Search

العدالة الانتقاليّة: مُقاربةٌ شاملةٌ من النَّظريّة إلى المُمارسة

العدالة الانتقاليّة Transitional Justice مصطلح أنجلو سكسونيّ حديث نسبيًّا يعود إلى ثمانينيّات القرن الماضي، وتتعدّد التعريفات الخاصّة بالعدالة الانتقالية، ومنها هذا التعريف القريب من الحالة السورية الذي يُعرّفها بأنّها : “مجموعة من الإجراءات التي تقوم بها الدول التي تشهد حالة من التّحوّل من نظام شموليّ وقمعيّ إلى نظام ديمقراطيّ، وتهدف إلى معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبها النظام السابق ولضمان عدم تكرار تلك الفظائع في المستقبل”، ويُعرّفها البعض بأنها: “مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي تُنفّذها المجتمعات لمعالجة مخلفات بانتهاكات هائلة لحقوق الإنسان، أو هي “مجموعة التدابير القضائيّة وغير القضائيّة

الإطار المفاهيمي والنظري:
إن العدالة الانتقاليّة تُفهم على أنّها عملية خلْق استجابات في سياق مُعيّن من القمع السياسيّ و/أو الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، من أجل تحقيق التغيير السياسيّ. إنها عملية يكون مفتاحها هو معالجة ومناقشة الصدمة النّاجمة عن الأخطاء وفهم تأثير القمع على الحياة اليوميّة من أجل إنشاء جسر بين الماضي وطريقة معقولة للمضيّ قدمًا في الحاضر والمستقبل. ومن ثم فإنَّ الأهداف لا تقتصر على القطيعة مع الماضي من أجل إرساء سيادة القانون، بل تشمل أيضاً التّحرُّك نحو مستقبل مُزدهر من المصالحة ومنع انتهاكات جديدة لحقوق الإنسان.
مع نهاية القرن العشرين، ظهرت العدالة الانتقاليّة في أمريكا اللاتينية كمحاولة للتغلُّب على الوضع العام لانتهاكات حقوق الإنسان الناجمة عن الحروب الأهلية والأنظمة القمعية.العدالة الانتقاليّة هي استجابة للانتهاكات المنهجيّة أو واسعة النطاق لحقوق الإنسان. وهي تسعى إلى الاعتراف بالضحايا وتعزيز فرص السلام والمصالحة والديمقراطيّة. العدالة الانتقاليّة ليست شكلاً خاصاً من أشكال العدالة، بل هي عدالة تتكيّف مع المجتمعات التي تشهد تحولات بعد فترة من انتهاكات حقوق الإنسان المتفشّية. في بعض الحالات، تحدث هذه التحوّلات فجأة؛ وفي حالات أخرى، قد تستمر لعقود طويلة.
ويُحدّد تقرير الأمين العام لعام 2004 المُقدّم إلى مجلس الأمن بشأن سيادة القانون والعدالة الانتقاليّة في مجتمعات الصراع وما بعد الصراع العدالة الانتقاليّة باعتبارها النطاق الكامل للعمليات والآليّات المرتبطة بمحاولات المجتمع للتعامل مع إرث من الانتهاكات واسعة النطاق في الماضي، من أجل ضمان المساءلة وخدمة العدالة وتحقيق المصالحة.

كيف نفهم “عدالة” العدالة الانتقاليّة؟ أي، بناءً على أيّ معايير أو مقاييس أخلاقية ينبغي تقييم عمليات العدالة الانتقاليّة؟ كما يتّضح من نقاشي، فإن إحدى المهام الرئيسيّة لعمليات العدالة الانتقاليّة هي المساعدة في ترسيخ سلطة الدولة، عندما تُفقد مؤسّساتها مصداقيتها. إن المشاركة البارزة للجهات الدينيّة الفاعلة في عمليات العدالة الانتقاليّة تطرح أسئلة جديدة حول السّلطة، وتُشير إلى أسئلة تستدعي مزيدًا من البحث النّظري.

لقد تمَّ إنشاء عمليات العدالة الانتقاليّة في عشرات المجتمعات حول العالم على مدى العقود القليلة الماضية. تشمل بعض السياقات العديدة التي حدثتْ فيها عمليات العدالة الانتقاليّة جنوب إفريقيا أثناء انتقالها بعيدًا عن نظام الفصل العنصري إلى الديمقراطيّة، والدول التي شكّلتْ يوغوسلافيا السابقة بعد الحروب التي رافقتْ تفكّكها، وكولومبيا اليوم حيث تواصل تنفيذ شروط اتفاقية السلام التي تهدف إلى إنهاء أكثر من خمسين عامًا من الصراع بين الحكومة الكولومبية والقوات المسلحة الثورية الكولومبية. تُعدّ لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا ( TRC ) التي تأسست عام 1994؛ والمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ( ICTY )، التي عملت من عام 1993 إلى عام 2017؛ والولاية القضائية الخاصة للسّلام ( JEP ) العاملة حاليًا في كولومبيا بعض الأمثلة الأكثر بروزًا على هذه العمليات.

ينشأ سؤال العدالة الانتقاليّة في مجموعتين : إما كمسألة عدالة ما بعد الصراع في سياق النزاع المسلح؛ أو عند التعامل مع الانتهاكات الماضية التي ارتكبتْها الديكتاتوريات أو الأنظمة الاستبدادية. يتميّز المفهوم بماضٍ من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وعملية انتقال إلى السلام والديمقراطية. الهدف الأساسي للعدالة الانتقالية هو إنهاء الإفلات من العقاب وإرساء سيادة القانون في سياق الحكم الديمقراطيّ . ومن أشهر البلدان التي شهدت انتهاكات جسيمة ومنهجيّة لحقوق الإنسان وبدأت عملية العدالة الانتقالية جنوب إفريقيا وتشيلي وسيراليون والأرجنتين ورواندا والدول التي خلفت جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكيّة، والسودان، وتونس حديثًا.

تُعدّ كيفية تعامل الديمقراطيّة الناشئة مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان مسألةً محوريّة في مفهوم العدالة الانتقاليّة. تفترض العديد من النقاشات عادةً وجود ردّيْن محتملين فقط على أخطاء الماضي: المحاكمة والعقاب، أو نسيان الماضي. ورغم أن “العدالة الانتقالية” غالبًا ما تُشير حصرًا إلى مقاضاة منتهكي حقوق الإنسان، إلا أنّه من الأدقّ تطبيق المصطلح على نطاق أوسع ليشمل إمكانيات تقديم رواية دقيقة للماضي، وتعويض الضحايا، والتوزيع العادل للثروات والفُرص، واستعادة ما فُقد. وبينما تتعامل الديمقراطية الجديدة مع “ماضيها الصعب” من خلال الاستجابة المناسبة لشرور الماضي، يجب عليها أيضًا الحرص على عدم تقويض آفاق تطورها المستقبليّ.

آليات العدالة الانتقالية:
يظلُّ مفهوم العدالة الانتقاليّة مفهوم نسبيًّا يتغيّر بتغيّر الزمان والمكان بما يمكن تطبيقه في بلد
ما يصعب تطبيقه في بلد آخر ، بالنظر إلى اختلاف الظروف السياسيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة بين البلاد وبالتالي لا يجوز النظر إلى العدالة الانتقاليّة على أنّها نوع خاص من العدالة ، فالعدالة الانتقالية ليست علما محددًا أو قواعد أو أعرافًا موحدة وجامدة ، ولكن يُنظر إليها بحسبانها عملية لتحقيق قدر من العدالة الممكنة في ظلّ تحوّل أو انتقال بين مرحلة سياسيّة وأخرى في مجتمع ينشد الخلاص من “إرث الماضي”
ونسبيّة مفهوم العدالة الانتقاليّة يمكن أن تتأثّر بدرجة القمع والاستبداد التي اتصف بها النظام السابق أو ما ارتكبه مسئولوه من انتهاكات ، وهو الأمر الذي يؤثّر بطبيعة الحال على نوعيّة الآليّات و طبيعة الاجراءات التي سوف يُعوّل عليها لتطبيق العدالة الانتقاليّة. أمّا فيما يخصُّ تكييف مصطلح العدالة الانتقاليّة فهو لا يندرج تحت فقه العلوم السياسيّة أو السياسة الدوليّة والسياسة المقارنة بل تُدرس تحت بنود حقوق الانسان، فضلاً على أنه قد يتعدى ذلك ليتناول أحد المبادئ القانونيّة تطورًا وفاعلية، لذلك يرى البعض أن العدالة الانتقاليّة ما هي إلا أحد فروع القانون الدولي كما يرى آخرون أن العدالة الانتقاليّة تنتمي : بشكل واضح إلى حقل القانون الجنائي. إنَّ إمعان النظر يدفعنا إلى الاعتقاد بأنَّ العدالة الانتقاليّة تمثل مفهومًا له ذاتيّته وطبيعته الخاصّة ويتطلب تطبيقه الإلمام بفروع القوانين السابق الاشارة إليها ، مع إدراك الجوانب المختلفة السياسيّة ، الاجتماعيّة ، الثقافيّة ، الاقتصاديّة. والأرجح أن مفهوم العدالة الانتقاليّة يشكل مظلّة لعدّة علوم. يُصبغ أساسًا بالصبغة القانونيّة التي تمنحه الشرعيّة اللازمة.

ووفقا للقانون الأساسيّ المتعلق بالعدالة الانتقاليّة، فإنَّ العدالة الانتقاليّة تقوم على العديد من المبادئ والركائز التالية :
1 – الكشف عن الحقيقة : وهو حقٌّ يكفله القانون لكلِّ المواطنين مع مراعاة مصلحة الضحايا وكرامتهم دون المساس بحماية المعطيات الشخصية، والانتهاك وفقًا لهذا القانون هو كل اعتداء جسیم أو ممنهج على حقّ من حقوق الإنسان صادر عن أجهزة الدولة أو مجموعات أو أفراد تصرّفوا باسمها أو تحت حمايتها ، وإن لم تكن لهم الصّفة أو الصلاحيّة التي تُخوّل لهم ذلك، كما يشمل كلّ اعتداء جسيم على حقٍّ من حقوق الإنسان تقوم به مجموعات منظّمة ، أمّا الكشف عن الحقيقة هو جملة الوسائل والإجراءات والأبحاث المعتمدة لفكِّ منظومة الاستبداد، وذلك بتحديد كلِّ الانتهاكات وضبطها ومعرفة أسبابها وظروفها ومصدرها والملابسات المحيطة بها والنتائج المترتّبة عليها، وفي حالات الوفاة والفقدان والاختفاء القسريّ معرفة مصير الضحــايا وأماكن وجودهم وهُويّة مرتكبي الأفعال التي أدت إليها والمسؤولين عنها ، ويؤخذ بعين الاعتبار عند الكشف عن الحقيقة خصوصيّة وقع الانتهاكات على كبار السّن والنّساء والأطفال والمُعوّقين وذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى والفئات الهشّة.

2- الملاحقات الجنائيّة:
تُعدّ الملاحقة الجنائيّة لمرتكبي انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أولَ وأوضحَ السُّبل للتعامل مع انتهاكات الماضي. وتتمثّل هذه التحقيقات القضائية في المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان. وكثيرًا ما يُركّز المدعون العامون على التحقيق مع “المسؤولين الكبار”: أي المشتبه بهم الذين يُعتبرون الأكثر مسؤوليّة عن الجرائم الجسيمة أو المُنظّمة.

تهدف مبادرات الملاحقة القضائيّة إلى ضمان محاكمة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم، بما في ذلك الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنسانيّ الدوليّ والانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وفقًا للمعايير الدوليّة للمحاكمة العادلة، ومعاقبتهم عند الاقتضاء. وتتطلّب مصداقيّة وشرعيّة هذه المبادرات الملاحقة القضائية أن تُجرى بطريقة موضوعيّة وغير تمييزيّة، بغض النظر عن هُويّة الجُناة المزعومين. وتقع على عاتق الدولة المسؤوليّة الأساسيّة عن ممارسة الولاية القضائيّة على هذه الجرائم. لذلك، وفيما يتعلق بالجرائم المزعومة المرتكبة في سياق النزاع أو الحكم القمعي، ستسعى برامج العدالة الانتقالية إلى تعزيز أو تطوير القدرات الوطنية للتحقيق والملاحقة القضائية، وقضاء مستقل وفعّال، ودفاع قانوني مناسب، وحماية ودعم الشهود والضحايا، ومرافق إصلاحيّة إنسانيّة. تعمل المحكمة الجنائيّة الدوليّة على أساس مبدأ التكامل المنصوص عليه في المادّة 17 من نظام روما الأساسيّ. وبناءً عليه ينبغي لها أيضًا أن تُسهم في تطوير القدرات الوطنيّة اللازمة لتقديم مرتكبي الجرائم الدوليّة المزعومين إلى العدالة.

3- لجان الحقيقة:
تُساعد عمليات تقصّي الحقائق مجتمعات ما بعد الصراعات والمجتمعات الانتقاليّة على التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان السابقة، وتتولى لجان الحقيقة، ولجان التحقيق، أو غيرها من بعثات تقصّي الحقائق هذه العمليات. ولجان الحقيقة هي تحقيقات غير قضائيّة تُنشأ لتحديد الحقائق والأسباب الجذريّة والعواقب المجتمعيّة لانتهاكات حقوق الإنسان السّابقة. ومن خلال تركيزها على شهادات ضحايا الفظائع، تُقدِّم لجان الحقيقة اعترافًا واعترافًا بمعاناة الأكثر تضررًا وقدرتهم على الصمود.

تُكلّف لجان الحقيقة عادةً ببعض أو كل الأهداف التالية: اكتشاف الانتهاكات الماضية وتوضيحها والاعتراف بها رسميًّا؛ ومعالجة احتياجات الضحايا؛ و”مكافحة الإفلات من العقاب” وتعزيز المساءلة الفرديّة؛ وتحديد المسؤوليّة المؤسّسية والتوصية بالإصلاحات؛ وتعزيز المصالحة والحدّ من الصراع حول الماضي.

الفرق الجوهري بين المحاكمات ولجان الحقيقة هو طبيعة ومدى اهتمامها بالضّحايا. فرغم أن اللجان قد تحقق في تورط أفراد من الجُناة في الانتهاكات، وقد تتلقى معلومات حاسمة من الجناة وغيرهم من داخل نظام القمع، إلا أنَّ معظم وقتها واهتمامها منصبّان على الضحايا. ومن خلال الاستماع إلى قصص الضّحايا، وربما عقد جلسات استماع عامة، ونشر تقرير يصف مجموعة واسعة من تجارب المعاناة، تُمكّن اللجان الضحايا من التعبير عن آرائهم علنًا، وتُعرّف الجمهور الأوسع بمعاناتهم.

يتطلب التطبيق الفعال للحقّ في معرفة الحقيقة نظامًا وطنيًّا قويًّا للأرشفة. ومع ذلك، في العديد من المجتمعات الخارجة من صراعات أو حكم قمعيّ، تكون هذه الأنظمة ضعيفة أو معدومة، وعرضة لمحاولات إتلاف أدلة انتهاكات حقوق الإنسان.
لدى العديد من لجان الحقيقة هدفٌ واضحٌ يتمثّل في تعزيز المصالحة الوطنية، حيث يُدمج الكثير منها كلمة “مصالحة” في ولايتها الرسمية و/أو اسمها.

4- التعويضات:
هذه مبادرات تُساعد على إصلاح الأضرار الماديّة والمعنويّة الناجمة عن انتهاكات الماضي. وعادةً ما تُقدم للضحايا مجموعةً من المزايا الماديّة والرمزيّة، قد تشمل تعويضات مالية واعتذارات رسميّة. كما تشمل المتاحف والنصب التذكاريّة التي تُخلّد ذكرى الضحايا وتُعزّز الوعي الأخلاقيّ بشأن انتهاكات الماضي، وذلك لبناء حصنٍ منيعٍ ضد تكرارها.
تهدف تعويضات ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان إلى الاعتراف بالأضرار التي لحقت بهم ومعالجتها، والاعتراف بالخطأ. ونظرًا لفوائدها الماديّة والرمزيّة، تُعدّ التعويضات مهمة للضّحايا، إذ تُعتبر غالبًا الوسيلة الأكثر مباشرة وفعاليّة لنيل العدالة.

5- الإصلاح المؤسسي:
تُعنى الإصلاحات المؤسّسية ببناء مؤسّسات عادلة ومُنصفة كضمانة ضد تكرار انتهاكات حقوق الإنسان. يهدف إصلاح المؤسّسات إلى تفكيك منظومة الفساد والقمع والاستبداد ومعالجتها بشكل يضمن عدم تكرار الانتهاكات واحترام حقوق الإنسان وإرساء دولة القانون ، و يقتضي إصلاح المؤسسات خاصة مراجعة التّشريعات وغربلة مؤسسات الدولة ومرافقتها ممن ثبتت مسؤوليّته في الفساد والانتهاكــــــــــات وتحديث مناهجها وإعادة هيكلتها. يجب تحويل الأنظمة الاستبداديّة إلى مؤسّسات تدعم عملية الانتقال، وتحافظ على السّلام، وتصون سيادة القانون. يجب أن تصبح المؤسّسات التي انتهكت حقوق الإنسان ودافعت عن المصالح الحزبيّة لفئة قليلة مؤسّسات تحمي حقوق الإنسان، وتمنع الانتهاكات، وتخدم الجمهور بنزاهة. يجب أنْ تتحوّل المؤسّسات المختلّة وغير المنصفة التي بثّت الخوف إلى مؤسّسات فعّالة وعادلة تحظى بثقة المواطنين. من خلال إصلاح أو بناء مؤسسات عامة عادلة وفعّالة، يُمكّن الإصلاح المؤسّسيّ حكومات ما بعد الصراع والحكومات الانتقاليّة من منع تكرار انتهاكات حقوق الإنسان في المستقبل.

يُعدّ التدقيق جانبًا مهمًّا من إصلاح شؤون الموظفين في الدول التي تمر بمرحلة انتقاليّة. فقد كشف الموظفون العموميوّن المسؤولون شخصيًّا عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو جرائم خطيرة بموجب القانون الدولي عن افتقارٍ جوهري للنزاهة، وأخلّوا بثقة المواطنين الذين كان من المفترض أن يخدموهم. وتهدف عمليات التدّقيق إلى استبعاد الأشخاص الذين يعانون من نقصٍ خطير في النّزاهة من الخدمة العامة، بهدف (إعادة) بناء الثقة المدنية و(إعادة) إضفاء الشرعيّة على المؤسّسات العامة.

6- العدالة بين الجنسين:
تتحدّى هذه الجهود الإفلات من العقاب على العنف الجنسيّ والعنف القائم على النّوع الاجتماعيّ، وتضمن حصول المرأة على العدالة على قدم المساواة في حالات انتهاكات حقوق الإنسان. وينبغي أن يكون نهج العدالة بين الجنسين عنصرًا أساسيًّا، يستكشف اختلاف تجارب النّساء والرّجال في النّزاعات وانتهاكات حقوق الإنسان. ويشمل السّعي لتحقيق العدالة بين الجنسين مقاضاة مرتكبي العنف القائم على النّوع الاجتماعيّ؛ وتقديم تعويضات لفئات متنوعة من النساء وأُسرهنَّ؛ وإقامة نُصب تذكاريّة تُخلّد تجارب النّساء؛ وإصلاحًا مؤسّسيًّا يلبي احتياجات الأمن البشريّ ويعزّز وصول المرأة إلى العدالة.

7- تخليد الذّكرى:
تهدف النُّصب التذكاريّة إلى حفظ ذكريات الأشخاص أو الأحداث. وفي سياق العدالة الانتقاليّة، تُكرّم هذه النُّصب ضحايا النّزاعات أو غيرها من الفظائع، وتُعيد النظر في الماضي، وتُعالج القضايا المعاصرة، وتُظهر الاحترام للضّحايا. كما يُمكنها المساعدة في إنشاء سجلّات تُجنّب الإنكار وتُساعد المجتمعات على المضي قدمًا. وقد تشمل النُّصب التذكاريّة أنشطةً تذكاريّة، مثل النُّصب التذكاريّة المعماريّة والمتاحف وغيرها من الفعّاليات التذكاريّة.
لا يمكن لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان أن ينسوا، ومن واجب الدّولة الحفاظ على ذكرى هذه الجرائم. ولذلك، تُعدّ النُّصب التذكاريّة والمتاحف والأنشطة التذكاريّة مبادرات تعليمية لا غنى عنها لإنشاء سجلّ تاريخيّ عام لا يقبل الإنكار، وللمساعدة في منع تكرارها.

8- حفظ الذّاكرة :
هي حقّ لكلّ الاجيال المتعاقبة من السّوريات والسّوريين كما يعتبر واجب تتحمّله الدّولة وكل المؤسّسات التّابعة لها أو تحت إشرافها لاستخلاص العبر وتخليد ذكرى الضحايا ، والهدف من النّص على حفظ الذّاكرة حتى يعرف الشّعب تاريخ اضطهاده والاحتياط على وجه الخصوص من ظهور نظريّات تحرّف الوقائع أو تنفيها ، هذا من جهة ومن جهة ثانية صعوبة تجاهل الماضي ، حيث أثبتت غالبيّة التّجارب التاريخيّة السابقة في هذا المجال أنّه من المستحيل تجاهل الماضي أو نسيانه ، فهو عادة يظهر ويطفو على السطح فيأخذ شكل ما يسمّى “بفوران الذّاكرة و تواترها ” ، حيث يظهر الغضب وعدم الرضا تحت سطح الحياة السياسيّة بالتالي ينفلتان من وقت لآخر.

9- المصالحة :
تهدف المصالحة لتعزيز الوحدة الوطنيّة وتحقيق العدالة والسّلم الاجتماعيّ وبناء دولة القانون وإعادة ثقة المواطن في مؤسّسات الدّولة ، ولا تعني المصالحة الافلات من العقاب وعدم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.

العدالة! عدالة منْ؟
لقد قيل مرارًا وتكرارًا أنه لا يمكن أن يكون هناك سلام بدون عدالة. لهذا السبب، تواجه المجتمعات التي تمرّ بمرحلة انتقاليّة تحدّيًا مستمرًا يتمثل في إعطاء الأولويّة لاستدامة السّلام أو تلبية توقعات أولئك الذين يطالبون بمعاقبة أولئك الذين تسبّبوا في حالة الطوارئ أو الذين استخدموا الوضع لإيقاع الضرر بالآخرين. يجب أن يكون واضحًا أنّ الخيارات غالبًا ما تُملى بما إذا كان هناك فائز واضح في الصراع أم لا أو ما إذا لم يكن هناك فائز. عندما تكون “عدالة المنتصر” ممكنة بسبب السّلام المفروض من قبل قوة خارجيّة قويّة، أو لأنَّ أحد الجانبين فقد السّلطة والنّفوذ بوضوح، تكون أشكال العدالة الانتقاميّة مثل المحاكمات الجنائيّة والعقاب مُمكنة، ويفضلها أولئك الذين هم في السّلطة. ومع ذلك، عندما يكون هناك سلامٌ مرتّب أو متفاوض عليه، مع بقاء القادة السّابقين أقوياء حتى لو لم يعودوا يسيطرون على سلطة الدّولة، يصبح الوضع أكثر تعقيدًا.
يُقال إنّ التجارب في العديد من مجتمعات ما بعد الصراعات أظهرت أنّه في حال عدم مقاضاة مرتكبي جرائم حقوق الإنسان الجسيمة لأسباب متعدّدة، تُفتح الجروح القديمة بسرعة، ويشتعل التّوتّر الاجتماعيّ بسرعة بفعل أحداث غير مؤذية، مما يترك المجتمع في حالة من التّوتّر الدائم.

إنَّ اختيار محاكمة الجناة له مزاياه. فهو، على أقلّ تقدير، يعزّز المساءلة الفرديّة، إذ يضمن تركيزه على العقاب أن يتعرّض من تسبّبوا في معاناة الآخرين للمعاناة بدورهم. ومع ذلك، ثمّة عدد من الصعوبات العمليّة في اختيار الملاحقة القضائيّة. فعلى سبيل المثال، في الحالات التي وقعت فيها فظائع جماعيّة، كما حدث في رواندا وسيراليون وليبيريا، لا بدَّ من تقبّل حقيقة استحالة محاكمة جميع المتورطين. في الواقع، في رواندا، هدّد العدد الهائل من المتهمين استقرار نظام العدالة وأثار الشّكَّ في نزاهة نظام العدالة الرسميّ. في النّهاية، تم اللجوء إلى خيار أكثر قبولاً ثقافيّاً، وإن كان أقل إرضاءً من حيث احترام الإجراءات القانونيّة الواجبة، بدلاً من نظام المحاكم الرسميّ، وذلك لتخفيف عبء القضايا وتخفيف العبء والضّغط الهائل الذي تعرض له النّظام الرسميّ نتيجةً لجهود محاكمة جميع الجناة. وقد طُرح الأساس المنطقي للجوء إلى مثل هذه الآلية بإيجاز على النحو التالي: “كانت عملية العدالة الجماعية مناسبة لهذا النوع من الجرائم الجماعيّة المرتكبة … ولا ينبغي تبرئة أي مرتكب لاختياره المشاركة في الإبادة الجماعيّة.

هل النّظر إلى الماضي ضرورة للتّنمية؟
لا يمكن لمجتمعٍ عانى من ماضٍ متوتّر أن ينعم بحاضرٍ مسالم. فإذا نشأ الصّراع بسبب ذكرياتٍ متنازع عليها، كذكريات التفوّق العرقيّ أو التّبعيّة، فمن الأهمية بمكان أن يُزوَّد المجتمع بأسره بمعلوماتٍ دقيقة عن ماضيه “للتّوافق أو توحيد” المجتمع بأكمله. لا أحد ينكر أهمية المعلومات التاريخيّة الدقيقة، التي غالبًا ما تكون غير متاحة لأنّ جماعاتٍ معيّنة من أصحاب النفوذ قد تكون اختطفت تاريخ الأمّة في مراحل زمنيّة معيّنة، وقد تكون حرَّفت الأحداث لرسم صورةٍ زائفةٍ تمامًا أو غير مُرضيةٍ لجماعاتٍ أخرى. إذا عُرفت المعلومات الدقيقة عن ماضي الأمّة، فسيكون بناء مستقبلٍ قائمٍ على الوحدة الوطنيّة أسهل بكثير. على الأقلّ، سيُعرف الثمن الحقيقيّ الذي دفعه بعض المواطنين في تاريخ الأمّة المعنيّة، وسيُقدَّر جوهر تلك التّضحيات بشكلٍ أفضل. لذا، يُعدّ تصحيح تاريخ البلاد مسعًى هامًا إذا أردنا أن يتصالح الجميع مع تاريخ البلاد والأحداث كما وقعت بالفعل، لا كما سُمح بتسجيلها.

إنّ سياسات الماضي التي أدّت إلى تهميش أو إقصاء فئات معينة من الحكم، تُعدّ أيضًا عوائق معروفة أمام تماسك الدّولة ومصادر للصّراع والجدل. في الواقع، تعتمد كل دولة على مواقف معيّنة، كالشعور بالحماية، والانتماء، والثّقة في أنّ الدّولة ستقدم المساعدة في أوقات الشّدّة، وبالتالي الالتزام الشخصي بالحفاظ على مواطنيها (أو ببساطة، حب الوطن). هذه المشاعر هي في الواقع اللّبنات الأساسيّة التي تُحدد قوة كيانها السياسي، ووحدتها، وسلامها وطمأنينتها، وبالتالي تقدمها وتطورها. لذا، فمن الواضح تمامًا أنه لا يمكن لأيّ دولة أن تأمل في التّمتع بأيّ من هذه المشاعر الوطنيّة الضروريّة، إذا كان العديد من مواطنيها غير راغبين أو غير قادرين على التعايش السلميّ بسبب الضغائن التي يحملونها تجاهها وتجاه بعضهم البعض بسبب الأذى والقمع الذي عانوه على أيدي من كانوا يتصرّفون باسمها في مراحل معينة من تاريخها.

من الحقائق الأخرى التي يجب تسليط الضوء عليها أنّ للمجتمع نفسه مصلحة في ضمان عدم تكرار الألم والدّمار – البشريّ والماديّ – الناجمين عن الصراعات الأهليّة، ومن هنا تأتي الحاجة إلى مراجعة الماضي. ومع ذلك، يعارض الكثيرون هذا التأمّل الذّاتيّ خوفًا من أن يقعوا ضحايا لمثل هذا الجهد، إذ من المحتّم أن تؤدّي هذه العمليّة إلى توجيه أصابع الاتهام إلى أصحاب المناصب وغيرهم من أصحاب السلطة آنذاك. غالبًا ما يشعرون، وهم على حقّ، بأنهم نفذوا رغبات الجمهور كما عبّروا عنها آنذاك، لكنّ الأحداث التي جعلت الجمهور أكثر حكمة بعد وقوعها، تُعتبر الآن منبوذة اجتماعيًّا لقيامهم بالأشياء ذاتها التي أشاد بهم الجمهور من أجلها في الماضي. يجب الاعتراف بشرعيّة هذه المشاعر، وعلى الجمهور أن يُدرك أنّ الذّنب في تلك الأحداث لا يقع على عاتق “الجُناة” وحدهم، لأنّ بعض تلك الانتهاكات رُبّما وقعت إمّا لأنّ الجمهور كان يتقبل هذا السلوك، أو الأسوأ من ذلك، لأنه شجّع الجُناة بنشاط. وبالتالي، فإنّ التطوير النشط للاستراتيجيات الرامية إلى منع خلق البيئة التي أنتجت الأحداث التي نستعرضها، فضلاً عن أيّ إصلاحات للمؤسّسات والهياكل القائمة اللازمة لتجنب تكرار تلك الأحداث المأساويّة، يجب أن يستمر في جذب انتباه الأمّة، لفترة طويلة بعد انتهاء مرحلة العدالة الانتقاليّة.

وفي نهاية المطاف، إنّ سرديات الوجع السّوريّ ليس مجرد شهادات على المعاناة الفرديّة والجماعيّة التي حصلت خلال سنوات الثّورة؛ بل هي صدى لعدالة مؤجّلة وذاكرة تقاوم محاولات المحو والنّسيان. في قلب هذا المشهد وبمسيرة بناء الدّولة الجديدة تظهر العدالة الانتقاليّة كأمل معقّد ولكنّه ضروريّ، يحمل بين طيّاته إمكانيّة الاعتراف بالضّحايا، ومحاسبة الجُناة، وإعادة بناء العقد الاجتماعيّ الذي فرّط به النّظام على أسس من الكرامة والإنصاف.
تحقيق هذا الأمل مرهون بإرادة سياسيّة صادقة، ومشاركة مجتمعيّة واعيّة، وإدارة قانونيّة تضمن عدم تكرار المزيد من الانتهاكات. وإنّ تجاهل هذه السرديّات أو تسييسها لن يؤدّي إلّا إلى إعادة إنتاج الألم بشكل أكثر قسوة ويهدّد جهود الاستقرار..

هناك بين الإنصاف والنّسيان تقف العدالة الانتقاليّة كجسر هشّ؛ لكنه حازم حاسم، فإمّا أن نعبر به نحو مستقبل يتّسع لكلّ السوريين، أو أن نبقى عالقين في دوامة الألم المتوارث..
وأخيرا.. إنّ مسؤوليّة إنصاف الذّاكرة السوريّة ليست قانونيّة فقط، بل أخلاقيّة وإنسانيّة تمسُّ جوهر إعادة بناء سوريا المستقبل..

بِقلم / هادي أحمد العبدو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top