عادل الصالح
منذ أكثر من عقد من الزمن، تداخلت القوانين السورية مع أدوات السلطة الأمنية لتتحول الحقوق الفردية كالميراث، إلى ساحة صراع يومي بين المواطنين ومؤسسات الدولة. واليوم، ومع النقاشات المتزايدة حول مستقبل سوريا بعد سقوط النظام، يطفو على السطح سؤال مصيري وهو كيف يمكن إعادة بناء منظومة قانونية عادلة تكفل الحقوق وترد المظالم، خصوصاً في قضايا الميراث والملكية، التي تشكل أساس الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي؟
الميراث بين الغياب القسري وحرمان العائلات
من أبرز العراقيل التي واجهت السوريين في قضايا الميراث والبيوع خلال السنوات الماضية ما عرف بـ”الموافقة الأمنية”، التي تحولت إلى أداة سيطرة بيد الأجهزة الأمنية لتعطيل معاملات الورثة ومنع انتقال الملكية بشكل طبيعي. هذا الشرط، الذي لم يكن منصوصاً عليه في أصل القانون، مثّل قيداً فعلياً على ممارسة الحقوق المدنية، وحرم آلاف الأسر من إرثهم لسنوات طويلة. إن إعادة النظر في هذه الآلية وإبطالها يعد خطوة أولى لا يمكن تجاوزها في أي إصلاح قانوني حقيقي.
غير أن العقبة لا تقتصر على الجانب الإجرائي، إذ إن الميراث في سوريا ارتبط بملف بالغ الحساسية وهو ملف المفقودين والمغيبين. فوفاة أحد الأشخاص أو غيابه القسري يفتح الباب أمام إشكاليات قانونية معقدة، حيث يتوقف تحديد الورثة وتوزيع الأنصبة على إثبات الوفاة أو غياب الشخص. هذا التعقيد يزداد حين يكون آلاف المفقودين بلا سجلات رسمية أو بملفات مفتوحة، مما يجعل حقوق عائلاتهم معلقة إلى أجل غير مسمى. ومن هنا تأتي أهمية الدور الذي يمكن أن تضطلع به “هيئة المفقودين الوطنية”، كجهة قادرة على توثيق الحالات وإيجاد حلول قانونية خاصة تفتح المجال أمام البت في قضايا الإرث.
ولعل الأثر الأشد قسوة هنا هو الأثر الاجتماعي، فحرمان الأسر من إرثها لم يكن قضية قانونية مجردة، بل ترك ندوباً عميقة في حياتها اليومية. آلاف النساء وجدن أنفسهن معيلات لعائلاتهن بعد فقدان الأزواج أو الأبناء، لكنهن اصطدمن بجدار الإجراءات المعطلة، فبقين بلا مصدر دخل. هذه المظلومية لم تؤثر فقط على المستوى المعيشي، بل على البنية النفسية والاجتماعية، حيث تحوّل الإرث من مصدر أمان إلى رمز للعجز والخذلان.
الملكية كحجر أساس لإعادة الإعمار
وإذا كان الميراث يتصل بحقوق الأفراد والعائلات، فإنه يرتبط أيضاً بالفضاء العام لإعادة الإعمار. فملكية الأراضي والعقارات ليست مجرد مسألة شخصية، بل هي حجر الأساس لأي مشروع لإعادة بناء المدن والمجتمعات. إن إهمال هذا البعد سيعني ببساطة أن إعادة الإعمار ستقوم على أرضية هشة، قابلة للانفجار مع أول نزاع حول ملكية منزل أو قطعة أرض. لذلك، فإن وضع آليات قانونية شفافة لإثبات الملكية وضمان عودة الأملاك لأصحابها يشكل شرطاً لا غنى عنه لضمان الاستقرار.
وفي موازاة ذلك، يبرز البعد الاقتصادي للقضية، إذ إن الحرمان من الميراث عطّل حركة السوق العقارية وأضعف الثقة في التعاملات. آلاف المنازل بقيت مغلقة أو غير قابلة للتصرف، مما خلق فراغاً في الدورة الاقتصادية وأعاق جهود التنمية. بل إن بعض المستثمرين الدوليين يشترطون وجود بيئة قانونية ضامنة للملكية قبل التفكير في المشاركة بإعادة الإعمار، الأمر الذي يجعل حل قضايا الميراث والملكية ليس مجرد مطلب إنساني بل ضرورة اقتصادية وطنية.
العدالة الانتقالية… بين التجارب الدولية والحاجة السورية
ولا يمكن الحديث عن الحقوق والميراث في مرحلة ما بعد النزاع من دون التطرق إلى العدالة الانتقالية. فالميراث هنا لا يتعلق فقط بتوزيع حصص بين الورثة، بل يتصل بجوهر العدالة التي يفترض أن ترد الحقوق لمن حُرموا منها، وتعوض المتضررين عن سنوات الحرمان. تقارير العدالة الانتقالية وما ستتضمنه من توثيق لانتهاكات الحرمان من الملكية ستشكل جزءاً من الذاكرة القانونية للمجتمع، وهي التي ستمنح القضاء الوطني، في حال إعادة بنائه، الأساس اللازم لإصدار أحكام تعيد الاعتبار للضحايا وتضمن أن ما حدث لن يتكرر.
وهنا يكتسب النظر إلى تجارب الآخرين أهميته، إذ إن دولاً مثل البوسنة وجنوب أفريقيا عانت من إشكالات مشابهة. ففي البوسنة كان نزاع الأملاك من أكثر الملفات حساسية بعد الحرب، ما دفع المجتمع الدولي إلى إنشاء لجان خاصة لإعادة الحقوق أو التعويض العادل. أما في جنوب أفريقيا، فقد ارتبط ملف العدالة الانتقالية بمراجعة قضايا الأراضي المصادرة خلال حقبة الفصل العنصري. هذه النماذج تذكرنا بأن تجاهل هذا البعد في سوريا سيجعل جراح الحرب مفتوحة، بينما معالجته ستمنح السوريين فرصة لإعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس أكثر رسوخاً.
وفي هذا السياق، يوضح المحامي عمار عز الدين أن آليات العدالة الانتقالية يجب أن تقوم على مبدأ يقوم أولاً على إعادة الحق العيني متى كان ذلك ممكناً، باعتباره الأصل الذي لا يجوز التفريط به، وثانياً على التعويض المالي العادل حين تتعذر الإعادة لأسباب واقعية أو قانونية. ويرى عز الدين أن تحقيق هذا التوازن يقتضي إنشاء لجان قضائية خاصة، مرتبطة بآلية العدالة الانتقالية، تتمتع بصلاحيات واسعة لمراجعة السجلات العقارية، والاعتماد على الإثباتات البديلة، والاستعانة بجهات توثيق مستقلة. وفي الحالات التي يستحيل فيها إعادة العقار أو إثبات الملكية، يمكن اللجوء إلى صندوق تعويضات وطني يخضع لرقابة قضائية، بما يضمن العدالة للضحايا ويمنع تحوّل الملف إلى مصدر دائم للنزاعات.
وفي موازاة الجهد القضائي، يبرز دور منظمات المجتمع المدني والحقوقيين، الذين يمكنهم توثيق الحالات على الأرض، وتقديم الدعم القانوني للأسر المتضررة، والمساهمة في بناء قاعدة بيانات وطنية محكمة. هذا الدور لا يقل أهمية عن الدور القضائي، إذ يشكل جسراً بين الضحايا ومؤسسات الدولة، ويعزز الثقة بالعملية الانتقالية.
بهذا الطرح، يصبح واضحاً أن التعامل مع ملف الميراث لا يمكن أن يتم عبر مقاربات شكلية أو جزئية، بل من خلال رؤية شاملة تعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة وتؤسس لمرحلة جديدة قائمة على إنصاف المتضررين وتثبيت الاستقرار الاجتماعي.
إن الميراث هنا لا يقتصر على الأموال والعقارات، بل يرمز إلى الإرث الأوسع المتمثل في العدالة ذاتها. فالمجتمعات التي تنجح في استعادة هذا الإرث الرمزي قادرة على حماية مستقبلها من التكرار المأساوي للتجارب. وبالتالي فإن استرداد الحقوق المادية هو الخطوة الأولى، أما استعادة العدالة كقيمة جماعية فهي الخطوة الحاسمة في بناء سوريا الجديدة.
في النهاية، تضعنا قضية الميراث أمام مشهد مركب تتقاطع فيه السياسة بالقانون، والأمن بالحقوق، والماضي بالمستقبل. وإذا كان استرداد الحقوق الفردية هو المدخل لبناء الثقة بين المواطن والدولة، فإن معالجة هذا الملف بجرأة وشفافية ستحدد إلى حد بعيد قدرة سوريا الجديدة على أن تؤسس لدولة قانون حقيقية. فلا معنى لإعادة الإعمار أو للمصالحة الوطنية إذا بقيت حقوق الناس مرهونة بتعقيدات إجرائية أو بإرث من الظلم لم تتم معالجته.