لانبالغ إن قلنا أنَّ كلَ حقبةٍ تاريخيةٍ وكل مرحلة سياسية وكل سياق اجتماعي يتمايزُ عن غيره بما يحويه من أفكارٍ وأطروحات ونظريات وتحليلات، فهي -بلا شك- مُسبارُ الوعي ومفتاح التغيير، وهي المؤشرُ الحقيقي الذي يُعتمد عليه في بناء الفرد والمجتمع والدولة، بل وفي التَّحولات الحضارية الكبرى، والتي تهدفُ أساساً إلى إعادة صياغة الإنسان والتاريخ.
وعالم الأفكار عالمٌ عجيب، فكل فكرة سليمة تأخذ بيد صاحبها معها، ضمن تراتبيةٍ بُنيويةٍ، وسياق نهضوي، وفاعلية عميقة لا تكاد تنتهي، لتنقله من سياقٍ إلى آخر، ومن فضاء إلى فضاء أوسعَ منه، وهكذا إلى أنْ تُؤتي الفكرة ثمارها، وينتهي دورها، فتسلمه إلى فكرة أخرى جديدة، تتناسب مع المرحلة التي بعدها، والتي ستكون بطبيعة الحال أكثر تعقيداً وإلهاماً، والتَّحدي الأكبر حينها سيكون في القدرة على التفاعل مع السياق الجديد، واستكشاف فضاءاته وحدوده، وفهم احتياجاته وتحدياته، وتبني خطاب يتناسب معه.
هذا ما حصل تماماً في سياقات الثورة السورية المباركة، وفي تجلياتها الفكرية والإصلاحية والتوعوية، فبمجرد إعلان التحرير وجب الانتقال من سياقات الثورة إلى سياقات الدولة، ومن فضاءات المواجهة والتمرُّد على السلطة إلى فضاءات التصالح والتناصح والتعاون،وبذلك انتهت صلاحية الكثير من الأفكارِ والنظريات والأطروحات التي كانت تحكم المجتمع، وانتهت كذلك صلاحية الكثير من الأدوات والخطط والمشاريع والبرامج، بل وربما الكثير من الكيانات والمؤسسات، وصار التحدي الأهم والأخطر هو الاستجابة السريعة وانتقال النُّخب والمثقفين إلى المرحلة الجديدة، وتبنيهم لأفكار وأدوات مختلفة، وإنضاجهم خطاباً يتناسب مع كل هذا، سواء كان ذلك ضمن مؤسسات الدولة نفسها، أو ضمن القطاعات الأهلية والخاصة… فهل سينجح السوريون في ذلك؟
كان خطاب التحرير عند غالب النُّخب والمثقفين خطاباً تقليدياً إلى حدٍ كبير، لم يستجب -ولم يستوعب- لاحتياجات التحرير وتحديات بناء الدولة، ولم يختلف هذا الخطابُ في كثيرٍ من مفرداته عن خطابِ المؤسسات التقليدية نفسها، ولا عن خطاب مشاهير وسائل التواصل وأسرى الترندات واللايكات، كما لم يستطع هذا الخطاب أن يدرك الفضاءات الجديدة التي خلقتها الثورة، فظل متمترساً في فضاء محدود قاصر، متأخراً عن حركةِ الدولة الجديدة، بل وعن الخطاب الرسمي للقيادة السياسية نفسها، وهذا التأخُّر -بلا شك- سيكون له دورٌ خطيرٌ في انفصالِ النُّخب عن مجتمعهم وحاضنتهم أولاً، ثم في انتشار أفكار أخرى، قد تكون أكثر ضرراً من الأفكار الشمولية التي كان النظام يعمل عليها وعلى ترسيخها في المجتمع، فطبيعة السياقات الفكرية أنها لا تقبل الفراغ، وغالباً ستكون الغلبة للأسبق، حتى ولو كان سيئاً.
لم يخلُ خطاب التحرير عند البعض من العاطفة، والمبالغة في الشخصنة أحياناً، حتى صارت المحاضرات والدروس والخطب سلسلة لأمجاد وبطولات المتكلمين، واصطبغت المنابر بصبغة أصحابها، فكلٌ منهم يتكلم عن تاريخه الثوري، وذكرياته ومعاناته واستبساله ودوره في معركة التحرير، ومغامراته في مقارعة العدو، وغاب عن الكثير منهم أن الواجب في هذه المرحلة العمل على تصدير أفكار وقيم تعيد صياغة هوية الفرد والمجتمع من جديد، بعد حِقبةٍ طويلةٍ من التَّصحُّر والاستبداد والتجهيل، كان الناتجُ الوحيدُ فيها ضَرْبُ البُنى المعرفية وتشويهُ المفاهيم والتصورات والعقائد، وغاب عنهم أيضاً أن المطلوب من النُّخبِ والمثقفين اليوم أن يتصدروا المشهد بخطابٍ متقدم، يشرح رسالة الثورة ورؤيتها واستراتيجيتها في التغيير، ويساعد في رسم ملامح المرحلة الجديدة، وتحديد الأولويات والقيم العليا التي تحتاجها المرحلة، والتي من المفروض أن تكون الثورة وتفاعلاتها ومعالجاتها قد أحدثتها وأنضجتها خلال سنوات الثورة الطويلة.
خطاب التحرير عند النُّخب والمثقفين من الضروري أن يركِّز أولاً على صياغة “النموذج الجديد” الذي جاءت الثورة به، وجاءت الثورة لأجله، والعمل على تحويل هذا النموذج إلى ثقافة عامة جماهيرية، تسري في عروق المجتمع وكيانه ومفاصله، وتحكم تحركاته وتطلعاته وأحلامه، بالحديث عن هذا النموذج وعن مفرداته مع عموم الناس وبجميع مستوياتهم، لنحافظ على مشروعية التغيير من جهة، ولنعطي للتضحيات المبذولة مكانتها التي تليق بها من جهة أخرى، وإلا فلماذا قامت الثورة إذا لم تكن قادرة على صياغة نموذجها (المختلف) الفريد.
من الضروري في هذه المرحلة أن يتم التركيز في البرامج والمشاريع الفكرية والإصلاحية على بناء المفاهيم والتصورات الأساسية وترميم البُنَى المعرفية والعقائدية في المجتمع، لا سيما الخطاب الديني والمناهج التعليمية، أضف إليها المسارات الإعلامية والثقافية والتدريبية، في سبيل بناءِ الهُوية وفهمِ الذَّات أولاً، ثم فهم المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، في هذه المرحلة الاستثنائية من تاريخ سوريا وتاريخ المنطقة.
من متطلبات التحرير أن نهتم بقراءة التاريخ واستحضاره، والاستفادة من التجارب الإنسانية الحيَّة الناجحة، في توعية المجتمع وتحصينه من أي استبداد سياسي أو ديني أو اجتماعي، من خلال تحرير مفهوم ودور القدوة والمرجعية والمسجد، ومفهوم النظام والمعارضة، والقانون والدستور، وكذلك مفهوم ودور الدولة نفسها، ومنظوماتها التشريعية والقضائية التنفيذية والرقابية…وألا ننشغل بالخلافات المدرسية والمذهبية والفئوية، وأن نتعالى عن ثقافة النظام وأدواته في تمزيق المجتمع وقياداته وكوادره ومثقفيه.
وكل هذا لن يكون إلا بحراكٍ نَشطٍ مستمر، على جميع مستويات الدولة والمجتمع، وبتمكينِ الكوادر التي تملك الرؤية والقدرة على التغيير الحقيقي، ثم نحتاج إلى المزيد والمزيد من الوقت، ليكون التحرير وقتها بداية مشروعٍ نهضوي، وليس مجرد تغيير في الواجهات السياسية والإدارية للبلد.
فنحن أمام منعطف خطير، إما أن نكون، أو لا نكون.
كتبه: أنس محمد رضوان الدروبي
باحث في العلوم الاجتماعية والسياسية / سوريا
اسطنبول/9/ 2/ 2025م