Search

سوريا والثورة المضادة

بعد ثورات الربيع العربي، شهدنا كيف أن الأنظمة الساقطة بدأت بمحاولة الالتفاف على مكتسبات الثورات التي أطاحت بها، عبر ما يُسمى “الثورات المضادة”. كانت هذه المحاولات موجودة في جميع بلدان الربيع العربي، مع اختلاف في شكلها استناداً إلى طبيعة كل بلد ونظامه السياسي.

وإذا أردنا أن نكون أكثر موضوعية، فعلينا أن نعلم أنه لم يتم إسقاط الأنظمة، بالمعنى الفعلي، في جميع تلك البلدان. فما حصل في مصر مثلاً لا يشير إلى ذلك قطعا؛ فكل ما هنالك أنه تم إسقاط رأس النظام في حينها – محمد حسني مبارك – فيما بقي جميع أركانه في مواقعهم، وأقصد هنا بالخصوص قواه الصلبة في الجيش والأمن، والتي تشكل نواة كل “ثورة مضادة” مستقبلية.

وحينما حاول الرئيس المصري الراحل محمد مرسي تغيير مسؤولي بعض المناصب، شاهدنا كيف تم اتهامه بـ “أخونة الدولة” عبر حملة إعلامية مركزة وشرسة. وبعدها تكللت محاولات أركان النظام بانقلاب عسكري أطاح بأول رئيس منتخب في تاريخ مصر.

مع وجود بعض أوجه الاختلاف، حصل مثل هذا في الجزائر والسودان، وشيء قريب منه قبلهما في اليمن.

أما في ليبيا، فالوضع يختلف إلى حد ما. مع تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، انهار نظام معمر القذافي، وبرزت محاولات لإعادة تشكيل جيش جديد من الفصائل الثورية. غير أن تدخل قوى دولية أخرى أسهم في إعادة إحياء بعض فلول نظام القذافي، مثل جماعة الضابط السابق خليفة حفتر. ومن هنا، تمكنت “الثورة المضادة” من إثارة الفوضى، مما أدى إلى انقسام حاد في هذا البلد الشاسع، الذي بات يرزح تحت وجود حكومتين: الأولى في العاصمة طرابلس، والثانية في الشرق، وتحديداً في بنغازي.

فما هي احتمالات الثورة المضادة في سوريا؟

في النظر إلى القوى التي تتقاسم السيطرة على سوريا قبيل سقوط نظام الأسد، نجد تقريباً سبع قوى تتمثل فيما يلي:

  1. الجيش الوطني: يسيطر على أقصى الشمال في المنطقة الممتدة من عفرين إلى جرابلس، ومن تل أبيض إلى رأس العين. وتتشكل قواته من بقايا “الجيش الحر” ومكونات أخرى، ويحصل على دعمه من تركيا بشكل مباشر.
  2. هيئة تحرير الشام: تسيطر على شمال غرب سوريا، وتحديداً مدينة إدلب وأجزاء من ريفها وأرياف حماة واللاذقية وحلب. وتتشكل من اتحاد فصائل “إسلامية جهادية” سابقة كجبهة النصرة وحركة نور الدين الزنكي وأجزاء من حركة تحرير الشام وغيرهم. وتمويلها يأتي من تركيا وقطر ومشاريع ذاتية.
  3. قوات سوريا الديمقراطية – قسد: تسيطر على أكثر من ربع سوريا في المناطق الغنية بالنفط والزراعة في الشمال والشمال الشرقي. قوتها الرئيسية وقادتها هم من “حزب العمال الكردستاني (PKK)”، وتقوم الولايات المتحدة بالإشراف على تمويلها وتدريبها، وتحالفت مع النظام في عدة معارك ضد قوى الثورة، أهمها في 2016 عند حصار حلب.
  4. جيش سوريا الحرة: متواجد في الجنوب الشرقي على المثلث بين سوريا والعراق والأردن، ويقوم بتأمين قاعدة التنف التابعة للتحالف الدولي هناك. وتمويله وتدريبه أمريكي خالص. ويتألف من عناصر مناهضين للأسد ولكن ذوو “هوى أمريكي” خالص.
  5. نظام الأسد: يسيطر “ظاهرياً” على ثلثي سوريا كما مبين في الخريطة باللون الأحمر، وتنضوي تحته عشرات الفصائل الشيعية بالإضافة إلى جيشه. وتدعمه إيران وروسيا بشكل كبير.
  6. حركة رجال الكرامة: متواجدة في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية في الجنوب، وتتألف من عناصر محلية “درزية” معارضة للنظام بتمويل ذاتي وأسلحة خفيفة.
  7. الفيلق الخامس: المتواجد في محافظة درعا في الجنوب، والذي يحتوي على فصائل ثورية سابقة كانت مدعومة من غرفة عمليات “الموك” التي تضم الولايات المتحدة ودولاً أخرى. ولكن بسبب حملة نظام الأسد وحلفائه على المنطقة في عام 2018 وقطع غرفة الموك الدعم عنها، أعلنت استسلامها ورفض قسم منها المصالحة مع النظام وفضل الهجرة إلى الشمال، فيما بقي قسم آخر في المنطقة وانضم إلى الفيلق الخامس الذي يتلقى الدعم بشكل رئيسي من روسيا.

كما يوجد بقايا من فلول داعش في البادية السورية.

مع انطلاق معركة تحرير سوريا (ردع العدوان) بتاريخ 27 تشرين الثاني 2024، وبدور محوري لكل من هيئة تحرير الشام والجيش الوطني، شهدت خريطة السيطرة في سوريا تغيراً جذرياً. فقد تم القضاء على نظام الأسد وحلفائه، بينما خسرت قوات سوريا الديمقراطية أجزاءً واسعة من المناطق التي كانت تحت سيطرتها في شمال غرب سوريا، كتل رفعت ومنبج.

وبالنظر إلى المشهد السوري الراهن، يمكننا استبعاد سيناريوهات مصر وتونس والجزائر بكل وضوح، إذ إن النظام قد سقط فعلياً وتم تفكيك هياكل قواه الصلبة. ومع ذلك، يبقى الاحتمال الأقرب هو تكرار المثال الليبي، خاصة مع استمرار وجود قوى متباينة ومتعارضة على الساحة.

إذن، من يمكن أن يكون “حفتر سوريا”؟

قوات “هيئة تحرير الشام” و”الجيش الوطني” هما الطرف المنتصر في هذا المشهد. أما “رجال الكرامة”، فقد أعلنوا تحالفهم مع الثورة وقوات الشمال منذ فترة طويلة، ولا يسمح عددهم أو إمكانياتهم بمثل هذا التحرك، إذ سيعرضهم وبيئتهم المحلية لخطر كبير.

أما “الفيلق الخامس”، وخاصة “اللواء الثامن” بقيادة أحمد العودة، فهناك شكوك حول دوره. حيث تم تداول تقارير مؤخراً عن محاولات بعض الدول العربية، مثل الأردن والإمارات، لدفع هذه القوات نحو السيطرة على دمشق قبل أن تصل قوات “إدارة العمليات العسكرية” من الشمال. ومع ذلك، تظل هذه القوات محدودة التدريب والعدد، ما يجعلها غير قادرة على قيادة ثورة مضادة.

وينطبق هذا أيضاً على “جيش سوريا الحرة”، الذي يفتقر إلى القوة الكافية لتشكيل تهديد فعلي على الوضع القائم.

يبدو أن “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) قد تكون المرشح الأقرب لقيادة أي تحرك مضاد، مستفيدة من دعم فلول النظام الساقط ومن التنسيق الإقليمي مع بعض الأطراف الدولية.

في هذا الإطار، أشار الخبير الأمني محمود إبراهيم، في منشور عبر فيسبوك، إلى معلومات استخباراتية تؤكد وجود الآلاف من عناصر “الفرقة الرابعة” و”الحرس الجمهوري”، وهما أبرز تشكيلات جيش النظام المخلوع، في شمال العراق بعد فرارهم من سوريا. كما قال:

“… هناك مجموعات مسلحة خاصة تعمل على 3 جبهات:

الأولى: الساحل السوري (مجاميع من آل أسد وغزال ومخلوف عددهم أقل من 1000 في جرود القرداحة).

الثانية: ميمنة الجزيرة السورية (سرب من بقايا الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري يقارب عددهم 4000 تم تسليحهم بإشراف جهاز مكافحة الإرهاب في سليمانية).

هؤلاء لديهم مهمة عمليات بفتح طريق على مدى أشهر، هدفه النهائي وصل شمال دهوك بالجزيرة السورية عُمقاً حتى شرق حلب “خط عسكري على محور شمال / تل تمر / عين عيسى / منبج / دابق”.

الثالثة: الجنوب السوري بدعم عشائر “سنية + درزية…”.

هذا السيناريو يعزز الفرضية التي تشير إلى أن قسد، بمساندة فلول النظام وبدعم إيراني مفتوح نتيجة الاتصال الجغرافي، قد تكون القوة المحورية في أي تحرك مضاد. وربما يضم هذا التحالف قوات “اللواء الثامن” وبعض الفصائل الدرزية، مع استبعاد مشاركة “رجال الكرامة”.

ومع ذلك، يواجه هذا التحالف عقبة كبرى تتمثل بتركيا، التي لن تسمح، وفق جميع المؤشرات، لعدوها التاريخي بتحقيق أي مكاسب مهما كان الثمن، ما يجعل أي مشروع مضاد محدوداً في طموحاته.

الخلاصة:

سوريا ليست كغيرها من الدول العربية، ووضعها الخاص يجعل من سيناريو “الثورة المضادة” مستبعداً إلى حد كبير. وفي أفضل الأحوال، قد تسعى الأطراف المعادية للثورة إلى إثارة بعض الاضطرابات المؤقتة، كتلك المظاهرات الطائفية التي قادتها شخصيات إيرانية بالتعاون مع عناصر من النظام البائد. هذا النوع من التحركات يمكن اعتباره محاولة أخيرة للهروب من العدالة من قِبل تلك الشخصيات المتورطة في جرائم إبادة عبر إثارة الفوضة، ومحاولة لاستعادة بعض الفُتاة بعد الخسائر المتتالية التي تلقتها إيران وحلفاؤها مؤخرا.

عبد الرحمن الناصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top