مقدمة:
في أعقاب ثورات الربيع العربي عام 2011، تصاعد النقاش حول المواطنة ودورها في بناء دولة دستور وقانون. تظهر سورية اليوم، بعد عقد من التحديات والصراعات، حاجة ملحة لإعادة فهم المواطنة بما يتلاءم مع واقع الحرب، وإعادة الإعمار، والحفاظ على النسيج الاجتماعي المتعدد.
يتجاوز الحديث عن المواطنة مجرد تعابير نظرية، ليكون إطاراً عملياً يضمن المساواة في الحقوق والواجبات، ويؤسس لثقة المجتمع في مؤسساته، ويعزز انتماء الشباب ومشاركتهم الفاعلة في مستقبل الوطن.
سِيَر تطور مفهوم المواطنة:
قبل الثورات العربية الحديثة، ارتبط مفهوم المواطنة في المنطقة بمعايير ضيقة تحدد الولاء بالقبيلة أو الطائفة أو العائلة. ثم جاءت الثورات لتطالب بدولة المواطن لا الدولة الطائفية أو المذهبية أو العشائرية.
تعرف المواطنة اليوم على أنها التزام فردي وجماعي بحماية القانون، واحترام الاختلاف، والمساهمة في صنع القرار. وهي مرنة بما يكفي لاستيعاب التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها سورية خلال العقد الماضي.
مواطنة قائمة على القانون وحكم المؤسسات:
لكي تتحول سورية إلى دولة قانون، لا بد من تحقيق ركيزتين أساسيتين:
– تطبيق العدالة دون تمييز: يجب وضع آليات قضائية شفافة وسريعة للنظر في قضايا المدنيين والعسكريين على حد سواء.
– استقلالية المؤسسات: تشمل السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية، مع ضمان حماية الممارس الحقوقي والمسؤول المدني.
من دون مؤسسات قوية ومستقلة، يبقى القانون هشاً وأي روح وطنية معرضة للانكفاء أمام النفوذ أو المصالح الضيقة.
المواطنة والشراكة المجتمعية بعد الصراع:
يمثل الشباب عماد سورية المتجددة، فهم الأكثر تأثراً بسنوات الثورة ولكنهم في الوقت نفسه الأعظم قدرة على التغيير. ولتعزيز انخراطهم يجب:
– فتح فضاءات للحوار بين الأجيال تراعي الاختلافات الإقليمية والثقافية.
– دعم مبادرات شبابية لإعادة الإعمار وتقديم الخدمات المحلية بعيدا عن البيروقراطية المركزية.
– توفير برامج تدريب على المهارات المدنية والسياسية وحقوق الإنسان.
تضمن هذه الخطوات انتقال الشباب من حالة المتفرج إلى شريك فاعل في صنع سوريا المستقبل.
دروس من وثيقة المدينة وتجربة الإسلام المؤسسة للمواطنة:
غداة هجرته إلى المدينة، وضع النبي محمد صلى الله عليه وسلم «وثيقة المدينة» التي نظمت علاقة المسلمين واليهود والقبائل الأخرى، على أساس مبدأ الدفاع المشترك وحماية السيادة.
تقوم هذه الوثيقة على أساس المكان والوطنية كقيمة جامعة تتخطى الانتماءات العقائدية والقبلية. يمكن لسورية اليوم أن تستلهم من روحها:
– احترام التعددية الدينية والإثنية في الدستور والحقوق المكفولة.
– عقد اجتماعي جديد يُلزم الجميع بحماية الوطن أولاً.
– نظام أمني وقضائي يحمي اختلافات السوريين ولا يستهدفها.
التحديات الراهنة:
تواجه سورية عدداً من العقبات في مجال بناء المواطنة:
– النزوح الداخلي والخارجي الذي مزق الأُسر وأضعف الروابط المجتمعية.
– القوانين المؤقتة التي أصدرتها الجهات الإدارية طوارئ الحرب، بعضها يضيق على الحريات أو يحدد حق الترشح والانتخاب.
– هشاشة المنظمات الأهلية التي تقلصت إمكاناتها بعد سنوات الاعتماد على التمويل الخارجي.
– غياب الثقة بين المواطنين والدولة نتيجة سنوات من الصراعات والمراجعات الأمنية.
استراتيجيات لتعزيز المواطنة في سورية اليوم:
1. مراجعة دستورية تشاركية
– إشراك ممثلين عن كل محافظة في صياغة مواد تحمي الحريات وتكفل العدالة الاجتماعية.
2. إصلاح القضاء والأمن
– تهيئة محاكم متخصصة بقضايا النزاعات المدنية والعقوبات المحلية.
– تدريب الأجهزة الأمنية على احترام حقوق الإنسان ومحاسبة من يتجاوز القانون.
3. تمكين المنظمات المدنية والشبابية
– تبسيط شروط التسجيل وتوفير تمويل محلي يضمن استقلالية الفعل الأهلي.
– دعم المشاريع الثقافية والرياضية التي تلتقي عندها أطياف المجتمع السوري.
4. تفعيل دور التكنولوجيا
– بناء منصات رقمية شفافة لنشر القوانين والقرارات الحكومية.
– إطلاق بوابات تصويت واستبيان إلكترونية تشرك المواطنين في صنع السياسات المحلية.
ختاماً: المواطنة سلوكٌ ومعيار:
ليست المواطنة فكرة تُكتفى بذكرها في النصوص والمناسبات، بل سلوك يجب على كل فرد أن يظهره في حياته اليومية من خلال:
– احترام جيرانه مهما اختلفت مذهبياً أو عرقياً.
– الامتثال للقانون والتبليغ عن أي انتهاك.
– المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات مع الالتزام بالاختلاف الهادئ.
– الإسهام في إعادة الإعمار العيني والمعنوي، لتعزيز الشعور بالانتماء والمساهمة.
على قادة الفكر والسياسة الالتفات إلى أهمية ترسيخ هذه القيم عملياً، وتحمّل مسؤولياتهم في تحفيز التعايش والوحدة الوطنية. فالمواطنة لم تعد رفاهية نظرية، بل قاعدة صلبة لبناء سورية عادلة ومستقرة ومزدهرة.
بقلم بلال محمد الشيخ | كاتب سياسي