Search

صيدنايا: جرح الإنسانية المفتوح وصرخة العدالة المؤجلة

بعد انهيار النظام الأسدي الوحشي، بدأنا نشهد تَجَلّي الحقيقة التي كانت مخفية لعقود في سجون النظام المظلمة، خاصة في سجن صيدنايا، هذا السجن الذي كان يُعتبر أحد أبرز معاقل القمع والتعذيب في سوريا، ظهر بعد زوال هذا النظام ليكشف لنا الوحشية التي كانت تتم تحت إشراف هذا النظام الفاسد.

لم يكن سجن صيدنايا مجرد مكان للاحتجاز، بل كان أداة للقمع والترهيب التي مارسها النظام السوري ضد كل من تجرأ على رفع صوته معترضاً، سواءً كانوا ناشطين سياسيين أو متظاهرين أو حتى مواطنين عاديين لا يملكون سوى رغبة في الحرية، عبر الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري.

هذه الآلية من القمع، التي اتخذت من الاعتقال والتعذيب سلاحًا، لم تميز بين من حمل السلاح ومن حمل القلم، بين من شارك في المظاهرات ومن اكتفى بحلم الحرية، كان هدف النظام واضحًا وهو لا مكان لمعارض، لا مكان لفكرة مغايرة، حتى لو كانت مجرد أمنية بالحرية أو بكلمة اعتراض، الطغمة الحاكمة في دمشق فهمت منذ البداية أن الثورة ضد الاستبداد تحتاج إلى سحق الروح الشعبية في مهدها، وأن صيدنايا لم يكن مجرد سجن بل كان مصنعًا لتفريغ الإصرار على الحياة من قلوب الشعب السوري.

سجن صيدنايا الذي تأسس عام 1987،في منطقة جبلية نائية شمال دمشق، لم يكن اختيار موقعه عشوائياً، بل كان جزءًا من خطة النظام لإخفاء كل ما يحدث داخله. يتألف السجن من قسمين: “السجن الأحمر” وهو الأكثر قسوةً وسوءاً، أغلب معتقليه من السياسيين والمدنيين المتهمين بجرائم إرهاب، و “السجن الأبيض”  وهو مخصص للعسكريين المتهمين بمخالفةالقوانيين العسكرية.

المرصد السوري لحقوق الإنسان يقدر أن حوالي 30 ألف معتقل لقوا حتفهم في سجن صيدنايا تحت التعذيب، وسوء المعاملة، والإعدام الجماعي، منذ اندلاع الثورة السورية.

منظمة العفو الدولية  التي وصفت سجن صيدنايا بالمسلخ البشري، ودعت في عام 2017 إلى إجراء تحقيق مستقل بشأن مايحدث في سجن صيدنايا من إعدامات للمعتقلين، وذلك بعد نشرها تقريراً يكشف عن قيام النظام بإعدام 13 ألف شخص شنقاً بين عامي 2011 و2015، واصدرت تقريراً يفيد بأنه كل اسبوع يتم شنق من 20 إلى 50 معتقلاً.

في هذا السياق، يروي لنا أحد الناجين من سجن صيدنايا ماعاشه من تعذيب وفضاعة، قائلاً: ” عندما أدخلوني في غرفة لم أراها من قبل، تفاجأت بوجود الملح الذي كنا نفتقده في طعامنا، ثم  تعثرت بجثة ملقاة على الملح وإلى جانبها جثتان، الأمر الذي جعلني متجمداً في مكاني غير قادر على الحركة، كان هذا أصعب مارأيته في سجن صيدنايا.”  

إحدى الناجيات، التي قضت خمس سنوات في السجن، تقول: “كان السجن أشبه بمجزرة يومية، كنا نعيش حالة من القلق المستمر، لا نعلم من سيكون ضحية الإعدام في اليوم التالي، كنا نسمع صراخ المعتقلين الآخرين وهم يطلبون الرحمة، لكننا كنا عاجزين عن فعل أي شيء سوى الصمت.”

تتنوع الشهادات التي تروي معاناة المعتقلين في سجن صيدنايا، بعضهم يصف عمليات الإعدام الجماعي التي كانت تتم بشكل دوري،  حيث كان يُرمى بالضحايا في مقابر جماعية أو يتم إخفاؤهم بطرق عشوائية.

ومن بين أكثر المشاهد المروعة التي أثقلت ذاكرة الشعب السوري، يبرز مشهد انتظار آلاف الأمهات على أبواب سجن صيدنايا، وهنَّ يحملن في قلوبهنَّ وهج الأمل وخيبة اليأس، بحثًا عن أية معلومات تُكشف مصير أبنائهن المختفين. هذا المشهد يُعدُّ واحدًا من أكثر المشاهد إيلامًا في تاريخ الأزمة السورية، حيث لا يعكس فقط معاناة فردية، بل يُجسِّد مأساة إنسانية جماعية تظلُّ مصائر الآلاف فيها مجهولة، وتُترك العائلات في دوامة من الانتظار والغموض.

تُقدِّم إيمان الصالح، التي عانت بصمت من اعتقال ابنها، شهادةً مؤثرةً عن تجربتها الشخصية، قائلة: “عندما سقط نظام الأسد، علَّقتُ آمالًا كبيرة على خروج ابني حيًا، لكن للأسف لم يظهر له أي أثر، لجأت إلى العديد من المنظمات الدولية والمحلية  التي وثَّقت حالات الاعتقال، على أمل أن أتمكن من معرفة مصيره، سواءً أكان حيًا أم ميتًا، ومع ذلك، لم أحصل على أي نتيجة تُذكر، ولم أستطع الحصول على أي معلومات تُثبت وفاته أو تُؤكد بقاءه على قيد الحياة.”

في النهاية، يظل سجن صيدنايا رمزًا حيًا لانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، وجرحًا مفتوحًا في ذاكرة السوريين، هذه الانتهاكات تفرض علينا نحن السوريين في سوريا الجديدة مسؤولية قانونية وأخلاقية للتحقيق في هذه الجرائم ومحاسبة مرتكبيها بما يتوافق مع قوانين حقوق الإنسان، فهذه الانتهاكات ليست مجرد حوادث منفصلة، بل هي انعكاس لنظام ممنهج يتجاوز الحدود الوطنية ليصبح قضية تهم الإنسانية جمعاء.

وتحقيق العدالة ليس مجرد مطلب إنساني يرتبط بمصائر الضحايا وعائلاتهم، بل هو شرط أساسي لبناء سلام مستدام في سوريا، يُعيد للدولة مكانتها ويضمن احترام حقوق مواطنيها، إن إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب لا يمثل فقط انتصارًا للضحايا، بل هو أيضًا رسالة واضحة أن الظلم لا يمكن أن ينتصر على العدالة.

المسار القانوني الواضح، الذي يبدأ بمحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات الجسيمة، يُعدّ خطوة ضرورية لضمان عدم تكرار مثل هذه المآسي، ولإعادة بناء الثقة في المؤسسات والقوانين كركائز أساسية لأي مستقبل عادل ومزدهر.

ويبقى السؤال الأهم: هل سنتمكن من توفير الدعم الكافي لتأسيس محاكمات عادلة وفعّالة، تحقق العدالة لشعب سوريا الذي دفع ثمنًا باهظًا في سبيل حريته؟

ميسون محمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top