منذ إعلان عودته إلى البيت الأبيض، يقف العالم بأسره على أعتاب مرحلة جديدة قد تعيد رسم المشهد السياسي الدولي بشكل غير مسبوق. ليس غريبًا أن تتفاوت الآراء حول دونالد ترامب بين مؤيد يراه قائدًا صاحب رؤية فريدة ومعارض يصنفه كتهديد للنظام العالمي، لكن ما لا يمكن إنكاره أن هذا الرجل، بتصرفاته وتصريحاته، يُجبر الجميع على إعادة الحسابات. ترامب ليس مجرد رئيس عائد إلى السلطة، بل هو ظاهرة سياسية تمثل خروجًا عن القواعد المألوفة. تصريحاته الأخيرة بشأن حرب غزة وإعلانه أن هذا الصراع يجب أن يُحسم قبل موعد تنصيبه يوم الاثنين ليست مجرد كلمات عابرة، بل هي إعلان صريح عن نهجه في فرض واقع جديد يتجاوز كل التفاهمات السابقة. كيف يمكن فهم هذا التصعيد؟ هل نحن أمام رئيس يريد استعادة هيبة أمريكية فقدتها الإدارات السابقة، أم أننا نشهد بداية لعصر جديد من الفوضى الموجهة؟ المثير للدهشة أن المحللين السياسيين والاقتصاديين، رغم خبراتهم الطويلة، ما زالوا يتعاملون مع الوضع الراهن بنفس الأدوات التقليدية، وكأنهم غافلون عن أن مرحلة ما بعد ترامب لن تكون كما قبلها. ترامب لا يرى في السياسة مجرد إدارة للأزمات، بل معركة مستمرة لإعادة ترتيب الأوراق بما يخدم رؤيته الخاصة. لقد بدأ بالفعل في تحريك المياه الراكدة، وتهديده بإنهاء حرب غزة في غضون أيام يعكس إصراره على فرض قواعد جديدة للعبة الدولية، قواعد لا مكان فيها للتردد أو التفاهمات التقليدية.
ولكن، هل يستطيع ترامب حقًا تحقيق هذا التحول؟ أم أن تصرفاته ستؤدي إلى خلق مزيد من التوترات التي قد تعصف بالمنطقة والعالم؟ علينا أن نتذكر أن شخصية ترامب لا تنحصر في كونه سياسيًا مختلفًا، بل هو أيضًا شخصية تثير جدلًا دائمًا بسبب قراراته غير المتوقعة. من يصفونه بالأحمق أو المتهور قد يجهلون أن هذه الصفات بالذات هي التي تمكنه من قلب الطاولة وإعادة صياغة المعادلات بطرق يصعب التنبؤ بها. ما يجعل عودة ترامب مميزة هذه المرة هو توقيتها. العالم يعيش حالة من التوترات المتصاعدة، بدءًا من الشرق الأوسط إلى أوكرانيا وانتهاءً بالتوترات بين الصين والولايات المتحدة. عودة ترامب تأتي في وقت يبدو فيه النظام العالمي هشًا وغير قادر على الصمود أمام الأزمات المتلاحقة. هذه العودة ليست مجرد تغيير في قيادة الولايات المتحدة، بل هي اختبار لمدى قدرة العالم على التكيف مع حقبة جديدة من السياسة الصادمة.
قد يتهمني البعض بالمبالغة، لكن من يتابع المشهد السياسي بعين الناقد يدرك تمامًا أن عودة ترامب ليست حدثًا عابرًا. هذا الرجل لا يأتي ليندمج مع الواقع القائم، بل ليعيد تشكيله وفق رؤيته الخاصة. نحن أمام شخصية لا تعترف بالقيود، ولا تقيم وزنًا للانتقادات أو المخاوف. السؤال الحقيقي الذي يجب أن نطرحه اليوم هو: هل العالم مستعد لتحمل نتائج هذه العودة؟ أم أننا أمام بداية لفوضى لا أحد يستطيع التنبؤ بنهايتها؟ ترامب، كما عهدناه، لا يقدم وعودًا سياسية تقليدية، بل يفرض حقائق جديدة على الأرض. الأيام القادمة ستكشف لنا إن كانت هذه الحقائق تصب في مصلحة استقرار العالم أم أنها بداية لمرحلة من الاضطرابات التي قد تعيدنا سنوات إلى الوراء. لكن المؤكد أن بعيد تنصيب ترامب لا يمكن التنبؤ به ولن يكون يومًا عاديًا، بل محطة فاصلة قد تغير كل شيء.
في نهاية المطاف، يبقى العالم محكومًا بإرادة الله سبحانه وتعالى، ولا يتحقق إلا ما كتبه الله عز وجل. لكن أخذ هذه المعطيات وتحليلها بموضوعية أمر واجب على كل متابع للشأن السياسي، لأن استشراف المستقبل جزء من مسؤوليتنا في التعامل مع معطيات الواقع كما هي، لا كما نتمنى أن تكون.