بعد مضي أكثر من شهرين على انتصار الثورة السورية وسقوط نظام بشار الأسد تواجه البلاد واقعا معقدا يتطلب حلولا جذرية للوصول للسلم الأهلي وتحقيق الاستقرار. وفي هذا السياق يبرز تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية كأداتين رئيسيتين لضمان انتقال عادل وسلمي نحو مستقبل أكثر استقرارًا. ولكن هل يمكن تحقيق التوازن بين المصالحة والعدالة في سوريا؟
لقد شهدت عدة مناطق في سوريا خلال الايام الماضية وقفات احتجاجية من أهالي الضحايا على قيام الادارة الجديدة بتعيين أشخاص منتمين للنظام السابق ومتهمين بارتكاب الجرائم في مناصب في الادارة الجديدة، والإفراج عن البعض الاخر ممن تم توقيفهم سابقا بحجة قيامهم بتسوية أوضاعهم، وعدم تلقي الجهات الأمنية لأي شكاية شخصية مباشرة عليهم مما جعل الادارة الجديدة امام سيل من الانتقاد والسخط الشعبي ، لعدم التزامها بوعودها المتكررة للضحايا و ذويهم بتحقيق العدالة لهم ومحاسبة المجرمين ،مما قد يؤدي بدوره الى تقويض شرعية الإدارة الانتقالية الحالية ومفاقمة حالة عدم الاستقرار. لا يخفى على أحد أن النظام السوري البائد قد ترك ارثا ضخما و ثقيلا من الجرائم والانتهاكات التي شارك بها العديد من الأطراف – مؤسسات وجماعات وافراد- على حد سواء مما يجعل السلطات الجديدة في دمشق أمام تحد كبير ومعقد في طريق كشف ومحاسبة كل من شارك في الجرائم التي ارتكبت بحق ابناء الشعب السوري . إن ممارسات النظام السابق خلال سنوات الثورة خلفت الكثير من الجرائم والتي يتطلع الشعب السوري اليوم الى محاسبة مرتكبيها وتحقيق العدالة كأحد اهم استحقاقات هذه المرحلة، واذا ارادت الادارة الجديدة تحقيق مصالحة وطنية حقيقية وإرساء دعائم السلم الاهلي بين مكونات المجتمع السوري فلا بد لها من العمل على معالجة الماضي لتصحيح المستقبل من خلال تنظيف رواسب الماضي الاليم من نفوس الضحايا وذويهم و ارضاء الشعور بالعدالة لديهم, “فالعلاقة بين العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية هي علاقة طردية وجودية لا يمكن الوصول للثانية دون تحقيق الاولى “.
العدالة الانتقالية محاسبة دون انتقام
تعرف العدالة الانتقالية بانها مجموعة من التدابيرالقضائية و الغير قضائية التي تنفذها الدول لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة بعد فترات من النزاع أو القمع تهدف الى تحقيق المصالحة الوطنية، وضمان عدم تكرار الانتهاكات، وتحقيق العدالة للضحايا. ان منع حدوث موجة جديدة من العنف في سوريا بدعوى الانتقام والثار من مرتكبي الجرائم في عهد النظام السابق يفرض على الادارة الاجديدة الإسراع في إيجاد اليات قانونية تضمن تحقيق العدالة ويمكنها بذلك الاستفادة من التجارب البشرية السابقة في هذا المجال مثل تجربة جنوب افريقيا و وراوندا وغيرها من الدول التي استطاعت تحقيق السلم الاهلي بعد فترات من الصراع الدموي . على الرغم من التعقيدات التي تتسم بها الحالة السورية من هروب معظم رموز النظام البائد وعلى رأسهم بشار الأسد من مرتكبي جرائم الحرب خارج سوريا، وتعدد الأطراف الداخلية والخارجية التي مارست الانتهاكات وعدم جاهزية المؤسسة القضائية الا ان التجارب التاريخية يمكن ان تكون مرجعا خصبا للادارة الجديدة في جهودها نحو تحقيق العدالة الانتقالية و توفير الاليات الضرورية لتحقيقها. ان كثرة الملفات بين يدي السلطات في دمشق وتعقدها لا يجب ان يشغلها عن المضي قدما في مسار تحقيق العدالة ومحاسبة المجرمين منعا لاي عمليات انتقامية يمكن ان تهدد السلم الاهلي وتقوض جهودها ورغبتها في تحقيق مصالحة وطنية شاملة تضمن للجميع التعايش السلمي تحت سقف القانون.
“إن تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا ليس مجرد مطلب أخلاقي، بل هو شرط أساسي لتحقيق السلام الدائم، والاستقرار السياسي، والتنمية المستدامة. بدونها، قد تبقى جذور الصراع قائمة، مما قد يؤدي إلى تكرار العنف في المستقبل.“
اليات العدالة الانتقالية المقترحة في الحالة السورية
• المحاكمات و المساءلة القضائية عبر إنشاء محاكم مستقلة لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وبشكل علني لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب.
• تشكيل لجان الحقيقة وهي عبارة عن هيئات غير قضائية تكلف بالتحقيق في الانتهاكات السابقة وتوثيقها وتتيح للضحايا فرص الادلاء بشهاداتهم.
• جبر الضرر وتعويض الضحايا بتقديم تعويضات مالية او عينية وتقديم الاعتذارات العلنية لهم واقامة النصب التذكارية التي تخلد تضحياتهم وتعيد الاعتبار لهم ولذويهم .
• استخدام آليات تقليدية أو محلية لتحقيق العدالة من خلال تعزيز دور الزعماء المحليين في عمليات المصالحة و حل النزاعات المحلية الغير جنائية.
• حفظ الذاكرة الوطنية من خلال إنشاء متاحف ومراكز توثيق لحفظ ذاكرة الضحايا وتوعية الأجيال القادمة و تنظيم فعاليات ثقافية وتعليمية للحفاظ على الوعي بالانتهاكات السابقة ومنع تكرارها بالإضافة الى إجراء تغييرات في المناهج التعليمية لتعزيز ثقافة حقوق الإنسان و التعايش المشترك.
• إصلاح المؤسسات القضائية و الأمنية وفق مبادئ الحوكمة الرشيدة لضمان عدم استخدام الدولة لها كأدوات قمع في المستقبل.
• سنّ قوانين تحظر انتهاكات حقوق الإنسان وتعزز سيادة القانون.
العدالة الانتقالية كمدخل لتحقيق المصالحة:
اشرنا سابقاعن وجود علاقة طردية بين العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، بمعنى أن تحقيق العدالة الانتقالية يسهم بشكل مباشر في تعزيز المصالحة الوطنية، والعكس صحيح؛ فكلما كانت هناك مصالحة وطنية ناجحة، زادت فرص نجاح العدالة الانتقالية. إن تحقيق التكامل بين العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية يحتاج إلى رؤية استراتيجية من قبل الإدارة الجديدة تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الوضع السوري. فمن جهة، لا يمكن تحقيق السلام دون الاعتراف بآلام الضحايا ومحاسبة المجرمين، ومن جهة أخرى، لا يمكن تحقيق استقرار دائم دون إعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري . إن الدول التي طُبقت فيها العدالة الانتقالية بشكل ناجح مثل جنوب إفريقيا و راوندا حدثت فيها مصالحة وطنية قوية أدت إلى استقرار طويل الأمد في حين أن الدول التي تجاهلت العدالة الانتقالية مثل العراق بعد ( 2003)، استمرت فيها الانقسامات والنزاعات، مما أدى إلى موجات جديدة من العنف. لذلك وجب على الإدارة الجديدة ألا تتأخر في تحقيق العدالة لأسر الضحايا و ذويهم إذا ما ارادت الانتقال بسوريا الجديدة الى بر الامان وتجنيبها موجة الثأر والانتقام. فكلما كانت العدالة الانتقالية شاملة وعادلة، زادت فرص تحقيق مصالحة وطنية حقيقية، مما يؤدي إلى استقرار سياسي واجتماعي دائم. وعلى العكس، إذا تم إهمال العدالة الانتقالية، فقد تتحول المصالحة إلى مجرد إجراء شكلي لا يعالج الجذور الحقيقية للصراع، مما يؤدي إلى استمرار الانقسامات والاضطرابات.
في النتيجة يمكننا القول بأنه لا يمكن لسوريا أن تنعم بالامن و الاستقرار دون تحقيق العدالة والمصالحة معًا. يجب أن تكون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية مكملتين لبعضهما البعض، بحيث تضمن العدالة حقوق الضحايا، وتحقق المصالحة سلامًا مستدامًا. تحقيق هذا التوازن يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وجهودًا دولية داعمة، ومشاركة مجتمعية واسعة لضمان مستقبل أكثر عدالة وأمانًا لسوريا وشعبها.
بقلم :محمود طقش