مقال بقلم: أ. بلال محمد الشيخ _ سياسي سوري
2/ تشرين الأول/2025 م
في لحظة سياسية دقيقة، أقرّت الحكومة اللبنانية خطة أمنية تحت مسمى “درع الوطن”، تهدف إلى حصر السلاح بيد الدولة، بدءًا من جنوب الليطاني، في خطوة تحمل أبعادًا تتجاوز الإطار الأمني لتلامس جوهر السيادة الوطنية، وتعيد طرح سؤال الدولة في لبنان: من يملك القرار؟ ومن يحدد العدو؟ ومن يرسم السياسات؟ هذه الخطة، التي تتألف من خمس مراحل، تشمل مداهمات وتنسيقًا أمنيًا وعسكريًا واسعًا، وتأتي في سياق داخلي مأزوم وإقليمي متحول، ما يجعلها أكثر من مجرد إجراء تقني، بل مشروعًا سياسيًا يعيد تشكيل التوازنات داخل لبنان وخارجه.
القرار الرسمي بحصر السلاح يعكس رغبة متزايدة لدى بعض القوى اللبنانية، بدعم دولي واضح، في استعادة احتكار الدولة للعنف المشروع، بعد عقود من تعدد القوى المسلحة الخارجة عن سلطة المؤسسات. لكن هذه الرغبة تصطدم بجدار من التعقيدات الطائفية والسياسية، أبرزها انسحاب وزراء “الثنائي الشيعي” من جلسة إقرار الخطة، في مؤشر على هشاشة التوافق الوطني، وصعوبة فرض سلطة الدولة دون صدام داخلي. فحزب الله، الذي يُعد الطرف الأكثر تأثرًا بالخطة، يواجه معضلة وجودية: هل يندمج في الدولة ويتخلى تدريجيًا عن سلاحه؟ أم يحافظ على استقلاله العسكري ويخاطر بعزلة داخلية وخارجية؟ هذا السؤال لا يتعلق فقط بالحزب، بل بالطائفة الشيعية ككل، التي تجد نفسها أمام تحدي إعادة تعريف دورها الوطني خارج إطار زعمهم المقاومة المسلحة.
ورغم ما يُروّج له من سردية المقاومة، فإن سلاح حزب الله أثبت، في محطات مفصلية، أنه أداة لتفكيك لبنان وسوريا أكثر مما هو وسيلة لتحرير فلسطين. هذا السلاح، الذي ارتبط وظيفيًا بالمشروع الإيراني، تحوّل إلى ذراع إقليمية مأجورة، تُستخدم لتصفية الخصوم وتثبيت النفوذ، لا لمواجهة الاحتلال.
وقد جاءت أحداث “طوفان الأقصى” لتفضح هذا التناقض، حين غاب الحزب عن المواجهة، وظهر انكشافه الأخلاقي والسياسي أمام جمهوره. فالسلاح الذي لا يُستخدم إلا في خدمة أجندات عقائدية، يفقد شرعيته، ويتحول إلى عبء على الدولة والمجتمع والطائفة.
الجيش اللبناني، الذي يتولى تنفيذ الخطة، يتحول تدريجيًا من مؤسسة دفاعية إلى فاعل سياسي وأمني، ما قد يعيد تشكيل التوازنات الداخلية، ويمنح الدولة أدوات جديدة للضبط، لكنه أيضًا يضعه في مواجهة مباشرة مع قوى محلية وإقليمية اعتادت العمل خارج مظلة الدولة. نجاح الجيش في تنفيذ الخطة سيعني بداية مرحلة جديدة من إعادة بناء الدولة، أما فشلها فسيكرّس واقعًا من الفوضى والتعددية الأمنية، ويضعف الثقة بالمؤسسات.
أما على المستوى الفلسطيني، فإن المخيمات، خاصة عين الحلوة، قد تتحول إلى ساحة اختبار للخطة، ما يثير مخاوف من مواجهات أو إعادة إنتاج سيناريوهات أمنية سابقة. الفصائل الفلسطينية المسلحة، التي كانت تعتمد على دعم حزب الله، قد تجد نفسها أمام فراغ استراتيجي، يدفعها نحو إعادة التموضع السياسي أو التنسيق مع السلطة الفلسطينية. هذا التحول قد يُضعف من قدرتها على مواجهة إسرائيل، ويعيد تشكيل التحالفات داخل المخيمات، في ظل تراجع دور السلاح كأداة سياسية.
في الشأن السوري، نجاح الخطة سيؤدي إلى تشديد الرقابة على الحدود، ما يحد من تهريب السلاح والمقاتلين، ويضعف الشبكات العابرة للحدود. المجموعات المسلحة المرتبطة بفلول النظام البائد قد تجد نفسها محاصرة، ما يعيد تشكيل العلاقة الأمنية بين بيروت ودمشق، ويفتح الباب أمام علاقة أكثر مؤسساتية، بعيدًا عن الوساطات الحزبية التي كانت تتحكم في مفاصل التواصل بين البلدين.
أما إيران، فإنها تواجه تحديًا مباشرًا في لبنان، حيث تمثل الخطة أول محاولة رسمية لتقليص نفوذها عبر تقليص دور حزب الله العسكري. هذا التحدي قد يدفعها إلى إعادة تموضعها في لبنان عبر أدوات غير عسكرية، مثل الإعلام، الاقتصاد، والخطاب الديني، لتعويض خسارة السلاح. لكن هذا التحول ليس مضمون النجاح، خاصة في ظل تصاعد الضغوط الدولية، وتراجع قدرة طهران على تمويل شبكاتها الإقليمية بنفس الزخم السابق.
في المحصلة، خطة “درع الوطن” ليست مجرد إجراء أمني، بل لحظة تأسيسية تعيد طرح سؤال الدولة في لبنان، وتختبر قدرة المؤسسات على استعادة السيادة في زمن الشبكات المسلحة العابرة للحدود. نجاحها أو فشلها سيحدد مستقبل لبنان كدولة مؤسسات أو كدولة محاور، ويعيد رسم خريطة النفوذ في المنطقة، من فلسطين إلى سوريا، مرورًا بإيران وحزب الله. إنها لحظة اختبار للسيادة، وللقدرة على بناء دولة قادرة على احتكار القرار، لا مجرد إدارة التوازنات.