذلك بهدف. إعادة بناء العلاقات الاجتماعية والثقة بين مختلف الفئات والشرائح المجتمعية التي تأثرت بالصراعات أو التوترات.([4])كما إن التشظي الاجتماعي والطائفي في سوريا يشكل عقبة كبيرة أمام بناء خطاب يقوم على التسامح والتعايش بين مختلف مكونات المجتمع. فالانقسام الكبير بين الطوائف والمجموعات العرقية، والذي نتج عن القتل والتشريد على أسس طائفية ودينية، ترك آثاراً نفسية واجتماعية، مما يجعل من الصعب تصحيح الصور النمطية التي تشكلت عن “الآخر” في المخيلة الجماعية. في سياق البحث عن معوقات بناء خطاب إيجابي في سوريا الجديدة، يظهر الغياب الواضح للعدالة الانتقالية كأحد أهم الأسباب التي تعرقل هذا المسعى. إذ إن افتقار حكومة تسيير الأعمال حتى هذه اللحظة إلى الأطر القانونية والمؤسساتية القادرة على التحقيق في الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت خلال سنوات الحرب يفضي إلى فجوة كبيرة، ولا يقتصر الأمر على الإفلات من العقاب، بل يتعداه إلى تصفية الجناة دون منح الضحايا الحق في محاكمات علنية للمجرمين تُظهر الحقائق وتكشف ملابسات الأحداث. وبالتالي، فإن هذا القصور يغذي ثقافة الكراهية ويضعف أي محاولة لخلق خطاب يدعو إلى التعايش السلمي وإعادة بناء الثقة المجتمعية. وعلى صعيد متصل، تعتبر المحاكمات القضائية الشفافة، وما يصاحبها من سرديات علنية تتضمن شهادات الضحايا والجناة، ركيزة أساسية لتحقيق المصالحة الاجتماعية، إذ تُعد أداة فعالة لمعالجة الجروح النفسية والاجتماعية التي خلفتها الصراعات. ومن خلال هذه العملية، يتحقق تحول المجتمع نحو الشفاء والتعافي. وفي هذا السياق، تبرز لجان الحقيقة كأداة هامة، حيث تشير العديد من الدراسات إلى قدرتها على المساهمة في تحوّل المجتمع، رغم أن البعض يعتبرها نتيجة لهذا التحول وليس سببه. كما يلاحظ بعض المحللين أن “ما يميز لجان الحقيقة هو نيتها التأثير على الفهم الاجتماعي وقبول الماضي، وليس مجرد التعامل مع حقائق محددة”([5]). وبالتالي، من خلال هذه اللجان، يتمكن المجتمع من الوصول إلى فهم مشترك لتاريخ الصراع، مما يسهم في تخفيف حدة الكراهية وخلق أرضية للتسامح والتعايش بين مختلف الأطراف. علاوة على ذلك، فإن هذه المحاكمات تحدد المسؤوليات الفردية والجماعية عن الانتهاكات. وهذا بدوره يساعد على دحض السرديات الأحادية التي تصور أطراف الصراع إما “كضحايا أبرياء” أو “كجلادين مظلومين”. ومن خلال هذا النهج، يتم ترسيخ مبدأ المساواة أمام القانون، مما يمهد الطريق لإرساء نظام قانوني عادل ومستدام. أما في حال غياب هذه السرديات والمحاكمات، فإن الجماعات تبقى حبيسة روايات متناقضة تزيد من حدة الانقسامات المجتمعية وتعرقل إمكانية التوصل إلى رؤية مشتركة لمستقبل يعكس تطلعات السلم الأهلي والاستقرار.
الخاتمة
يمكن القول إن سوريا، في مرحلة ما بعد الأسد، تواجه تحديات متعددة في معالجة خطاب العنف والكراهية الذي ترسخ خلال سنوات الصراع، سيما أنه عزز الانقسامات الاجتماعية والطائفية التي عانت منها البلاد. كما أن السياسات التي اتبعها النظام السابق ساهمت بشكل كبير في تعميق هذا الخطاب بين مختلف الأطراف، ونتيجة لذلك، ينبغي تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية بشكل عاجل، كونها تشكل عنصراً أساسياً لإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري. فبغياب العدالة والمحاسبة، يظل خطاب الكراهية حاضراً ويشكل تهديداً حقيقياً لأي محاولة لبناء مجتمع قادر على العيش المشترك في سلام. وعلاوة على ذلك، العمل على بناء خطاب مستقبلي يقوم على التسامح والعدالة، وفي هذا السياق، يجب أن نؤكد أن تعزيز المصالحة المجتمعية يتطلب تضافر الجهود من جميع الفواعل الرسمية والغير رسمية السورية، سواء كانت حكومة تسيير الأعمال الحالية أو المجتمع المدني، ومن الأهمية بمكان أخر أن يتم رصد وتحليل خطاب الكراهية بشكل دقيق لفهم ديناميكياته بشكل كامل. إن انتشار لغة الكراهية يمكن أن يشكل نذيرًا مبكرًا لوقوع العنف، بما في ذلك الجرائم الوحشية[6]. وبالتالي، فإن الحد من خطاب الكراهية أولوية للقضاء على أي بذور عنف قد تنشأ من وراء هذا الخطاب وضرورة محاسبة كل من يروج لهذا النوع من الخطاب، وذلك بهدف بناء سوريا جديدة قائمة على العدالة والمساواة، وتحقق الأمان الاجتماعي والسياسي لجميع أطياف المجتمع السوري.
[1] – الأمم المتحدة، “ما هو خطاب الكراهية؟”، الرابط: https://www.un.org/ar/hate-speech/understanding-hate-speech/wh
[2] – جامعة الملك عبد العزيز، “الثقافة السياسية” الرابط: https://www.kau.edu.sa/Files/0015966/Subjects/%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D
[3] -المجلس الأوربي، “مكافحة العنف والكراهية”، اللجنة الأوربية لمناهضة العنصرية والتعصب،2021 ، الرابط: . https://rm.coe.int/ecri-general-policy-recommendation-
[4] – أحمد محمد علي، كتاب “المصالحة المجتمعية: نماذج وآليات“، دار النشر العربية، سنة النشر2022
[5] – محمد الشرقاوي، دراسة بعنوان “أولويات العدالة الانتقالية قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟“، مركز الجزيرة للدراسات، العدد 5، فبراير/شباط 1, 2020، الرابط: https://lubab.aljazeera.net/article
[6] – الأمم المتحدة، “لماذا يجب التصدي لخطاب الكراهية؟”، الرابط: https://www.un.org/ar/hate-speech/impact-and-