لا يخفى على أحد أن إسرائيل دولة ذات حضور قوي في الشرق الأوسط. لكنها أيضاً دولة قائمة على ركائز محددة، شكلت الأساس العملي لديمومة المشروع الصهيوني، واستمرارية الدولة التي تمخضت عنه عام 1948. ومع تصدع هذه الركائز واحدة تلو الأخرى، تلوح في الأفق مؤشرات على انهيار هذا الكيان الذي لطالما دعمته قوى استعمارية كبرى.
ركائز المشروع الإسرائيلي
منذ إعلانها، سعت إسرائيل لتثبيت وجودها في محيط عربي معادٍ من خلال مجموعة ركائز استراتيجية: التفوق العلمي، قوة الجاسوسية، فاعلية البروباغندا، خطاب السلام المخادع، العبث بأمن الجوار، وأخيراً كثرة الحلفاء. هذه الركائز لم تكن مجرد تفاصيل هامشية، بل كانت أعمدة أساسية لبقاء إسرائيل وديمومة مشروعها في بيئة عربية مشحونة بالرفض والعداء.
البداية كانت مع الاستفادة من التفوق العلمي الغربي، لا سيما البريطاني، الذي نقلته إسرائيل إلى محيط عربي فقير علمياً وثقافياً، مما سهل عليها فرض وجودها. أضف إلى ذلك جهاز الموساد، الذي تمكّن من صناعة أساطير في التجسس، مثل إيلي كوهين، الذي تحول من يهودي إلى مواطن دمشقي، صديق لأعلى القيادات السورية في ستينيات القرن الماضي، بل وتجول بحرية في القطع العسكرية بمرتفعات الجولان، مما سهل لإسرائيل احتلالها لاحقاً بسبعة أيام حرب فقط بفضله.
هذا النجاح الاستخباراتي ارتكز على ثقافة يهودية قديمة، تعامل فيها اليهود مع المجتمعات الاوربية التي كانو منخرطين داخلها كمخبرين مقابل مكاسب سياسية ومالية داخل الدول الاوربية، لكن مع هجرتهم من كل اصقاع العالم واستيطانهم في أرض فلسطين تحولوا بمشروعهم الجاسوسي من تجسس يقوم به أفراد وجماعات الى كيان دولة يمارس التجسس ويرتكز عليه في دعم ديمومة دولته والنيل من خصومها.
لكن الأخطر من الجاسوسية هو قدرة إسرائيل على استغلال الفقر الثقافي والديني في البيئة العربية، من خلال بروباغندا مدروسة على أنها حالة أخلاقية في المنطقة. فكيف لدولة قامت على المجازر أن تصدر نفسها على أنها “نموذج أخلاقي” في المنطقة؟ بل أكثر من ذلك، نجحت في الترويج لخطابات مثل “الدين الإبراهيمي” و”اتفاقيات أبراهام”، التي تسوّق لسلام مزيّف مبني على احتلال وقمع؟ هذه البروبوغندا تغذت على هشاشة المجتمعات العربية، وعلى قناعات شرائح واسعة بأن إسرائيل تسعى للسلام، رغم أنها أكثر من عبث بأمن جيرانها
كما حرصت إسرائيل على تعدد الحلفاء، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة. العلاقة بين الطرفين لم تكن مجرد تحالف عسكري أو أمني، بل كان لإسرائيل دور وظيفي في حماية المصالح الغربية بالمنطقة. وأي تهديد لإسرائيل يُعد تهديداً للمصالح الغربية بأكملها، مما جعل تل أبيب طرفاً مركزياً في استراتيجية الردع الغربي، لا سيما في دعم الأنظمة الاستبدادية والثورات المضادة لإجهاض أي تحول ديمقراطي قد يهدد وجودها
تصدع الركائز وسيناريو السقوط
في حقيقة الامر, بدأت هذه الركائز بالتآكل. فالكثير من المفكرين يرون أن مشروع إسرائيل هشّ من الأساس. عبد الوهاب المسيري، مثلاً، يرى أن فكرة “دولة اليهود” قائمة على إسقاطات مختلقة، إذ لا يوجد “تاريخ موحد لليهود”، بل “تواريخ جماعات يهودية” متفرقة، لكل منها سياقها وثقافتها
ركيزة الجاسوسية
أسطورة الجاسوسية هي الأخرى بدأت تتهاوى. فمع تطور الأجهزة الأمنية الإقليمية، أصبحت أنظمة مثل الاستخبارات التركية تنافس الموساد، بل تتفوق عليه في بعض الملفات وفي كثير من المواضع. المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس ايضاً، طوّرت جهازاً استخباراتياً شديد الحرفية، ظهر جلياً في عملية 7 أكتوبر2023، التي فاجأت إسرائيل بمستوى غير مسبوق من الدقة والاختراق المعلوماتي
وفي ذات الحدث، تهاوت أيضاً دعاية “الأخلاق” الإسرائيلية. المجازر في غزة، الهجمات على لبنان وسوريا واليمن، كلها عرّت الوجه الدموي لإسرائيل. حتى الحلفاء بدأوا بالتململ. فرصيد قبول إسرائيل تراجع على المستوى الدولي الى مستويات غير معهودة، ليس فقط بسبب ممارساتها، بل أيضاً لأن كذبة “السعي للسلام” لم تعد قابلة للتسويق، خصوصاً بعد تبني الفصائل الفلسطينية لخطاب إعلامي قوي، كشف زيف الرواية الصهيونية وتفوق عليها
أما التفوق العلمي، فلم يعد حكراً. التقدم التكنولوجي العالمي أتاح أدوات ردع حتى للفصائل الصغيرة. فحماس طورت أسلحة فعالة بتكلفة زهيدة، مثل قذائف الياسين 105 وعبوات “شواظ”، التي أربكت سلاح المدرعات الإسرائيلي. المعركة لم تعد فقط عسكرية، بل إعلامية أيضاً، ونجحت فيها المقاومة إلى حد كبير في التأثير على الرأي العام العالمي
ركيزة الحلفاء
التحالفات أيضاً بدأت تتزعزع. فالولايات المتحدة، رغم دعمها التاريخي، بدأت تراجع تكاليف انحيازها لإسرائيل. مؤخراً إدارة ترامب حاولت إيجاد بدائل مالية للنفوذ الصهيوني في القرار الأمريكي من خلال التحالف مع إيلون ماسك، الرجل الأكثر ثراءً على المستوى العالمي و الذي تبرع لحملته بـ110 مليون دولار، ما يعني أن ترامب والمؤسسات الامريكية باتوا أقل خضوعاً للوبي الصهيوني من الإدارات السابقة فتحالفه مع ايلون ماسك يعني أنه سعى لإيجاد بديل مالي للتخلي عن مال اللوبي الصهيوني الضاغط على المؤسسات الامريكية والمعرقل نسبياً لقراراتها السيادية في المسارح الدولية. وبالتالي تحويل إسرائيل لكيان اكثر انصياعاً وطاعةً
كنتيجة لهذا, في مطلع 2025، هدد ترامب الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بتحويل الشرق الأوسط إلى جحيم إن لم يتم التوصل إلى اتفاق تبادل أسرى، ما دفع نتنياهو للتراجع والانصياع لضغوط ترامب، في مشهد نادر يكشف عن حجم التغير في طبيعة العلاقة بين تل أبيب وواشنطن
أما أوروبا، وبعد تخلي أمريكا عن دعم أوكرانيا، وجدت نفسها تعيد حساباتها الأمنية. وانتقلت من الاتكال على واشنطن كضامن امني فيما يخص كبح جماح الدب الروسي إلى الاعتماد على تركيا، العضو في الناتو وخصم إسرائيل الإقليمي في بعض الساحات الإقليمية كالساحة السورية. وهذا التحول الاستراتيجي يضعف الموقف الإسرائيلي ويعزز الدور التركي كفاعل قادر على ملء الفراغ الإيراني، لكن بأدوات أشد فاعلية وحرفية وردعاً لإسرائيل
باختصار, إسرائيل اليوم ليست كما كانت بالأمس. إنها كيان ينهار من الداخل، ويُستنزف من الخارج. لم يعد باستطاعتها خداع العالم بكونها “واحة الديمقراطية” في صحراء من الاستبداد. لم تعد الجاسوسية ورقة رابحة، ولا البروباغندا سلاحاً فعالاً. التفوق العلمي لم يعد حاسماً، والحلفاء بطريقة غير مباشرة بدؤوا يبحثون عن مصالحهم بعيداً عنها والمشروع الصهيوني بات يترنح. والركائز التي قامت عليها إسرائيل تتهاوى واحدة تلو الأخرى. وقد يكون السقوط مسألة وقت، إذا استمرت التحولات الإقليمية والدولية بهذا الاتجاه..
.
إبراهيم عدنان المحمد
كاتب وباحث في الشأن السياسي