اليهود في كنف العالم الإسلامي
عند العودة إلى التاريخ، نجد أن الوجود اليهودي في المنطقة العربية والإسلامية لم يكن يومًا عبئًا أو مصدر قلق، بل على العكس، عاش اليهود قرونًا طويلة في ظل الحكم الإسلامي بأمنٍ وسلامٍ وعدلٍ. لم يكونوا مجرد جاليات معزولة، بل شاركوا بفاعلية في مختلف ميادين الحياة: من الطب والصيرفة والتجارة، إلى الفلسفة والفنون. ولم يقتصر الأمر على المشاركة، بل وصل بعضهم إلى مراتب رفيعة في بلاطات الحكام والسلاطين، معززين فكرة أن العالم الإسلامي كان فضاءً واسعًا للتعايش.
ومع موجات الاضطهاد التي طالتهم في أوروبا، خصوصًا أثناء محاكم التفتيش، تحولت المنطقة العربية والإسلامية إلى ملاذ آمن لهم. فبينما كانت أوروبا تُحرق اليهود أو تنفيهم، كانت العواصم الإسلامية تستقبلهم وتفتح أمامهم أبواب الاستقرار والمشاركة في النهضة الحضارية. هذه الحقيقة التاريخية تناقض بشكل جذري الصورة التي روّجتها الحركة الصهيونية لاحقًا، بأن اليهود كانوا دائمًا ضحايا الاضطهاد في محيطهم الإسلامي.
الحركة الصهيونية: أقلية تفرض رؤيتها
مع صعود الأفكار القومية في القرن التاسع عشر وبروز الحركة الصهيونية، بدأ مسار جديد. هذه الحركة لم تكن ممثلة لليهودية كدين أو للشعوب اليهودية ككل، بل كانت مشروعًا سياسيًا أقلويًا، مدعومًا من قوى غربية رأت فيه أداة لتحقيق مصالحها. بريطانيا تبنت هذا المشروع، ليس حبًا في اليهود، بل بحثًا عن أدوات للسيطرة على الشرق العربي والإسلامي. كان الهدف مزدوجًا: إيجاد بؤرة توتر دائمة تضمن بقاء الهيمنة، والتخلص في الوقت نفسه من “المسألة اليهودية” في أوروبا، عبر تشجيع الهجرة نحو فلسطين.
لكن الحقائق تقول إن معظم اليهود لم يكونوا متحمسين لهذا المشروع. فبين عامي 1895 و1945، ورغم الدعم البريطاني، بقيت الهجرات اليهودية إلى فلسطين محدودة جدًا. الغالبية فضّلت الاندماج في المجتمعات التي عاشت فيها، من أوروبا إلى العالم العربي. هذا التردد دفع الحركة الصهيونية إلى افتعال أزمات، مستخدمة أدوات العنف والفتن.
تهجير الجاليات اليهودية: صناعة الخوف
هنا برز الدور الأخطر: استهداف الجاليات اليهودية في الدول العربية والإسلامية. فجأة، وفي ظروف غامضة، تعرضت محلات اليهود وأسواقهم في بغداد والرباط وتونس ومصر واليمن لهجمات ليلية. رافق ذلك تصعيد دموي من عصابات “الهاغاناه” ضد الفلسطينيين، ليظهر المشهد وكأن العرب جميعًا يرفضون التعايش مع اليهود. كانت النتيجة واضحة: دفع الجاليات نحو التفكير بالهجرة إلى فلسطين.
لقد استُخدم اليهود العرب كأدوات في مشروع أكبر. هُجّروا من أوطانهم الأصلية ليكونوا وقودًا في بناء الكيان الإسرائيلي. بعد عقود، اكتشف كثير منهم أنهم وقعوا في فخٍّ تاريخي: تركوا استقرارًا عمره قرون، مقابل حياة محفوفة بالخوف في كيان يعيش على صراع دائم.
إسرائيل بعد 80 عامًا: كيان بلا اندماج
ثمانية عقود مضت على قيام “إسرائيل”، ومع كل الدعم الغربي غير المحدود، والحروب التي خاضتها، لا تزال تعيش أزمة وجودية. لم تتمكن من الاندماج في محيطها، ولم تستطع أن تبني حياة طبيعية لشعبها. فحتى الإسرائيليون أنفسهم يعيشون في قلق دائم، محاطين بجدار عازل، وواقعين تحت تهديد مستمر.
جاءت معركة طوفان الأقصى لتعيد خلط الأوراق. هذه العملية لم تقتصر على نتائجها العسكرية، بل ضربت عمق الوعي الإسرائيلي. جعلت المجتمع هناك يشعر لأول مرة منذ عقود أن الكيان مهدد بالزوال فعليًا. كانت صدمة وجودية أعادت التأكيد على أن “إسرائيل” ليست دولة طبيعية، بل مشروع هش يعتمد على القوة وحدها.
رد الفعل الإسرائيلي كان متوحشًا، عبر الإبادة الجماعية والقصف العشوائي، لكن خلف هذا التوحش تكمن حقيقة الضعف. فالدولة التي تحتاج إلى تدمير شعب كامل لتؤكد بقاءها، هي دولة فقدت مقومات الشرعية الداخلية والخارجية.
نتنياهو والتيار اليميني: حكم بالخوف
اليوم، يقود إسرائيل تيار يميني متطرف، لا يمثل إلا أقلية في المجتمع الإسرائيلي، لكنه يسيطر على القرار السياسي. هذا التيار يعيش على تصدير الخوف: الخوف من الفلسطينيين، الخوف من العرب، الخوف من الزوال. بالنسبة لنتنياهو، فإن استمرار الحرب ليس خيارًا، بل شرط لبقائه السياسي. أي وقف للقتال يعني فتح ملفات المحاسبة والمحاكمة، وهو ما يخشاه بشدة.
في المقابل، هناك جيل جديد من الإسرائيليين بدأ يتململ. شباب يريدون الانكفاء على حياتهم بعيدًا عن الحروب، لكنهم يجدون أنفسهم رهائن لسياسات أقلية متطرفة. هذا التناقض الداخلي يزيد من هشاشة الكيان، ويكشف أن مسألة الزمن قد تكون عاملاً حاسمًا في مستقبل إسرائيل.
سورية واستراتيجية تفتيت المنطقة
أمام عجزها عن الاندماج في محيط عربي واسع، لجأت إسرائيل إلى خيار آخر: التعامل مع الأقليات الطائفية والعرقية. منطقها بسيط: بما أنها كيان أقلوي، فهي تبحث عن “أقليات تشبهها” لتقيم معها علاقات، وتستخدمها كأدوات لتفكيك الدول الوطنية.
تجربتها مع الدروز في فلسطين مثال بارز: نجحت في استغلال بعضهم للقتال ضد الفلسطينيين، وضمنت صمتهم على حدود الأسد لعقود، وساهموا بشكل غير مباشر في إضعاف المقاومة اللبنانية. هذا النموذج تحاول تل أبيب نقله إلى سورية، عبر محاولات لاجتذاب دروزها وربطهم بدروز الداخل المحتل. الهدف هو خلق ذراع أمني يهدد وحدة سورية، ويزرع بذور التفتيت فيها.
الأمر لا يتوقف عند الدروز، فإسرائيل لا تخفي استعدادها لاستغلال النزعات القومية عند بعض التنظيمات الكردية أو العلوية أو غيرها. ليس حبًا بهم أو حرصًا على حقوقهم، بل استخدامًا لهم كأدوات في مشروع أكبر: تفتيت المنطقة إلى كانتونات صغيرة وضعيفة، يسهل التحكم بها والسيطرة عليها.
الخلاصة: مشروع هش ومصير غامض
من يتأمل مسيرة إسرائيل يجد أنها لم تُبنَ لتكون “وطنًا لليهود”، بل لتكون مشروعًا استعماريًا متقدمًا في قلب المنطقة. هُجّر اليهود العرب إليها بالإكراه، واستُخدمت الأقليات كأدوات، وحُشد الدعم الغربي لفرضها كأمر واقع. ومع ذلك، لم تنجح في أن تصبح كيانًا طبيعيًا، وظلت تعيش في عزلة وقلق.
معركة طوفان الأقصى أعادت التذكير بأن زوالها ليس حلمًا بعيدًا، بل احتمال واقعي. ومع تصاعد الرفض الشعبي العربي، ومع استمرار المقاومة، ومع انكشاف هشاشتها الداخلية، فإن المشروع الصهيوني يواجه اليوم أسئلة وجودية لم يعرفها من قبل.
ويبقى السؤال المركزي: هل ستنجح شعوب المنطقة في إفشال استراتيجية “الأقليات البديلة”، والحفاظ على وحدة دولها الوطنية، أم أننا سنشهد فصولًا جديدة من العبث الإسرائيلي الذي لم يجلب للمنطقة سوى الحروب والانقسام؟