محمد سنكري
تحتاج سوريا اليوم إلى إدارة دقيقة لعلاقتها مع موسكو، انطلاقاً من فهم واقعي لموازين القوى، لا من الذاكرة السياسية وحدها. فروسيا ما زالت لاعباً محورياً في المشهد السوري، تمتلك أدوات تأثير دولية بحكم عضويتها الدائمة في مجلس الأمن، وتحتفظ بشبكة علاقات متشابكة مع قوى إقليمية مؤثرة كتركيا وإيران وإسرائيل. كما أن وجودها العسكري على الأرض يجعل تجاهلها أو تجاوزها أمراً غير ممكن في أي تسوية مستقبلية.
إن التعامل مع موسكو لا يمكن أن يكون أحادياً، بل هو طيف من الخيارات تتراوح بين القطيعة الكاملة والارتهان، مروراً بالتقارب المحدود والشراكة المتوازنة. القطيعة الكاملة تبدو خياراً عاطفياً، يرضي الذاكرة الجريحة لكنه يعطل أي مسار سياسي أو اقتصادي دولي، ويترك سوريا عرضة لضغوط روسية عبر أدواتها الإقليمية. أما الارتهان الكامل فيؤمن دعماً قصير المدى لكنه يسلب القرار الوطني ويضع البلاد في موقع التبعية السياسية، مما يولد رفضاً شعبياً واسعاً ويقيد هامش المناورة السورية في علاقاتها الدولية.
في المقابل، يوفر خيار التقارب المحدود أرضية واقعية لإدارة المصالح مع روسيا دون التفريط بالسيادة. يقوم هذا المسار على الانفتاح الدبلوماسي المضبوط، وفتح قنوات اتصال مباشرة لتقليل العرقلة الروسية في المحافل الدولية، مع رفض الامتيازات طويلة الأمد أو العقود غير المتكافئة. كما يحد التعاون العسكري في هذا الإطار من التمدد الميداني الروسي، ويحصره في مجالات التدريب وتبادل الخبرات فقط.
هذا الخيار لا يهدف إلى بناء تحالف بقدر ما يسعى إلى إدارة التوازن. فبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع موسكو يمنح الحكومة السورية قدرة أكبر على المناورة السياسية، ويقلل من احتمالات التصعيد أو العزلة، مع الحفاظ على انفتاح موازٍ تجاه الدول العربية والغربية. إن تنويع الشراكات الاقتصادية والسياسية يخلق شبكة أمان وطنية تمنع الارتهان لأي محور، وتؤسس لاستقلال قرار الدولة في المدى الطويل.
التقارب المحدود يحمل أيضاً قيمة رمزية داخلية مهمة. فهو يوجّه رسالة للسوريين بأن الدولة تتعامل مع الملف الروسي بعقلانية لا بانفعال، وتضع المصلحة الوطنية فوق الذاكرة المؤلمة، دون أن تتخلى عن مبادئ السيادة والاستقلال. وللمجتمع الدولي، يعبّر هذا النهج عن سياسة متزنة تراعي المصالح المشتركة وتؤكد أن دمشق قادرة على ضبط توازناتها بدقة في محيط إقليمي معقد.
بهذا المعنى، لا يمثل التقارب المحدود مجرد خيار مرحلي، بل أداة استراتيجية تتيح للحكومة السورية استعادة زمام المبادرة، وتؤسس لسياسة خارجية مرنة قادرة على الجمع بين الواقعية والحفاظ على الكرامة الوطنية. فالتعامل مع موسكو ليس خيار ولاء أو خصومة، بل معادلة مصالح، من يحسن إدارتها يمتلك مفتاح التوازن في مستقبل سوريا.