Search

مجلس الشعب

نشأت فكرة البرلمان مع نشوء المجتمعات نفسها، حين برزت الحاجة إلى مجالس تشاور تنظم شؤونها وتضبط علاقة الحاكم بالمحكوم. ومع تطور الحضارات، تحوّلت هذه المجالس من دوائر ضيقة للنخبة إلى مؤسسات تمثل إرادة الشعوب وتقيّد نزعة السلطة إلى التفرد.

فقد عرفت حضارات سومر وبابل وأثينا وروما مجالس للنقاش كانت حكرًا على النخبة. أما أول برلمان مؤسسي فكان الأثلينغ في أيسلندا عام 930م، حيث اجتمع زعماء القبائل لصياغة القوانين وتسوية النزاعات، ممهدين لفكرة “السلطة المشتركة”
وفي إنجلترا، شكّل “البرلمان النموذجي” الذي دعا إليه إدوارد الأول عام 1295م نقلة نوعية بإشراك ممثلين عن النبلاء ورجال الدين والمدن، تمهيدًا لمبدأ أن الحاكم يحتاج موافقة من يحكمهم. ومع صعود الطبقة الوسطى، تحولت البرلمانات الأوروبية إلى ساحة صراع بين الحق الإلهي للملوك و الحق الشعبي حتى انتزعت هذه البرلمانات سلطات التشريع والرقابة والمساءلة.

ولم تكن فكرة التشاور حكرًا على الغرب، فالقرآن الكريم قررها أصلًا في الحكم: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ» [الشورى: 38]. فالسلطة في التصور الإسلامي أمانة تُمنح وتُسحب وتخضع للمساءلة. فقد قال أبو بكر الصديق في أول خطاب له: «أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم»، مكرّسًا مبدأ أن الحاكم ليس فوق القانون. وقال عمر بن الخطاب: «الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يُقوّم عمر بسيفه إذا اعوجّ»، مؤكّدًا حق الأمة في محاسبته. أما عمر بن عبد العزيز فقال: «إن الناس ليسوا عبيدًا لي، ولكني خادم لهم»، وجعل الشورى ممارسة مؤسسية في قرارات الدولة.

رغم اختلاف السياقات التاريخية، يمكن القول إن مفهوم أهل الحل والعقد يُعد نظيرًا مبكرًا للفكرة البرلمانية، فقد كانوا يمثلون الأمة ويملكون حق البيعة والعزل والرقابة. لكن الشورى لم تتطور مؤسسيًا في معظم العصور الإسلامية، وظلت رهينة شخصية الحاكم وعدالته. ومع تحوّل الخلافة إلى ملك عضوض، صارت الشورى شكلية كما تحولت كثير من البرلمانات في الدول العربية والإسلامية اليوم إلى أدوات تزكية ومنح شرعية لمخالفات ومغالطات الولاة.

ولا يُعدّ البرلمان في جوهره قاعة لتبادل الخطب، بل أداة لضبط السلوك السياسي للدولة. حيث يُعتبر جهاز التوازن الذي يمنع السلطة من الانزلاق نحو الطغيان، ويحوّل الحاكم من مالك إلى وكيل، ويضع حدودًا لمن يظن أن سلطته مطلقة. وعبر التاريخ، كلما كان البرلمان قويًّا ومستقلًّا، كانت السلطة أكثر انضباطًا، وكلما ضعف البرلمان أو خضع، تمددت السلطة كجرافة لا تعرف التوقف.

وتُعد التجربة البريطانية من أوضح الأمثلة على تحوّل البرلمان من هيئة هامشية إلى قوة تُقيد الحكم المطلق؛ فحين تمسّك ملوك القرن السابع عشر بـمبدأ الحق الإلهي (حيث كان يرى الملك أن سلطته مستمدة من الله) وفرضوا الضرائب دون موافقة البرلمان، رفض الأخير الانصياع واندلعت عقبها حرب أهلية كبيرة، في إعلان صريح أن الحاكم مهما علا خاضع للمساءلة. ومع الثورة البريطانية عام 1688، ترسخ مبدأ سيادة البرلمان وأصبح الملوك يحكمون باسمه لا رغمًا عنه. ووجد هذا المبدأ صداه في التجربة الأمريكية، حيث جعل الآباء المؤسسون الكونغرس حجر الأساس للنظام السياسي وسلطةً توازن الرئيس وتمنع تغوّله، فكان من سلطاته إقرار القوانين والموافقة على التعيينات وإعلان الحرب وحتى عزل الرئيس، وقد برز ذلك جليًا عندما تم إجبار ريتشارد نيكسون على الاستقالة عام 1974 إثر فضيحة ووترغيت. وعلى الضفة الأخرى من آسيا، جسّد البرلمان الهندي دور صمام الأمان للديمقراطية في أصعب لحظاتها، كما حدث خلال فترة الطوارئ التي أعلنتها إنديرا غاندي عام 1975، حيث واجهت الهند بعد الاستقلال تحديات كبرى تتعلق بالتنوع العرقي والديني واللغوي. لكن البرلمان الهندي لعب دورًا حاسمًا في امتصاص الصراعات وبناء دولة التعدد حال دون أن تنزلق البلاد إلى حكم الحزب الواحد المطلق أو ديكتاتورية الزعيم. أما #ألمانيا التي خرجت من تجربة مريرة فقد صممت نظامها السياسي ليكون البرلمان (البوندستاغ) مركز الثقل الحقيقي في الرقابة والتشريع، حيث تُمارس المساءلة بأقصى درجات الجدية، ويُستجوب المستشارون والوزراء علنًا في مشهد يعكس أن وظيفة البرلمان ليست الزينة السياسية بل الحماية والمحاسبة وضمان ألا تعود السلطة إلى الانفراد أو الاستبداد.

وعلى النقيض من ذلك فحين يتحوّل البرلمان من منبرٍ للشعوب إلى جوقة تصفيق للسلطة، يفقد جوهر وجوده ويغدو مجرد ديكور يُجمّل وجه الاستبداد. فبدل أن يكون بيتًا للمساءلة والتشريع، يتحوّل إلى منصة لتمجيد الحاكم وتمرير قراراته، حيث تُقرّ القوانين بالإجماع قبل أن تُقرأ، ويُكرَّم المفسدون بدل محاسبتهم، ويصفّق النواب أكثر مما يتكلمون.

وما لم يتحرّر البرلمان من ثقافة الطاعة ويتحوّل إلى سلطة حقيقية تراقب وتحاسب، سيبقى مجرّد جوقة تصفيق لا صوتًا للشعوب. وسيكون من الطبيعي عندها أن يخرج أحد أعضائه فيه ليقول للحاكم – كما قال خالد العلي #للمخلوع يومًا: الوطن العربي قليل عليك.

في نهاية المطاف، البرلمانات ليست محايدة. إنها مرآة الشعوب وميزان السلطة في آنٍ معًا. وحين تنحني هذه المرآة أمام السلطان، فإنها لا تعكس إلا صورته. أما حين تظلّ واقفة، فإنها تعكس الشعب الذي أوجدها.
التاريخ يخبرنا أن البرلمانات كانت في لحظات كثيرة سيفًا يشهره الناس في وجه الطغيان، وفي لحظات أخرى كانت ترسًا يحمي الطغاة من شعوبهم.

وفي سوريا، يبقى الأمل أن يحمل البرلمان المقبل عبء المرحلة القادمة الحقيقي وأن ينهض بمسؤولياته التاريخية ويدرك أن ما ينتظره السوريون هو تغيير عميق تأخّر كثيرًا وجاء أوانه. حيث سيكون هذا البرلمان – إن قام بدوره – الأهم في تاريخ سوريا الحديث، لأنه سيُكلَّف بإعادة صياغة العقد بين الدولة والمجتمع، وترميم الثقة المهدورة، وصون إرادة الناس بعد عقود من المصادرة والتهميش.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top