“الثّقافة والفنّ أدوات التعبير والتّغيير في الثورات”

بقلم: بلال محمد الشيخ /كاتب سياسي

تمهيد:

لن أتكلم في مقالي هذا عن نشأة الفن وفلسفته وألوانه فقد كُتب في ذلك العديد من المؤلفات والأبحاث؛ ولكني سأتكلم بشكل موجز عن دور الثقافة والفن في صنع الثورات والمشاركة فيها، وتشكيل الوعي والمعرفة، فالثقافة والفن مرتبطان ارتباطاً عميقاً بالحرية، فالحرية روح الفن والثقافة؛ وكما أنّ أنظمة الاستبداد وخاصة النظام البعثيّ الذي استمر لحوالي نصف قرن كان يسيطر بشكل كليّ على المؤسسة الدينية والسياسية والعسكرية فإنه لاشكّ سيطر على الفن والثقافة، فصنع فن وثقافة تمجيد القائد وحزبه ونظامه وخدمتهم!

تعريف الفن وطبيعته:

الفن نشاط ذهني وظاهرة اجتماعية خلّاقة، متحرك ومتجدد في المعنى والمبنى وفي جوهره نشاط ثوري ناعم ومسالم، يعمل جيلاً بعد آخر على تجديد نفسه وهدم السائد الثابت المتجذّر ليبني بديلاً جديداً يستند إليه.
والفن مثله كمثل الجماعات البشرية التي حاولت عبر التاريخ السيطرة على الطبيعة من خلال الجهد العضلي ولكن الفنان استطاع السيطرة على الطبيعة باجتهاده الذهنيّ.

الفن والحرية:

الحرية كما قلنا روح الفن والثقافة، ومثلما أنّ المجتمع الجديد الذي نبحث عنه هو مجتمع الحريات فلا يتأسّس أيّ وجود بشري دونها؛ غير أنه وفي خضمّ التحولات الكبرى علينا أن نتساءل ماهي الحرية التي نبحث عنها كسوريين؟ من هنا سندرك بأن عملية التغيير ليست شأنا بسيطاً، بل إن تغيير المنظومات هو أصعب مراحل أي ثورة، ولاشكّ هو أصعب من إسقاط النظام الاستبدادي، والسبب يرجع إلى أن المعركة في أساسها هي معركة الوعي والقيم.

دور الثقافة في صنع الاستبداد:

لاشكّ أن للثقافة بشكل عام والفن بشكل خاص دور مهم في صنع الاستبداد، فالسلطة ليست سياسية أو دينية بل هي سلطة ثقافية أيضاً، فبقدر ما ينتج السياسي والديني من أمراض اجتماعية في ظل الاستبداد، ينتج الفنان هو الآخر أمراضه الفنية وتستفحل في ظل رعاية المستبد لها، والتحقق الفعلي لثورة ثقافية تقطع مع أنظمةٍ في الثقافة والفكر يقتضي وعلى خلاف ما جرى ويجري في المستوى السياسي، زمناً أطول لتبرز ملامح المأمول، ويتخذ أشكالاً معينة.

إن الثورة الثقافية يمكن أن تظهر إرهاصاتها الأولى في قلب التغيير السياسي، ولكن استواءها يتطلب جيلاً أو جيلين، لكي نصبح أمام نمط في التفكير يتيح إمكانية القطع مع التقليد، ومع أنظمة الفكر المهيمنة.

أعلم أنّه في ظلّ غياب متابعة حثيثة وقريبة لحركية الفنّ في هذا المخاض التاريخي، يصعب بناء رؤية واضحة لوظيفته اليوم من جهة، ومدى تأثير المرحلة في تغيير موقعه التاريخي ضمن هذا الحراك، لكن الحراك لم يخلُ من مظاهر الفن التي صاحبته، فأغنية الفنان سميح شقير، وكاريكاتير علي فرزات وريشة الفنان سمير قريطبي، كانت أشبه بشعارات وأشكال تعبيرية رافقت الحراك الثوري في سورية منذ بدايته.

فنان السلطة لا الشعب:

لقد عمدت الأنظمة القمعية على أسر مواهب الفنانين كما أسرت أوطانهم، فكانت تسيطر على عقولهم وأفكارهم وتضع حداً لها لا يمكن للفنان تجاوزه، حيث جعلت منه أداة لتثبيت حكمها كما جعلت من المفتي مشرعاً لأفعالها، فرضى السلطة هي الطريق الأسرع للشهرة والثروة عند الفنان!
كما أن الفن هو الطريق الأسرع عند المستبد لتكوين ثقافة الشعوب المسكينة وتخديرها!

ولهذا فإننا رأينا الكثير من الفنانين العرب اصطفّوا إلى جانب الحكام ضد الشعوب لاسيما في مصر وسورية، في حين أن من وقف إلى جانب الثورة منهم دفع ثمناً باهظاً فهشمت أصابع الرسام، وانتزعت حنجرة المغني، وفُقئت أعين المصور!

وعلى الرغم من أن الثورة مدعوة إلى الحفاظ على موروثها الثقافي والإبداعي؛ إلا أنها تكنس في طريقها ليس سلطة الاستبداد فحسب، بل وكل مفرزاتها البالية، السياسية والاجتماعية والثقافة والفنية، التي كانت تعيق تطورها ورسوخها فالثورة-بهذا المعنى- غربال يهّز البلد ليصطفي أفضل مافيها، متخلصاً من شوائبها؛ فمن طبيعة الثورات إفساحها المجال واسعاً لكل دمامل المجتمع وأوساخه أن تطفو على السطح، وربما هذا هو السبب الذي يجعل أشباه المثقفين والفنانين يتمّسكون بالسلطة القائمة، ويخافون المستقبل؛ فما يخشاه أشباه الفنانين وقليلو الموهبة، في ثورة مثل الثورة السورية، أو أي ثورة مماثلة، هو أن تنتج دولة حقيقية، تحترم الحرية والقانون وحقوق الإنسان. إنهم يخشون حتى هذا الاحتمال؛ لأنه لن يكون لهم أي دور في تلك الدولة الجديدة التي سيكون فيها الفنان نجماً بمواهبه وجهده الشخصي.

الفن في الثورة السورية:

[In reply to حازم بكار]
شهدت السنوات الأخيرة حراكاً ثقافياً محدوداً؛ لكنه راكم قيماً ومفاهيم عامة؛ تزامناً مع ثورة الكرامة والتحولات الدولية الكبرى، التي لم تصل إلى غاياتها المطلوبة بإحداث تحول مجتمعي تاريخي؛ باعتبار أن للثقافة دورها في نقد السياسة، وليست بديلاً عنها، وهو ما أسس بمعنى ما لأن تمتلك أجيال جديدة وعياً حركياً مدّ الثورة بوقود استمرارها وغضبها على واقعها …حتى الموت والشهادة.

ثمّة وعي معرفي تبلور قبل الثورة قائم على الحرية والكرامة الإنسانية والتعدد وقبول الآخر ومختلف قضايا حقوق الإنسان الأخرى؛ ما كان لها أن تبرز وتشكل دافعاً للكثيرين للثورة لولا أنها تسربت في طبقات المجتمع الكتيمة (ولو بشكل محدود)التي ماكان النفاذ لها ممكناً لزمن طويل !!!

وهنا لابد من التفريق بين الثقافة والايديولوجيا؛ باعتبار أن الأولى منفتحة على أسئلة الحياة واستحقاقاتها؛ بينما الثانية منظومة مغلقة ونهائية تفسر الواقع كما تراه هي وكما تريده وليس كما هو.

من المبكر الحديث أو القول بأن الثورة السورية أكملت أو بدأت ببلورة مشروعها الثقافي الخاص بها فذلك يحتاج إلى زمن تتبلور فيه المفاهيم وتستقر حالة المجتمع وتيارته المتعددة المتصارعة، أو المتباينة عطفاً على صراع اجتماعي وسياسي، يبقى فيه جدل الإنسان قائماً وعلى مستويات عديدة.

الخلاصة:
اليوم مع دخولنا زمن الثورات، بدأ عصر جديد يحمل ثقافة سياسية جديدة؛ وما الثورات الحاصلة اليوم إلا التجسيد الأولي لتلك الثقافة الجديدة التي يحملها الشباب العربي من الخليج إلى المحيط، ومن سمات هذه الثقافة أنّها ليست بالفكر النخبوي أو السياسي النظري أو الإيديولوجي، كما أنّها شعبية وواقعية وعملية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top