Search

سوريا الجديدة بين حلم الديمقراطية وواقع النظام السياسي

أحمد بسامسي باحث في الشؤون السورية

تبدو الديمقراطية في نظر السوريين بوابة الخلاص ونظامًا يعكس إرادة الشعب، لكنها في الواقع تواجه تحديات معقدة بين الفوضى والسلطة، وبين الصراع السياسي وتباين الأيديولوجيات.

من الثورة إلى البحث عن النظام

في 18 آذار 2011، انطلقت الثورة السورية، حيث اجتمع المواطنون الأحرار في الساحات مطالبين بالحرية والكرامة والإصلاح.

لم تكن المطالبة المباشرة بالديمقراطية واضحة آنذاك، بل كانت الدعوة للحرية تعبيرًا فطريًا عن رفض الاستبداد. ومع تواتر الأحداث وسقوط أول شهيد، تحولت المطالب من إصلاحات تدريجية إلى ثورة من أجل إسقاط النظام.

ومع مرور السنوات، تغيّرت الأشكال والوسائل، لكن بقي السؤال:

ما الذي تبقّى فعلاً من ذلك الحلم؟

ما هي الديمقراطية؟

كثيرون لا يدركون عمق المفهوم؛ فـ الديمقراطية ليست قالبًا واحدًا، بل أنظمة متعددة صيغت بحسب خصوصية كل مجتمع وزمان ومكان.

فديمقراطية أثينا تختلف عن الشورى في الدولة الإسلامية المبكرة، كما تختلف الديمقراطية اليابانية عن نظيرتها الأمريكية القائمة على نفوذ جماعات الضغط (اللوبي).

وقد عبّر ونستون تشرشل عن ذلك بقوله:

“الديمقراطية ليست نظامًا مثاليًا، لكنها أفضل ما هو موجود.”

فالفكرة الجوهرية أن يحكم الناس أنفسهم بأنفسهم، غير أن الشيطان يكمن دائمًا في التفاصيل.

الديمقراطية بين المثال والتشويه

باسم الديمقراطية، شُنّت حروب كثيرة، كما حدث في فيتنام وجنوب شرق آسيا، حيث قيل إنها تُنشر بالقوة!

ومع الزمن أصبح المفهوم رماديًّا، تتنازعه المصالح والادعاءات، حتى غاب عنه ذلك التوافق الذكي والعميق الذي يعطيه معناه الحقيقي.

الديمقراطية لا تقوم على النسخ الأعمى، بل على الحرية المنظمة والمسؤولية المشتركة. فالحرية المطلقة تؤدي إلى الفوضى، أما الحرية المقترنة بالواجب فهي جوهر النظام الديمقراطي.

ولا يمكن أن تقوم ديمقراطية حقيقية على ديكتاتورية الأكثرية أو على استبعاد الأقليات.

إشكالية التعددية والخصوصية السورية

بعد انتصار الثورة السورية (المتوقّع)، برزت أصوات تطالب بحكم “الأكثريات الثورية أو الإسلامية” تحت شعار “من يحرر يقرر”، وكأن النصر يعطي الحق بالانفراد بالسلطة.

لكن في بلدٍ متعدّد المكونات، لا يمكن لأي تيار، مهما كانت أغلبيته، أن يحكم وحده دون توافق وطني.

وبالمقابل، ترى بعض القوى أن التنمية الاقتصادية أو “الخصوصية الثورية” بديل عن الديمقراطية، معتبرةً أن الأخيرة قد تُشعل الفوضى.

بينما يذهب آخرون إلى أن الديمقراطية غزو ثقافي غربي لا يصلح لكل الشعوب.

والصحيح أن الديمقراطية ليست قالبًا جامدًا، بل فكر قابل للاجتهاد والتكيّف مع الواقع المحلي، كما تختلف سويسرا عن إيطاليا رغم قربهما الجغرافي.

الحرية أساس الديمقراطية

لا ديمقراطية بلا حرية.

فالحرية هي التربة التي تنمو فيها الديمقراطية، وبدونها تصبح كالشجرة المزروعة في صحراء قاحلة، تُروى أحيانًا لكنها لا تزهر.

الحرية غير المسؤولة فوضى، والديمقراطية لا تستقيم في ظل شخصنة السلطة أو ربطها بالأفراد.

فالمسؤولية هي الضامن الحقيقي للحريات، ومن دون نظام منضبط يحدث الانفلات والحروب الأهلية.

دروس من التاريخ

عبر التاريخ، oscillated الديمقراطية بين النجاح والفشل.

في القرن العشرين، لم تكن محصنة من السقوط، إذ صعدت النازية والفاشية من رحم أنظمة برلمانية فشلت في حماية نفسها.

واليوم يهددها من جديد صعود الشعبوية والتطرف.

لا يمكن لأي نظام سياسي أن ينجح إذا رفضه جزء واسع من الشعب، كما فشل الاتحاد السوفيتي ليس بسبب الضعف العسكري، بل بسبب عجزه عن التجديد.

فعندما يفقد النظام القدرة على التطور، يبدأ بالتحلل من الداخل مهما كانت شعاراته قوية.

المال والسياسة

في سوريا، كما في دول كثيرة، أصبح المال اللاعب الأكبر في الحملات والقرارات السياسية.

تؤثر الشركات الكبرى والمصالح الاقتصادية أكثر مما يفعل السياسيون أنفسهم.

وهنا يبرز الخطر: حين تتحول الحرية الاقتصادية إلى خصخصة مطلقة تبرر التفاوت الطبقي، يصبح القوي يبتلع الضعيف.

الديمقراطية لا يمكن أن تقوم من دون طبقة وسطى قوية تحفظ التوازن بين الفقر والثراء.

فالفقراء غالبًا لا يثقون بقدرتها على تغيير واقعهم، والأغنياء يحمون مصالحهم تحت أي نظام، بينما الطبقة الوسطى هي التي تطالب بالعدالة وتمنح النظام شرعيته واستقراره.

وحين تتآكل هذه الطبقة، تبدأ الديمقراطية بالاهتزاز، كما حدث في أوروبا بين الحربين العالميتين.

نموذج الديمقراطية الأمريكية

تجربة الولايات المتحدة مثال مهم:

نظامها قائم على ركنين أساسيين — غلبة العدالة عبر مجلس النواب، والتوازن الطوعي بين الولايات عبر مجلس الشيوخ.

لكنها أيضًا تواجه خطر المال السياسي عبر اللوبيات التي تفرض أجنداتها، ما يثير تساؤلات حول مدى نقاء التجربة الديمقراطية هناك.

وقد اعتبر فرانسيس فوكوياما أن الديمقراطية الليبرالية هي “ذروة ما بلغه العقل البشري”، لكنها ليست نهاية التاريخ، بل عملية مستمرة من التصحيح والتجديد.

الديمقراطية السورية الممكنة

الشعب السوري، رغم ما عاناه من حرب ونزوح وتهجير، ما زال يحتفظ بقدر كبير من الأصالة والتنوع الثقافي.

واليوم، بعد أكثر من أربعة عشر عامًا من الثورة، آن الأوان لبناء نظام سياسي حديث يقوم على دستور جديد وتداول سلمي للسلطة، يرافقه اقتصاد مزدهر ومجتمع مدني فاعل.

لكن السؤال يبقى:هل نحن مستعدون لممارسة الديمقراطية بمعناها الحقيقي؟

الديمقراطية لا تعني اختيار الشخص الصواب دائمًا، بل القدرة على تصحيح الخطأ دون عنف.

هي التنظيم الواعي للاختلاف، وليست نهاية التاريخ، بل بدايته نحو نظام إنساني أكثر عدلاً ومسؤولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top