لا ينبغي – ونحن نُبَادَرُ بسؤالٍ – أن نعاجل بالإجابة عنه قبل تفحصه ، وتفكيك الألغام التي ينطوي عليها ، فليس كل سؤال هو سؤال صحيح ، وينتج من الإجابة عنه المزيد من المعرفة الصحيحة . فقد تكون صياغة السؤال من أجل إلقاء المزيد من الحُجُبِ على الحقيقة ، وتضليل الباحث عن طريق ما ينبغي أن يكون عليه السؤال الصحيح ، وسرعان ما ينفجر هذا السؤال بالألغام عندما يتورط الباحث بالإجابة عنه قبل تفكيك مفرداته …..
ومن أهم تلك الأسئلة ، سؤال : ماهي علاقة الدين بالدولة ؟
ولتفكيك مفردات هذا السؤال نقول : إنه يحمل ثلاثة فِخَاخٍ خطيرة .
الفخ الأول : في مفهوم الدين ، والخلط هنا بين الدين والإسلام ، ومفهوم الدين في الإسلام ، ومفهوم الدين في علم الاجتماع ، وهنا ينزلق البعض لإلحاق الإسلام بالأديان الطقوسية التي لا تتدخل في الشأن العام ، وتحصر تعاليمها في صياغة علاقة الإنسان بالإله فقط .
والإسلام – بلا شك – ليس كذلك ، فقد نختلف إلى أي حد يتدخل الإسلام في الشأن العام لكن بلا شك لا يمكننا نفي هذه العلاقة بتاتاً .
الفخ الثاني : في مفهوم الدولة ، فالدولة مصطلح لم يكن إلا وليد العصر الحديث في دلالته المعهودة ، ولم يُعرف هذه المصطلح في عصر الإسلام إلا بمعنى التداول على الشيء ، أو الحقبة الزمنية ، ولا يلزم من عدم وجود مسمى الدولة كاسمٍ أن ينتفي مفهوم الدولة كمفهوم حمل مسميات أخرى تدل على ذات المعنى .
وإن كان غياب هذا الاسم يعني انتفاء الدولة ، فهذا يعني أنها منفية عند كل الحضارات ، وإن كان النص لم ينص على لفظة الدولة ، فهذا لا ضير فيه طالما النصوص متظاهرة على لوازم وجودها ، فالشورى ، والجهاد ، والحكم بالعدل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأداء الأمانة وتوزيع الإرث ، كل ذلك يقتضي وجود الدولة والسلطة .
الفخ الثالث : هو طبيعة العلاقة بينهما ، والتي تدفع البعض للتورط بالإجابة النافية للعلاقة على وجه الانفصال التام ، أو إثبات العلاقة إلى درجة تكون الدولة في كل تفاصيلها منصوص عليها في الإسلام ، وهذا خطأ كبير ، لذلك لا الجواب بنفي العلاقة على العموم صحيح ، ولا إثبات العلاقة على وجه العموم هو ايضاً صحيح .
وهنا أجد من الضرورة المنهجية – في رحلة الجواب عن هذا السؤال المفخخ – إضافة لتحرير المصطلحات ، إلى عزل المفاهيم المختلفة عن بعضها ؛ حتى لا تلتبس هذه المسميات على القارئ فيعطيها معنى واحداً ، فالدولة غير السلطة ، والسلطة غير الحكومة ، وغير النظام .
ولابد أيضاً من تفكيك المفاهيم المركبة ، وهنا أقصد مفهوم الدولة بالتحديد .
أولاً : عندما نُسأل ما هي أركان الدولة ؟
نقول هي : شعب ، وأرض ، وقانون ، وعقد اجتماعي ناظم بين مكونات الشعب على اختلافهم . فهل وُجد ذلك في عصر الإسلام ؟ الجواب نعم وجد ، إذا كان هناك دولة .
ثانياً : سؤال وجود نص ديني على وجوب إقامة الدولة ؟
هنا يمكن أن نسأل بطريقة مختلفة، هل كلفنا الله تعالى بتكليف هو من الشأن العام ويحتاج إلى سلطة لتنفيذه ؟ …..
إذا كان الجواب نعم ، فثبوت اللازم يتوجب ثبوت الملزوم عنه ، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، على قدر الاستطاعة .
ثالثاً : عندما نسائل الإسلام عن الدولة ونبحث عن وجودها من عدمه ، علينا أن نستصحب معنا ماهية الإسلام التي تيسر لنا الجواب ……. وهنا أقصد الماهية التي تميز الاسلام عن المسيحية والبوذية واليهودية …….. وهنا أعتقد أن خصوصية الدنيانية ، فالإسلام دين علماني ، بمعنى أنه يتدخل في الدنيا وليس بمعنى الدعوة لفصلها عنه .
وهنا نجد سر الفخ في سؤال علاقة الدين بالدولة ، وهو أن هذا السؤال هو سؤال نووي بمعنى أنك حينما تقترب منه لتجيب عنه ، ينفجر عن العديد من الأسئلة الملازمة له .
لذلك لا بد من تفكيك السؤال ، فالدولة مفهوم مركب ، والدين مفهوم مركب ، وعند السؤال عن علاقة مركب بمركب ، يتم – أحياناً – التلاعب بجزئيات هذه المركبات ؛ لنفي العلاقة أو إثباتها .
والأصل أن نعيد السؤال إلى أسئلته الفرعية ، التي تتفرع عن السؤال المركز ي عن علاقة الدين بالدولة .
– فنسأل عن علاقة الدين بالسياسة ؟ وهل السياسة هي ما نص عليه الشرع كما يقول بعض فقهاء الشافعية ؟ أم أن السياسة هي ما لا يخالف الشرع كما قال بعض فقهاء الحنابلة ؟
– وعن علاقة الدين بالسلطة ؟ وهل إسناد السلطة مبين في الإسلام أم هو الجهد البشري والمصلحة ؟ فعندما اختلف المسلمون في قضية تعيين السلطة ، اختلفت الشيعة مع السنة ، حيث اعتبر الشيعة أن الإمام معين بالنص ، بينما ذهب السنة إلى أنه متروك لاجتهاد المسلمين .
– وعن علاقة الدين بالنظام السياسي ؟ وهل في الإسلام نظام سياسي مفصل ؟ أم مجرد قيم سياسية ؟ أم أن الاسلام جاء بقيم سياسية مثل الشورى والأمانة والعدل ، ولم يأت بمؤسسات سياسية كالبرلمان ، والحكومة ، والنظام الإداري والاقتصادي ؛ لأن هذه متغيرات تخضع لاجتهاد البشر .
– وعن علاقة الدين بالثقافة ؟ هل في الإسلام ثقافة إسلامية متفردة ومتميزة ؟ أم أنه قابل للحلول في كل الثقافات والحضارات ؟
– وعلاقة الدين بالمجتمع ؟ هل للإسلام توجيهات في العلاقات الاجتماعية ؟ أم أنه يقتصر على توجيه الفرد ؟
– وعلاقة الدين بالقانون ؟ هل في الإسلام فقه وقانون وشريعة ؟ أم أنه مجرد عبادة طقوسية ؟
كل هذه الأسئلة الآنفة تَمُتُّ بصلةٍ ما إلى السؤال المركزي ، وهو علاقة الدين بالدولة ، فإن كان ثمة علاقة بين هذه الأسئلة وبين الإسلام ، فلاشك أن هناك علاقة بين الإسلام والدولة .
لا شك أن الجماعاتية الإسلامية لديهم تصور عن الدولة ، و هو محل نظر ونقد في النموذج المشوه المتخيل الذي يحاول محاكاة الدولة القروسطية ، وهنا لا عاصم من المنزلق إلا بتميز الثابت من المتحول في تركيبة الدولة، و فرز المزمن المنوط بالمصلحة عن التعبدية المنوط بالتعبد، فعندما يتم تجاوز ثابت التعاقد الرضائي ، وثابت الشورى ، وثابت العدل ، وثابت أداء الأمانة . فأنت أمام نموذج مشوه للدولة ، و هذا النموذج المشوه يجب تغييره عند الاستطاعة ويسقط بالعجز .
وصحيح أن مخيال الجماعاتية الإسلامية مسكون بدولة الخلافة بنموذجها الراشدي من حيث الوسائل والأدوات والشكل ، ولا شك أن البشرية تطورت في نظام العلاقات الدولية وانتهى عصر الإمبراطورية الجغرافية ، وصرنا مواطنين في دول عقارية ، وطنية مرسومة الحدود ، فلا مجال في هذا العصر للتوسع والفتوح ، كما كان سابقاً ، وكذلك تطورت المجتمعات من حيث انتاج العصبة الحاملة لفكرة الدولة بحسب الرؤية الخلدونية ، وغلبة الفردانية التي لا يمكن إدارتها إلا بالأليات الديمقراطية .
لقد جاء الإسلام بإسقاط الوصاية الثيوقراطية في الحكم ، وإنهاء حكم رجال الدين بالحق الإلهي، وإسقاط الوصاية الروحية على الإنسان ، بإلغاء وساطة الكنيسة بين العبد والرب ، وهذا جوهر فكرة التنوير الغربي ، و في الاتجاه البنائي لدراسة الظواهر الاجتماعية ، وهي النظرية الرائجة اليوم بين الباحثين ….. تقول إن الفكرة لابد أن تتصارع مع نقيضها ، وعندما تتصارع مع نقيضها تولد عصبة مؤمنة ؛ لتنتصر بها ، والعصبة تولد سلطة ؛ لتدير العصبة ، وإدارة العصبة هو عمل الدولة بالذات أياً كانت صورتها ……. لذلك لا نصدق أن فكرة ما ليست سياسية أو خالية من الحمولة السياسية …… إلا إذا أعدنا تفسير الاسلام من جديد ، واعتبرناه علاقة شخصية طقوسية ….. كما في الظاهرة “الشحرورية” ، أو ظاهرة “علي عبد الرازق” ، أو مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” ….. وعند ذلك فأنت أمام نسخة جديدة من الإسلام …. لا تمثل ثقافة المجتمع …. وإنما تحاول ممارسة هندسة فكرية على ثقافة المجتمع ، وافتراض معركة تنوير مع الإسلام ، وبالتالي هو الهروب إلى التأويل لعلمنة الإسلام ، بدلاً من فهم حقيقة العلاقة بين الدولة والإسلام كما هي في الحقيقة .
وهنا لا بد من الحذر من الوقوع في القراءة الحداثية للإسلام ، بحيث يضمر الباحث النتيجة التي يريد الوصول لها سلفاً ؛ لكي يقيم مصالحة ومقاربة ما بين مفهوم الإسلام لعلاقة الدين بالدولة ، و مفهوم العلمانية لهذه العلاقة .
وهنا ليس لديه خيار إلا بعملية علمنة الإسلام، أو عملية أسلمة العلمانية ، وكلاهما قراءتان تندان عن المنهجية العلمية الحرة التي ينبغي لها التخلص من القبليات المنهجية ، التي تؤثر على الباحث كما يسميها “فرانسيس بيكون” : أوهام العقل ، وهي تأثير الهوى ، واللغة الثقافية ، والبيئة ، والتاريخ ، حيث تضغط كل هذه القبليات على عقل الباحث لتتحكم بالبعديات . والتي نعني بها نتائج البحث ، لذلك علينا الحذر ونحن نخوض هذا الغمار من الوقوع في فخ انتقائية البرادايم ، والتي ستنتهي حتماً إلى نتائج مقررة مسبقاً في عقل الباحث .