Search

اللجنة التحضيرية بين تحديات الواقع ومسارات التوافق في سوريا

في ظل التحديات السياسية والاجتماعية التي تواجهها سوريا، تبرز اللجنة التحضيرية للحوار الوطني كأداة فعالة تهدف إلى رسم الطريق نحو مصالحة وطنية شاملة. تسهم اللجنة في وضع الأسس التنظيمية التي تضمن تمثيل كافة فئات الشعب السوري وتساهم في تقريب وجهات النظر بين الأطراف السياسية المتنازعة. من خلال الإشراف على إعداد آليات الحوار الوطني، فإن اللجنة تسعى إلى ضمان مشاركة عادلة لجميع شرائح المجتمع، مع مراعاة التنوع الديموغرافي والثقافي.

وفي هذا السياق، تبرز تساؤلات أساسية حول دور اللجنة في التغلب على التحديات الكبيرة التي تشهدها سوريا، مثل الانقسامات السياسية والاجتماعية وتباين المصالح، إلى جانب تأثير التدخلات الخارجية. فكيف يمكن للجنة أن تضمن نجاح الحوار الوطني في ظل هذه التحديات؟ وما الاستراتيجيات التي يمكن أن تتبعها لتقريب وجهات النظر وتحقيق مصالحة حقيقية تؤسس لنظام سياسي جديد؟ هذه الأسئلة ستكون محور النقاش في هذه المقالة، التي تبيّن الدور المحوري للجنة التحضيرية في هيكلة الحوار الوطني السوري، والتحديات التي تواجهها في سياق تاريخي مفصلي ومعقد.

دور اللجنة التحضيرية في هيكلة الحوار الوطني

تعتبر اللجنة التحضيرية عنصراً محورياً في تحديد مسار عملية الحوار الوطني في سوريا، حيث تلعب دوراً حيوياً في وضع الأسس التنظيمية التي تحكم سير المفاوضات والنقاشات بين الأطراف السياسية المختلفة. ومن خلال

تحديد جدول أعمال واضح وضمان تمثيل عادل لفئات الشعب السوري، تسهم اللجنة في تحويل المؤتمر الوطني إلى منصة فعّالة لتقريب وجهات النظر بين السوريين وتعزيز فرص تحقيق المصالحة الوطنية.

تتولى اللجنة مهام متعددة تبدأ بتنظيم وإدارة الحوار الوطني، حيث تعنى بإعداد الآليات اللازمة لإدارة المضامين والإجراءات التقنية لفعاليات المؤتمر. كما تعمل على ضمان تمثيل جميع شرائح المجتمع السوري، مع مراعاة التنوع السكاني والخبرات والتخصصات والتأثير الاجتماعي. وقد أكدت اللجنة أنها لن تسعى إلى “تطييف المجتمع” أو تبني سياسات المحاصصة الطائفية، لكنها ستراعي التنوع الديموغرافي لضمان مشاركة عادلة لكل محافظة وبالإضافة إلى ذلك، يشكل إشراك المجتمع المدني في عمل اللجنة التحضيرية عنصراً أساسياً لتعزيز فعالية الحوار الوطني وضمان تمثيل شامل لكافة فئات المجتمع السوري. سيما وأنه يمتلك خبرات عملية واسعة في القضايا الاجتماعية والسياسية والتعامل مع الانقسامات المجتمعية التي خلفها الأسد طيلة فترة الحرب على الشعب السوري بحيث يمكن للجنة الاستفادة من تلك الخبرات مما يعزز جودة المخرجات ويرسّخ مبدأ الشراكة في صنع القرار وقد أثبت تشكيل اللجنة نهجاً شمولياً يعكس الديمقراطية التشاركية ما يسهم بشكل أكبر في بناء الثقة بين الأطراف المختلفة، ويعزز فرص تحقيق مصالحة وطنية مستدامة. كمثال حي على نجاح المجتمع المدني، يمكن النظر إلى اللجنة الرباعية للحوار الوطني التونسي. التي تأسست عام 2013 وكانت مبادرة مشتركة لأربع منظمات تونسية للمجتمع المدني التي تأسست خلال الأزمة السياسية التي شهدتها تونس بعد الثورة في عام 2011، وكان دورها في توجيه الحوار بين الحكومة الانتقالية وجبهة أحزاب المعارضة لتحقيق وفاق شامل وتجنب الدخول في حرب أهلية. لعملها الفعّال في تسهيل عملية التحول الديمقراطي في تونس، حصلت اللجنة على جائزة نوبل للسلام عام 2015.([1])

وفي السياق ذاته أكدت اللجنة بأنها ستقوم بزيارات ميدانية للمحافظات السورية الأربع عشرة للوقوف على خصوصياتها واختيار ممثليها، بما يعكس الصورة العامة لكل منطقة. بالإضافة إلى ذلك، تساعد اللجنة المواطنين وأعضاء المؤتمر في الوصول إلى نتائج مرجوة من خلال تنظيم وترتيب النقاشات، مع التركيز على الشفافية والحيادية. وفي نهاية المطاف، ترفع اللجنة توصيات (وليس قرارات) إلى رئاسة الجمهورية لتنفيذها، مما يعكس دورها التنسيقي دون التدخل في المضامين.

“من المتوقع أن يضم المؤتمر أكثر من 1000 شخص من مختلف شرائح المجتمع السوري، بما في ذلك الخبراء والمتخصصين والشخصيات ذات التأثير الاجتماعي. وتتميز اللجنة باستقلاليتها، حيث تعيّن رئيسها ونظامها الداخلي، مع التركيز على الحيادية والشفافية في أداء مهامها” ([2])وفي تصريحاتها، رفضت اللجنة مبدأ المحاصصة الطائفية، لكنها أكدت مراعاة التنوع الديموغرافي لضمان تمثيل عادل. كما ستعتمد معايير مثل الوطنية، التأثير، التخصص، الرمزية، والخبرة في اختيار المشاركين. ومن الأولويات الأساسية التي سيتم طرحها في الحوار هي العدالة الانتقالية. التي تهدف إلى استعادة حقوق الضحايا وكرامتهم ([3]) وصياغة دستور جديد، الذي يعد ركيزة أساسية لتحقيق الوفاق الوطني وترسيخ السلم الأهلي.

التحديات والأثر التاريخي لنجاح اللجنة

تواجه اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني في سوريا مجموعة من التحديات التي قد تعيق مسيرتها نحو تحقيق أهدافها المنشودة. فمن ناحية، تعاني سوريا من انقسامات سياسية واجتماعية نتيجة سنوات طويلة من الصراع، مما يجعل عملية تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة مهمة شاقة. إذ إن الخلافات الأيديولوجية والطائفية، فضلًا عن تضارب المصالح، قد تعيق التوصل إلى توافق وطني شامل بالإضافة إلى ذلك، تعاني العلاقات بين الأطراف السورية من انعدام الثقة، وهو ما يعد تحدياً رئيسياً أمام اللجنة. فبعد سنوات من الصراع، أصبحت الثقة بين الأطراف السياسية والمجتمعية شبه معدومة، مما يُصعّب مهمة اللجنة في بناء جسور التواصل. علاوة على ذلك، قد يشكك بعض الأطراف في نزاهة اللجنة وحياديتيها، ولا يمكن إغفال دور التدخلات الخارجية التي قد تؤثر سلباً على عمل اللجنة. فبسبب المصالح الإقليمية والدولية المتضاربة في

سوريا، قد تتعرض اللجنة لضغوط لتوجيه الحوار نحو نتائج تخدم مصالحها، مما يضعف فرص تحقيق مصالحة وطنية حقيقية. أما على الصعيد اللوجستي والتنظيمي، فإن تنظيم مؤتمر يضم أكثر من 1000 مشارك من مختلف المحافظات والخلفيات يتطلب موارد مالية وبشرية كبيرة. كما أن ضمان تمثيل عادل لجميع الفئات، مع مراعاة التنوع الديموغرافي والاجتماعي، يعد مهمة معقدة تتطلب جهداً تنظيمياً غير مسبوق.

في المقابل، فإن توقعات الشعب السوري العالية تشكل تحدياً آخر؛ فبعد سنوات من المعاناة يعول السوريون على المؤتمر لتحقيق تغيير حقيقي، مما يضع ضغطاً كبيراً على اللجنة لتقديم نتائج ملموسة.

علاوة على ذلك، تعد قضية شمال شرق سوريا، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، واحدة من أكبر التحديات التي تواجه وحدة الأراضي السورية سيما اللجنة التحضيرية. يتمثل الخلاف الرئيسي في مطالبة قسد بحكم ذاتي موسع للمنطقة، بينما ترفض الحكومة السورية بالإضافة لغالبية الشعب السوري أي شكل من أشكال الفيدرالية أو الحكم الذاتي، مؤكدة على وحدة الأراضي السورية. بالإضافة إلى ذلك، التدخلات الخارجية، خاصة من الولايات المتحدة وتركيا، تزيد من تعقيد الوضع، مما يجعل التوصل إلى حلول وسطى مقبولة من جميع الأطراف أمراً بالغ الصعوبة.

وعلى الجانب الأخر، وفي حال نجاح اللجنة التحضيرية في تجاوز هذه التحديات، فإنها ستحدث أثراً تاريخياً كبيراً على مستقبل سوريا. أولاً، سيسهم نجاحها في تحقيق المصالحة الوطنية، حيث ستتمكن من تقريب وجهات النظر بين الأطراف السورية، مما يمهد الطريق لإنهاء حالة الانقسام والصراع التي عانت منها البلاد لسنوات. ثانياً، ستعمل اللجنة على بناء أسس قوية من خلال مناقشة قضايا جوهرية مثل صياغة دستور جديد وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة. وهذا من شأنه أن يعزز الشرعية السياسية ويؤسس لنظام ديمقراطي يحترم حقوق المواطنين ويعزز مشاركتهم في صنع القرار. ثالثاً، سيسهم نجاح الحوار الوطني في تعزيز الاستقرار السياسي. فعندما تتحقق المصالحة الوطنية، ستعيد الثقة بين السوريين فيما بينهم بالدرجة الأولى وبمؤسسات والدولة وإيمانهم باستعادتها، مما يشجع على الاستثمار وإعادة الإعمار. كما أن الاستقرار السياسي سيكون عاملاً جاذباً للمساعدات الدولية والاستثمارات الأجنبية، مما يسرع عملية إعادة بناء البلاد. رابعاً، ستسهم اللجنة في الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وفي رسم أطر العدالة الانتقالية، التي تعد ركيزة أساسية لبناء السلم الأهلي وبناء مجتمعاً أكثر تماسكاً وقبولاً للاختلاف والتسامح. أخيراً وليس آخراً، قد يصبح نجاح اللجنة نموذجاً يحتذى به إقليمياً. فإذا تمكنت من إدارة الحوار الوطني بنجاح، فإنها ستقدم نموذجاً يثبت أن الحوار

يمكن أن يكون أداة فعّالة لحل النزاعات في دول أخرى تعاني من صراعات مماثلة، وهذا من شأنه أن يعزز مكانة سوريا الإقليمية والدولية كدولة قادرة على تجاوز أزماتها.

الخاتمة

في خضم التحديات الكبيرة التي تواجهها اللجنة التحضيرية للحوار الوطني في سوريا، تبرز فرصٌ لإحداث تغيير حقيقي يعيد بناء الدولة ويعزز الاستقرار. لتحقيق ذلك، يمكن للجنة أن تبدأ ببناء الثقة بين الأطراف المتنازعة عبر لقاءات مباشرة وشفافية تامة. كما ينبغي تعزيز دور المجتمع المدني، الذي يمتلك خبرة واسعة في التعامل مع الانقسامات. وفيما يتعلق بقضية شمال شرق سوريا، يمكن اعتماد مقاربة تشاركية تمنح المنطقة لا مركزية إدارية مع ضمان حفظ الحقوق الثقافية واللغوية للمكونات السورية مع الحفاظ على وحدة الأراضي السورية والسيادة الوطنية. وللحد من التدخلات الخارجية، يمكن تعزيز الشراكة مع منظمات دولية محايدة مثل الأمم المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي توفير الدعم اللوجستي والمالي الكافي، سواء من المجتمع الدولي أو المنظمات الإقليمية، لضمان نجاح المؤتمر.

من المهم أيضاً إدارة توقعات الشعب السوري، عبر التواصل الفعال وشرح أن الحوار عملية طويلة الأمد. كما ينبغي أن تكون العدالة الانتقالية في صلب أجندة الحوار لضمان محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وتعويض الضحايا. ولتعزيز الشفافية، يمكن نشر تقارير دورية وإنشاء آلية رقابة مستقلة.

أخيراً، يمكن للجنة أن تستفيد من تجارب دول نجحت في تحقيق المصالحة، مثل جنوب إفريقيا وتونس، لتعزيز الوحدة الوطنية وبناء مستقبل ديمقراطي، كما أن نجاح اللجنة يتطلب إرادة سياسية قوية ودعماً شعبياً واسعاً، لتكون البداية لتحويل سوريا من دولة مزقتها الصراعات إلى نموذج للتعافي والاستقرار


[1] – الجزيرة. (2015، 11 أكتوبر). الرباعي الراعي للحوار الوطني بتونس. تم الاسترجاع من https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2015/10/11/%D8

[2] – وكالة الأناضول. (2025). لجنة مؤتمر الحوار السوري: المحاصصة الطائفية مرفوضة وسنراعي التنوع. تم الاسترجاع من https://www.aa.com.tr/ar/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88

[3] – الحرة. (2024، 22 نوفمبر). العدالة الانتقالية في تونس: مسار طويل وأفق مجهول. تم الاسترجاع من https://www.alhurra.com/tunisia/2024/11/22/%D8%A7%D9

مجيب خطاب

مدير قسم المشاركة السياسية في وحدة دعم الاستقرار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top