Search

أمن الوطن بين الأغراب والمواطنين

مصطفى كمال الزايد

في عصرنا تخلت كل الدول عن الروابط العرقية والإثنية، وأصبح رابط الشعوب هو الوطن، فكل أبنائه، يتعلق أمنهم بأمنه، واستقرارهم بوحدة أراضيه وحماية حدوده، ومستقبلهم بمستقبله، فأمريكا مثلاً، يحمل جنسيتها أفراد من كل القوميات والإثنيات، ومع ذلك هي اليوم أقوى دولة في العالم، يعيش شعبها في توافق تام في إطار قوانين تضمن حقوق الجميع تحت مظلة «الوطنية»، التي حملت اليوم مفهوم «الأمن القومي»! وقبلها كانت الدولة العثمانية أقوى دولة في العالم، وتحت مظلتها مثل تلك القوميات والإثنيات. ولم تكن سورية بدعاً بين البلاد.

العرب في بلاد الشام:

يذكر التاريخ هجرات العرب الساميين إلى الشام، ومنهم التنوخيون، فالوجود العربي فيه «يرجع إلى الألف الثالث ق.م، متمثلاً بالكنعانيين، ومنهم الفينيقيون والعموريون»([1])، وكذلك الأنباط أبناء نابت بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. وسئل النبي ﷺ عن «سبأ» فقال: ﴿رَجلٌ ولدَ عشرةً منَ العربِ، فتيامنَ منهم ستَّةٌ، وتشاءمَ منهم أربعةٌ. فأمَّا الَّذينَ تشاءموا فلَخمٌ، وجُذامُ، وغسَّانُ، وعامِلةُ﴾([2]).

الروم في بلاد الشام:

كان حضور الروم في الشام متأخراً «عام 64 ق.م»([3])، وكانوا يسمونه «بلاد العرب»، و«كانت حضارة تدمر العربية منافسة لهم، وحين توسعت زنوبيا في مصر والأناضول، قلقت روما، فتوجه أورليان إليها بجيشه، فأسرها وقضى على مملكتها»([4]).

النصارى والمسلمون في بلاد الشام:

ظلت بلاد الشام، حتى زمن الفتوحات الإسلامية، خاضعة للرومان، وكان أهلها خليطاً من الروم والعرب، وفيهم وثنيون، ويهود، ويدين أكثرهم بالنصرانية. وبعد الفتح الإسلامي تعايش نصارى العرب والروم مع المسلمين في حياة مواطَنةٍ وتراحم. ومع كل التغيرات السياسية، من الخلافة الراشدة إلى العثمانية، وتعرض البلاد للغزوين؛ الصليبي والمغولي، لم تظهر من نصارى الشام بادرة غدر أو محاولة انقلاب أو تعاون مع عدو! وذلك لأنهم أبناء البلد، فما كانوا ليهدموا وطنهم بأيديهم ولا ليعينوا على تخريبه معتدياً، وتجلت وطنيتهم برفضهم التعاون مع الاحتلال الفرنسي، الذي حاول إيغار صدورهم على مواطنيهم المسلمين، فقد فهموا أن المحتل يريد افتعال حرب أهلية تخرب البلد وتجعل الجار يقتل جاره؟ وتمثل موقفهم جلياً بموقف الأستاذ فارس الخوري، رحمه الله، حين «أبلغه الجنرال غورو أن فرنسا جاءت لحماية مسيحيي الشرق، فقصد الجامع الأموي، وصعد إلى منبره، وقال: إذا كانت فرنسا تدّعي أنها احتلت سورية لحمايتنا – نحن المسيحيين – من المسلمين، فأنا المسيحي؛ من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله. فحمله المصلون على الأكتاف، وخرجوا به إلى أحياء دمشق، وخرج المسيحيون يومها في مظاهرات حاشدة وهم يهتفون: لا إله إلا الله»([5]). فجلّى موقفه موقف كل مسيحيي الشام «أصحاب العقل» بالأفعال لا بالشعارات الكاذبة.

التركمان والأكراد والشركس:

بقيام الحروب الصليبية انضم المسلمون، عرباً، وتركمانَ وأكراداً وشراكسة جاؤوا من بلادهم، تحت راية الزنكيين لتحرير البلاد، فبرز منهم أفذاذ كصلاح الدين الأيوبي، رحمه الله، وبعد التحرير بقيت فئات منهم في بلادنا.

   وكل من سبق ذكرهم فَهِموا قيم المواطنة وأهميتها، فأسهموا في بناء سورية وحضارتها، فقد أصبحت بلدهم الذي يحرصون عليه، فاندمجوا في أهله يذودون ويبنون ويعلّمون ويصنعون ويبدعون، ولم تر سورية منهم مظاهر عدوانية ولا دعوات طائفية عبر تاريخها.

الوافدون إلى الشام:

لم تشهد سورية، دعوات طائفية ومحاولات انفصالية إلا من الوافدين إليها فارين أو منفيين، وهم ثلاث جماعات:

1- النصيرية: الفئة الأكثر غدراً والأغزر بالخيانات، «فر زعيمهم الخصيبي عام 928م من سجنه بالعراق إلى دولة الحمدانيين، ليبدأ دعوته. ومع أن الحمدانيين قاتلوا الروم، فإن النصيرية، بعد سقوط الحمدانيين، تعاونوا مع الروم، وحين بنى المماليك مساجد في قرى النصيرية، اتخذوها حظائر لمواشيهم، وثاروا على المماليك. وثاروا على العثمانيين مرتين، آخرهما عام 1813م»([6]). وحين غزا الصليبيون أنطاكية أعجزتهم حصونها الشاهقة «فاتصل أحد زعماء النصيرية بالقائد الصليبي، وفتح لهم برجاً كان يحرسه، فدخلوها وأبادوا أهلها عام 1098م»([7])، و«في عام 1317م خرج النصيرية عن الطاعة، بقيادة من أسموه محمد بن الحسن المهدي، الذي أمر أصحابه بتخريب المساجد واتخاذها خمارات، وبأن يقولون لمن أسروه: قل لا إله إلا علي، واسجد لإلهك المهدي»([8]). (وكذلك فعل جيش بشار بأسرى السوريين في هذا العصر)، وتعاونوا مع المغول، فاتصل نائب حلب النصيري تيمور طاش بتيمورلنك، «حتى أنشأ من رؤوس البشر تلة عظيمة، وقتل جميع القواد، وانحصرت المصائب بالسنيين فقط»([9]). وأما الاحتلال الفرنسي فتواطؤهم معهم مشهور، إذ «أخذ الشيخ حبيب محمود بشرى الأمان للعموم»([10]). وحين «ألغى الفرنسيون الدويلة العلوية التي أنشؤوها في الساحل، أرسل عدد من وجهائهم، بمن فيهم جد حافظ الأسد، رسالة تطالب ببقاء دويلة العلويين مستقلة! جاء فيها: فإن الشعب العلوي يرفض أن يكون مرتبطاً بسورية المسلمة». وهي محفوظة في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية برقم 3547/ حزيران 1936م»([11]).

2- الدروز: «فرّوا من ملاحقة الخليفة الفاطمي عام 1026م، وسكنوا جبال لبنان وسورية وفلسطين، ودخلوا في صراعات، مع مسيحيي لبنان عام 1841م وعام 1860م، وكثيراً ما تمردوا ضد الدولة العثمانية»([12])، ومن أشهر خونتهم «فخرُ الدين المعني الثاني الذي جمع المُعادين للإسلام، ولما قوِيَ أمره تعاون مع الطليان فدعموه بالمال فبنى القلاع والحصون، وكوَّن جيشاً جاوز الأربعين ألفاً، وأعلن الخروجَ على الدولة العثمانية عام 1613م، وتلقَّى الدعم من فلورنسا، والبابا، وفرسان القديس يوحنا. ثم عفا عنه السلطانُ، فعاد إلى لبنان، واندفع في تغريب البلادِ، ثم أعلن التمردَ مستغلاً الحرب العثمانية – الصفوية، لكنه فشِلَ فأُسِر وشُنِق» ([13]). وفي «عام 1909م تصاعد الخلاف التجاري بين زعيم الدروز يحيى الأطرش والقرويين المحليين، فقادت عائلته تمرداً للحصول على الاستقلال»([14]). وفي زمن الشيشكلي، قام الدروز عام 1953م بتمرد مسلح، وأجرى زعماؤهم اتصالات سرية مع جهات أجنبية، على رأسها الموساد الإسرائيلي، لضرب استقرار سورية من الداخل، كشف عنها الإسرائيليون لاحقاً،»([15]). وهكذا لم يكن حكمت الهجري طفرة في سيرة الدروز، فقد كان على علاقة وطيدة مع نظام بشار البائد، وعند تحرير سورية جعل من السويداء معقلاً لفلول النظام ومجرميه، وتواصل مع الإسرائيليين، ورفع علمهم فوق السويداء، وطلب حمايتهم وحرضهم على قصف سورية، وقاتل البدو من أهل السويداء وطردهم منها. ومع أن موقف الدروز خلال الثورة السورية كان حيادياً، إلا أن هناك استثناءات في مواقف عدد من الوطنيين المخلصين، وعلى رأسهم الشيخ وحيد البلعوس، الذي رفض التحاق أبناء الدروز بالخدمة العسكرية الإلزامية للمشاركة في قتل مواطنيهم، فاغتاله النظام مع عدد من وجهاء الدروز الوطنيين عام 2015م، فكان ابنه الشيخ ليث البلعوس علماً من أعلام الثورة، فواصل طريق والده الوطني الشريف في الدفاع عن وحدة سورية وحماية مواطنيها، فالشعور بالانتماء الوطني أو المجتمعي ينطلق من الوعي بالمصلحة الجماعية، وتغذيه الضمائر الحية، فلا يقوده الهوى إلى درك الخيانة، ولا ريب أن في الدروز وطنيين يؤيدون الشيخ البلعوس، لكنهم مهددون تحت سيطرة جماعة الهجري وفلول النظام.

3– الأكراد الجدد:

كان معظم أكراد سورية مسلمين، ومنهم علماء أعلام، ويعيش الأكراد حياة مواطنة كأي فرد سوري. إلا أن الصهاينة، بعد تحييد الدول الإسلامية، وبعض الدول العربية، تجاه القضية الفلسطينية بمعاهدات التطبيع، أو اتفاقات سرية، أرادوا إشغال الشعوب العربية بقضية جديدة، فتواصلوا مع بعض أكراد أوربا وتركيا، وأغروهم بما حقق الصهاينة من إنشاء كيانهم، وبذروا في نفوسهم حلماً مشابهاً؛ بإنشاء دويلة كردية على أرض تُجتزَأ من العراق وسورية وتركيا، ووعدوهم بالمساعدة، فساروا على خطاهم، فشكلوا أحزاباً دعوا إليها المراهقين، وعظموا في أذهانهم هذا الحلم، فكانت أحداث «حلبكة» فرصة يستغلونها كما استغل اليهود الهولوكوست، وهنا طفت القضية الكردية على السطح، فتواصلوا مع المشايخ والمثقفين الأكراد في العالم، فأما أكراد سورية فرفضوا دعوتهم، وعدّوها استكمالاً للمشروع الصهيوني، وأما المراهقون فقد دفع عنفوان الشباب بعضهم إلى قبول الفكرة وتأييدها، ورفع الأكراد علم الصهاينة إلى جانب العلم الكردي «في مظاهرات في عدد من المدن والعواصم الأوربية، «وأعلنت وزيرة القضاء الإسرائيلية أن من مصلحة إسرائيل وأمريكا قيام دولة للأكراد في المنطقة، على أن تكون بداية في العراق، وقد حان الوقت لأن تدعم واشنطن هذا الأمر. وأعلن الجنرال يائير غولان نائب رئيس الأركان السابق أن حزب العمال الكردستاني ليس منظمة إرهابية»([16]). وجاءت تمثيلية «السبايا الإزيديات» بمشاركة «داعش» لتفتح أمام الأكراد أبواب مجلس الأمن وجمعية حقوق الإنسان، وتشكلت قوات سورية الديمقراطية (قسد) لإجراء تمثيلية جديدة مع «داعش» الذين هزموا كتائب الجيش الحر من المناطق المحررة، لتأتي فصائل فيها فتيات كرديات يحملن الأسلحة الخفيفة، فينسحب الدواعش أمامهن، تاركين لقسد مناطق من ريف حلب والرقة ودير الزور والحسكة، ليعلنوها دولة كردية ويجبرون أبناءها على الانضمام إلى جيشهم لمقاتلة مواطنيهم. ولا ريب أن حمل قائدهم مظلوم عبدي جواز سفر عراقي، وأن غالبية الأكراد الذين معه هم أتراك وعراقيون تسربوا عبر الحدود إلى سورية، وليسوا مواطنين سوريين، يفضح هذه اللعبة القذرة، ثم جاء اتفاقهم مع دروز الهجري ليكشف العورات تماماً. فهؤلاء الجدد الوافدون لا يهمهم دمار سورية، ولم يكن شعبها شركاءهم في الوطن يوماً، فهم غرباء جيء بهم لفيفاً كلفيف الصهاينة، من بلدان أخرى، أما «أبناء الوطن»، فمهما اختلفت أعراقهم وذهنياتهم، فإنهم يظلون حريصين على الحفاظ على وحدته وأمن مواطنيه، وعلى أن يبقى حراً أبياً، يشارك الجميع في إعلاء بنائه ورفعة مجده، وهو ما نشهده في مواقف إخوتنا الأكراد الأصيلين في البنية المجتمعية السورية من رفضٍ، بل معاداة لحركات الغرباء عن أرض سورية وأهلها.


[1] العرب في العصور القديمة، لطفي عبد الوهاب، ص60، ط2، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، مصر، 1986م.

[2] سنن الترمذي، ج5، ص275، برقم 3222، ت: بشار معروف، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ١٩٩٦م.

[3] ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، «سوريا ولاية رومانية».

[4] ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، «زنوبيا».

[5] شخصية سورية ترفع لها القبعة، رابطة أدباء الشام، تراجم: https://n9.cl/hoqk0k.

[6] الجزيرة، الموسوعة: https://aja.ws/d6bzf9.

[7] النصيريون… تاريخ يقطر دما وخيانة، إبراهيم بن محمد الحقيل، شبكة الألوكة: https://www.alukah.net/fouad/8/38675/

[8] البداية والنهاية، ابن كثير، ج14، ص83، ط1، مطبعة السعادة، القاهرة، مصر، ١٣٤٨هـ.

[9] تاريخ العلويين، محمد أمين غالب الطويل، ص327-328، مطبعة الترقي، اللاذقية، سورية، 1924م.

[10] المصدر السابق، ص459.

[11] جيش المشرق، محمد شعبان أيوب، الجزيرة: https://aja.ws/4y0ntk.

[12] من هم الدروز؟ الجزيرة: https://aja.ws/do51v3.

[13] موسوعة الدرر السنية، الموسوعة التاريخية: https://dorar.net/history/event/3864

[14] ويكيبيدياالموسوعة الحرة: تمرد دروز حوران: https://n9.cl/bru96i.

[15] أديب الشيشكلي: القائد الذي أراد بناء سورية فأسقطه تمرد الدروز، المنتدى العربي للدفاع والتسليح: https://defense-arab.com/vb/threads/207024/

[16] الجزيرة: معاريف: الأكراد يرفعون علم إسرائيل شكرا على تأييدها: https://aja.me/xcgcu.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top