طوفان الأقصى: السكوت في موضع البيان بيان

طوفان الأقصى: السكوت في موضع البيان بيان

تعالت أصوات حرة من دول إسلامية وغير إسلامية، مندّدة بما يتعرض له إخواننا في قطاع غزة. فتحدّث دعاة ومؤثرون، ساسة وممثلون، تحدث الصغير والكبير… لكن لم يقدم واجب النصرة كل من لزمه ذلك. وليس الحديث في هذه الورقات، عمن باع دينه أو كرامته، فناصر المحتلين، وخذل المستضعفين. وإنما الكلام عمن ظنّ المؤمنون به خيرا، وانتظروا دعمه ورفع الهمم بكلامه؛ فخذلهم، واختار السكوت. فهل يسعه ذلك؟ وهل من مبرر لفعلته تلك؟ إذ لم نسمع عددا من الدعاة والعلماء ينصرون إخوانهم في الحرب الواقعة عليهم.

فهل سكوت بعض العلماء والدعاة من الحكمة؟

هل هؤلاء هم علماء السلطان الذين جاءت الآثار بذمهم؟

أليس السكوت في موضع البيان بيان؟

لأجل ذلك تأتي هذه المقالة لتسلط الضوء على حال بعض المنتسبين إلى الدعوة والعلم الشرعي، خصوصا ممن ينتمون إلى الجهات والمؤسسات الرسمية في البلدان العربية، وكيفية تفاعلهم مع الحرب التي يقودها الكيان المحتل على أهل غزة. وليس هدف المقال؛ محاسبة النيات ولا الشق عن الصدور.

من المؤكد أن الجانب السياسي في تاريخ أمتنا، لم يأخذ نصيبه الكافي من الدراسة، كما هو شأن علوم الشريعة كالفقه وعلوم القرآن. فرغم التأليف في السياسة الشرعية وتضمين مباحثها في كتب الفقه، أو استقلالها في المصنفات. إلا أن الوعي السياسي في بعده الاجتماعي لم ينضج لدرجةٍ جعلت من عامة المسلمين مأثرين فيه. بل إن قصارى ما تفاعل معه المسلمون بمختلف طوائفهم، هو المشاركة في الثورات السياسية ذات الخلفية العقدية الفكرية في بعض الأحيان.

وليس المقصود بما سبق، التقليل من قدرة العقل الإسلامي، ولا من الفرد المسلم داخل دولته. وإنما حال المسلمين -قديما وحديثا-، انعكاس لزهدهم في السياسة عموما. وذلك لأسباب كثيرة ناقشها مفكرون معاصرون. إذ يؤكد في هذا السياق الدكتور عبد الكريم بكار، على أن تاريخ أمتنا عانى ضعفاً تنظيرياً وفقهياً في المجال السياسي، بينما عاشت الأمة حركية ثورية مترددة على مر تاريخها.

قد يبدو من المتناقضات أن الفقه ضعيف سياسيا، بينما الواقع ثري بالانتفاضات والثورات. ومما يعين على رفع هذا اللبس، حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال وهو الصادق المصدوق: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.. وقوله أيضا: “أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكًا ورحمة، ثم يتكادمون عليها تكادم الحمر، فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان” . وكذلك: “خلافةُ النُّبوَّةِ ثلاثون سنةً، ثم يُؤتي اللهُ الملكَ مَن يشاء”.

إذ تشير هذه الأحاديث وغيرها، إلى الوضع السياسي الذي عاشته وتعيشه الأمة بعد انفراط عقد الخلافة الراشدة. وهو الموسوم بالظلم والجبر والاعتداء. لكن لا ينفي هذا ظهور استثناءات صالحة وسط هذا الاستبداد المسترسل. كمعاوية رضي الله عنه، وعمر بن عبد العزيز رحمه الله وغيرهم. مع الوعد بصلاح الأمر السياسي بعودة الخلافة الراشدة في الوقت الذي يأذن الله، فما علينا إلا العمل لأجل ذلك الوعد.

والأكيد، -كما تطالعنا كتب تاريخنا- فإن المحن والاقتتال لا يقتصران على زمن معين، بل بدءا بمقتل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، مرورا بصِفِّين والجمل، وصولا إلى حالة الاستعمار التي عايشتها الشعوب الإسلامية قبل قرن وأكثر، والتي لا تزال تعيشها فلسطين الأبية.

ففي ظل هذا التوصيف المختصر للحال السياسية للأمة عبر تاريخها، وفي ظل الأوضاع التي تعيشها بلاد الشام عامة، وغزة فلسطين خاصة. يمكن أن نتساءل عن دور العلماء والدعاة والمؤثرين في نصرة قضية فلسطين، عقب معركة طوفان الأقصى التي لا تزال مستمرة إلى وقت كتابة هذه الكلمات.

بيّن الله تعالى في كتابه العزيز منزلة العلماء، قال تعالى: ” يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ” (المجادلة: 11). وقال عليه الصلاة والسلام: “فضل العالِم على العابد كفضلي على أدناكم” . فلا تخفى منزلة العلماء والدعاة والمبلِّغين عن الله ورسوله، والموقعين عنهما في الإسلام. فالعلماء ورثة الأنبياء كما صحت به الأحاديث. لذلك لا يمكن ابتداءً أن يتصور المسلم العامي عالما موافقا على ظلم أو متوافقا معه. لكن حينما تطالعنا أحاديث نبوية صحيحة مخيفة، في شأن بعض العلماء الذين يداهنون الظلمة، يتبين حينها أن العلم لا يعني النجاة، ما لم يكن فيه حظ من العمل.

والمطالع لتاريخ أمتنا، يصادف لا شك أحداثا تبيّن انحياز بعض العلماء للطغاة من الحكام. كما توضّح بجلاء ثبات آخرين ممن خلَّد الله ذكرهم. كما في محنة الإمام أحمد رحمه الله وفتنة خلق القرآن. حين نُسِي عدد من العلماء الذين أخذوا بالرخصة حينها، فلا يعرفهم إلا المتخصصون. وما لُقِّب العز بن عبد السلام بسلطان العلماء إلاّ لقوته في الحق ونصرته له، وثباتهِ أمام سلاطين عصره. فكيف يميل طرف إلى الحق بينما يحابي الحكامَ علماءُ آخرون؟

إن الخطير في المسألة هو ما تشير إليه آيات بينات وأحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا السياق. يقول ربنا تبارك وتعالى: ” وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” (الأنفال: 46). فما بال بعض العلماء والدعاة اليوم خُرِّصت أفواههم نصرة لإخواننا في غزة! فلم يجاهدوا بكلمة الحق، بل سكوتهم مساهمة في إفشال وذهاب ريح المؤمنين المرابطين.

والأكيد أن الجماهير رغم استغراقها في التفاهة، إلا أنها وقت الأزمات، تتوجه نحو القدوات، وتنتظر توجيههم والأخذ بأيديهم. فما درجة الإحباط التي يشعر بها الناس، حينما لا يروا لعالِمٍ نصرة! والخسارة أن تسقط تلك القدوات من أعين الناس. فلا يسمع لهم بعدها إن هم أرادوا النصح في مواطن أخرى.

وقد صح في الأثر قول النبي الأغر: ” من أتى أبواب السلطان افتتن” . وأيضا ” إياكم وأبواب السلطان، فإنه قد أصبح صعبا هبوطا” . فمما تشير إليه هذه الأحاديث وغيرها؛ خطورة محاباة السلطان، وما يترتب على ذلك، من اتباع أوامره واجتناب نواهيه. فيصير العالِم إما بوقا للحاكم، أو عبدا مطيعا له. وليس الحديث عمن تأول السكوت من العلماء، أو من صلُحت نيته وفسُد عمله. فلا شأن للمسلم بنيات الغير.

إن تحليلا يسيرا لهذه الظاهرة القديمة الحديثة، وبناء على واقع تطبيع كثير من الدول الإسلامية مع الصهاينة سرا وعلنا، وانطلاقا من وجود هامش مهم لحرية التعبير في أغلب دول عالمنا الإسلامي، يتضح أن سكوت عدد من العلماء، وخصوصا ذوي الانتساب إلى الجهات الرسمية؛ لا مبرر لهم في سكوتهم، بل هو محض خذلان. لأن من تكلم ونصر إخوانه في غزة لم يسجن ولم يعذب. فلم السكوت إذا. وهَب أن هذا العالِم لا يوافق حركة حماس في توجهاتها، فهل من عذر في السكوت على آلاف القتلى والجرحى، وهل في هذه الحرب الصهيونية-الصليبية اختلاف في وجهات النظر!!

لو عدنا مرة أخرى إلى التاريخ المشرّف للعلماء، لوجدنا أن أبا حنيفة ضُرب وسُجن، وكذلك مالك وأحمد، وسُلسل الشافعي، وسجن ابن تيمية وجَمّ غفير من نجوم هذه الأمة عُذبوا وقتلوا رحمهم الله ورضي عنهم. وكذلك اليوم سجون بعض الدول الإسلامية مليئة بالعلماء والدعاة، لقولهم كلمة الحق وتقديم النصح والإرشاد. فأين هؤلاء من أولئك؟!

إن الواجب تجاه أهل غزة وفلسطين، وسائر بلاد المسلمين التي يقع عليها الظلم، سواء كان المسلم عالما أو عاميا؛ نصرتهم والدعوة إلى ذلك، فليس من المسلمين من لم يهتم لأمرهم. وقد سئل عليه الصلاة والسلام أيُّ الجهادِ أفضل، قال: ” أفضلُ الجهادِ كلمةُ عدلٍ عند سُلطانٍ جائرٍ – أو أميرٍ جائرٍ -“، فما داعي السكوت إن لم يمنعكَ سلطان عن قول الحق. أهو قلة وعي بواقع الأمة، أم خذلان وتمايز للباطل عن الحق. وقد تقرر عند الأصوليين؛ أن السكوت في معرض البيان بيان، والله المستعان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top