د. مصطفى محمود سليخ
في ظل التحولات المتسارعة التي تعصف بالمشهد السياسي السوري، تتصدر الساحة نقاشات حيوية حول المشاركة، وصناعة القرار، وتمثيل الهويات الفكرية والدينية ضمن هياكل الدولة الحديثة. قبل أيام، أُعلن عن تشكيل لجنة عُليا للانتخابات، وبدأت التحضيرات للمرحلة القادمة من رسم المشهد السياسي. ومع كل حدث من هذا النوع، يتجدد سؤال كبير: أين هو التيار العلمي الشرعي من هذه المعادلة؟
هل لا يزال هذا التيار يراوح مكانه بين التنظير الفردي والظهور المتقطع على منصات التواصل؟ أم آن أوان التحول من حالة التفاعل الجزئي إلى الحضور المؤسسي المتكامل؟
إن اللحظة التاريخية التي نعيشها تفرض على أصحاب الرؤية الشرعية مراجعة شاملة لدورهم في الفضاء العام، لا سيما في ظل صعود تيارات فكرية لا تخفي أجنداتها التغريبية أو التصادمية مع المرجعية الإسلامية.
غياب الفعل المؤسسي للتيار الشرعي
على الرغم ما يملكه التيار العلمي الشرعي من رصيد معرفي، وأصالة فكرية، وامتداد شعبي واسع، إلا أنه – في معظم الساحات – لا يزال بعيدًا عن مواقع التأثير الحقيقية: البرلمانات، المجالس التشريعية، الهيئات الاستشارية، والنقابات الفاعلة.
إن غياب هذا التيار لا يعني فقط غياب الصوت، بل يعني غياب الحضور في لحظات التشريع، وتحديد المصير، وصياغة السياسات التي تمس حياة الناس في دينهم، وهويتهم، ومستقبل أجيالهم.
وتزداد خطورة هذا الغياب في ظل احتكار المشهد من قبل تيارات علمانية أو ليبرالية أو نفعية، تسعى بوعي أو بغير وعي إلى فصل الدين عن الحياة، وتجريد الأمة من مرجعيتها الحضارية والروحية.
جذور الإشكال: تشتت وتردد وتنظير بلا تنظيم
يتجلّى ضعف الحضور الشرعي في عدة مظاهر:
- انشغال التيار العلمي الشرعي بالتأليف الفردي والمشاركات الوعظية، دون الانتقال إلى فضاء الفعل السياسي أو النقابي أو الحزبي.
- غياب المشروع الجماعي الواضح، القائم على رؤية استراتيجية تتجاوز ردات الفعل والانفعال العاطفي.
- النظرة المترددة إلى العمل السياسي، وغياب التوازن بين الثوابت الشرعية ومتطلبات الواقع، ما جعل بعض المنتسبين للتيار يقفون موقف الريبة أو العزوف عن المشاركة.
- عدم وجود حاضنة تنظيمية تتبنى طاقات هذا التيار وتوظفها ضمن أجسام مؤسسية، سواء أحزاب، أو جمعيات، أو مراكز دراسات، أو حتى منصات للتأثير الناعم.
الحلول والآفاق:
من التفاعل الفردي إلى البنيان الجماعي
لعل أول ما يجب التأكيد عليه أن العمل السياسي والمجتمعي ليس ترفًا اختياريًا، بل هو واجب شرعي وضرورة واقعية، شريطة أن يتم في إطار الضوابط الشرعية، وبعد فهم دقيق للواقع ومآلات الفعل. وفي هذا الإطار، يمكن اقتراح جملة من الحلول العملية:
- إحياء الفكرة المؤسسية:
- يجب أن يُعاد طرح فكرة تأسيس تيار شرعي منظم، يجمع بين أصحاب الكفاءة من العلماء، والدعاة، والمفكرين، والممارسين للسياسة وفق المرجعية الشرعية.
- هذا التيار يمكن أن يتجسد في حزب سياسي شرعي، أو جمعية علماء معاصرة، أو مركز أبحاث، أو تجمع نقابي مهني. الأشكال تتنوع، لكن الروح واحدة: الانتقال من التنظير إلى الفعل.
- تأصيل المشاركة الشرعية:
- لا بد من تقديم خطاب علمي رصين يشرح مشروعية المشاركة السياسية، ويبين أنها من باب دفع المفسدة وجلب المصلحة، لا من باب التنازل عن الثوابت.
- الاستفادة من تجارب الصحوة الإسلامية، التي استطاعت أن توازن بين المبدأ والمصلحة، وأن تخوض ميادين السياسة دون أن تفقد هويتها.
- بناء التحالفات المجتمعية:
- من الخطأ أن ينعزل التيار الشرعي عن باقي القوى المجتمعية، بل ينبغي الانفتاح على مكونات الأمة الأخرى ممن يلتقون في الحد الأدنى من المشترك الوطني أو الأخلاقي.
- التحالفات المرحلية مع من يرفض الفساد والاستبداد يمكن أن تخلق توازنات جديدة في الميدان السياسي.
- إطلاق مشاريع التأثير الناعم:
- إلى جانب العمل السياسي المباشر، ينبغي الاستثمار في وسائل التأثير الثقافي والفكري والإعلامي، من خلال إنتاج معرفي، وحضور إعلامي ذكي، وتكوين شبكات فاعلة من الكفاءات المؤثرة.
- تهيئة الجيل الجديد:
- لا بد من الاستثمار في إعداد جيل شرعي سياسي، يجمع بين العمق في الفقه، والبصيرة بالواقع، والقدرة على خوض المعترك العام دون تخلف أو ذوبان.
- هذا يتطلب تغييرًا في المناهج التكوينية، وتحفيزًا للمشاركة في النقابات والبلديات والمؤتمرات وصناديق الاقتراع.
آن أوان المبادرة
لقد آن الأوان لأن يغادر التيار الشرعي موقع الهامش، وأن يتحول من مجرد “حالة دعوية” إلى قوة اقتراح، وتأثير، وصناعة قرار.
إن الفراغ في الساحة لن يدوم، ومن لم يبادر ملأ غيرُه مكانَه. وليس المطلوب أن يتخلى أصحاب العلم عن رسالتهم، بل أن يوسّعوها لتشمل المجال العام، بصوت عاقل، ومنهج رصين، وتخطيط دقيق.
نحن بحاجة إلى تيار متوازن: يملك المرجعية الشرعية، والرؤية الواقعية، والقدرة المؤسسية.
تيار يخرج من دائرة الشكوى إلى ميادين الفعل، ومن التنظير المتكرر إلى المبادرة المسؤولة.
فمن ذا الذي يبادر؟